ما ظنكم بصبي في الحادية عشرة من عمره يلعب رفقاؤه الكرة في الهواء الطلق,بينما يحبس هو نفسه في المعمل مجريا بعض الابحاث الصغيرة على انواع من البكتريا البدائية,ويفتنه سلوك الفيروسات التي تصيب انواع البكتريا فقط ,مجبرة اياها على انتاج المزيد من تلك الفيروسات عن طريق التلاعب في جينومها الوراثي ؟

قد يتنبا البعض بان هذا الصبي سيغدو في الاغلب عالما مجددا ,وقد صدق حدسهم,فهذا الصبي هو العالم والطبيب الالماني الحاصل على جائزة نوبل في الطب هارالد تسورهاوزن.

كان الخامس من ديسمبر لعام 2006 هو اليوم الذي كللت فيه مجهودات بروفيسور هارالد تسورهاوزن لاكثر من ثلاثين عاما بالنجاح ,ففي هذا اليوم تقرر اعتبار المصل المضاد لفيروسات عنق الرحم الذي ابتكره ضمن التطعيمات الفعالة المعترف بها في المانيا.

شغل تسورهاوزن منصب مدير مركز ابحاث السرطان الالماني ضمن مناصب عدة تبواها طيلة حياته كاستاذ جامعي ,وقد نشر بحثا عام 1976 يشتمل على نظريته الجديدة بان نوعا معينا من الفيروسات يلعب دورا رئيسا في تكون سرطان عنق الرحم,مخالفا بذلك التيار السائد بين كبار علماء الطب في ذلك التوقيت, والقائل ان الفيروسات لا علاقة لها بالسرطان فضلا عن كونها احد اسبابه!.

وبعد مرور اكثر من ثلاثين عام من العمل المضني والشاق لاثبات صحة نظريته ,ثبت بما لايدع مجالا للشك للعلاقة الوطيدة بين الاصابة بالفيروسات والسرطان.

وقد حصل تسورهاوزن على جائزة نوبل في الطب لعام 2008 بالمشاركة مع عالمين اخرين عن عمله في اكتشاف (فيروس الورم الحليمي البشري human papiloma-virus)المسبب لسرطان عنق الرحم , الاكتشاف الذي ساعد على تصنيع امصال مضادة للفيروس وانقاذ حياة ملايين من النساء في جميع انحاء العالم.

ويحدثنا تسورهاوزن عن الفيروسات المسببة للسرطان واهتماماته العلمية الشخصية في الوقت الحالي :

سؤال:بروفيسور تسورهاوزن لقد حصلتم على جائزة نوبل في الطب عن اكتشافكم للفيروس المسبب لسرطان عنق الرحم ,وقد ساعد ذلك على ايجاد المصل الواقي من ذلك الفيروس مما انقذ ملايين من النساء من خطر الموت في سن مبكرة .فهل هذه هي البداية لتصنيع امصال مضادة لانواع اخرى من السرطانات ؟؟

–لدينا بالفعل حاليا تطعيم ضد فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي B.ولكن هذا التطعيم ليس موجها ضد الاصابة بسرطان الكبد وانما ضد الفيوس المسبب للمرض نفسه ,وهذا الفارق بينه وبين التطعيم ضد الفيروس المسبب لسطان عنق الرحم.

سؤال:ماهي انواع السرطانات الاخرى التي تسببها الفيروسات ؟

–يمكننا حاليا القول ان 21%من انواع السرطانات على المستوى العالمي يمكن ارجاعها الى العدوى بفيروسات مختلفة.

سؤال:الا يلعب التكوين الجيني للفرد الدور الرئيسي في عملية الاصابة بالسرطان ؟؟

–بالطبع,ولكن هذا لايتعارض مع القول ان الاصابة بالفيروسات تتسبب ايضا في الاصابة بالسرطان.ففي العادة ياتي التحور الجيني في الخلايا متزامنا مع الاصابة بالفيروس.لكن هذا التحور يستغرق وقتا طويلا بين 30 و60 عاما في بعض الاحوالليتحول الى سرطان ظاهر.وعلى هذا يتحول علماء المناعة والفيروسات الى مختصين بطب السرطان ,وانا شخصيا اعتبر نفسي طبيبا وعالم فيروسات.

سؤال:هل يعني ذلك انك كنت تتعامل مع مرضى السرطان مباشرة اثناء عملك على ابحاثك ؟

— لا ليس كطبيب ,لكنني اهتممت بابحاث السرطان ومكافحته كمرض اكثر من اهتمامي بنوع معين من من الفيروسات .وسرعان ما اتضح ان هناك انواعا من الفيروسات تصلح لبحثها كمسبب للسرطان.

سؤال:هل كان صعبا استغراق كل هذه السنوات لحمل الناس على التصديق بنظريتك الجديدة؟

–بالطبع كان ذلك صعبا ,فحتى عام 1987_اي بعد مروراكثر من عشرة اعوام على نشر بحثي الاول_حين قابلت البرت سابين (ابو تطعيم شلل الاطفال)في احد المؤتمرات وسمع بنظريتي ,هز راسه نافيا وجود صلة بين الفيروسات والسرطان.
وثبوت هذه الصلة فيما بعد هو الجائزة التي حصلت عليها من عملي .اما ما آلمني حقا فهو وفاة مئات الالاف من النساء سنويا نتيجة المرض قبل انتاج المصل المضاد,لان شركات الادوية لم تهتم في البداية بانتاج مصل مشكوك في صحة النظرية القائم عليها.

سؤال:لقد تنقلت اثناء حياتك العملية طويلا بين الولايات المتحدة والمانيا ,فما هي الدولة التي يمكن ان نعزو اليها الفضل في انجازك؟

–الفضل يمكن تقسيمه على الدولتين ,فقد قمت باجراء اجزاء من ابحاثي في الولايات المتحدة اثناء وجودي هناك واستكملتها في المانيا.

سؤال:هل يعني ذلك ان البحث العلمي لا يقتصر على دولة بعينها؟

–هذا صحيح ,فالبحث العلمي لاوطن له.وطن البحث العلمي هو حيث تتوفر البيئة الملائمة والمناخ المشجع على الانجاز.
ولكنني انصح زملائي من الباحثين الصغار بان يسافروا الى الخارج لفترة حتى لا يتعرضوا لخطر الانغلاق والتقوقع على انفسهم في ابحاثهم العلمية ,ومن ثم يفقدون صلاتهم بالخبرات العالمية في المجال نفسه.

سؤال:هل احسست يوما بان مسؤلياتك الادارية كمدير لمركز ابحاث السرطان الالماني قد اثرت على ابحاثك كعالم وحياتك كرب اسرة؟

–انا بطبعي استيقظ دائما في الخامسة صباحا وابدا عملي على الفور ,بينما تبقى فترة المساء مخصصة لعائلتي .
وقد ساعدني ذلك كثيرا على الانتهاء من كثير من مسؤلياتي الادارية مبكرا .كما انني لم اسمح ابدا لتلك الاعمال الروتينية بان تاخذني من من عملي كباحث وعالم,فقد حرصت دائما على التواجد في المعمل يوميا ,ان لم يكن بالعمل الفعلي ,فعلى الاقل بمناقشة النتائج ووضع خطط العمل مع زملائي من الباحثين ,حتى لو تطلب ذلك التضحية ببعض مهامي الادارية والاسرية.

سؤال:
ما اخر ابحاثك في مجال مكافحة السرطان؟

–ابحث حاليا طرقا علاجية جديدة ,فبعد تعرفنا على الجزيئات المسببة للسرطان ,نبحث حاليا كيفية تقييدها وكبح جماحها بشكل منظم.

سؤال:هل العلاج الجديد مرتبط بالجينات؟

— كلا انه اقرب الى علاج كيميائي يعتمد على الجزيئات,فلكي نتمكن من تقييد الجينات التي تتسبب في تحول الخلايا الى خلايا سرطانية,يجب علينا تحديدها وعزلها اولا ,وهذا لم يحدث بعد.
اما في مجال الجزيئات فنحن اكثر تقدما ,وقد تمكنا بالفعل من التعرف عليها وتحديدها ,لذا فقد واصلنا ابحاثنا في هذا المجال

_________________
نقلا عن (مجلة العربي العلمي)