يزعم كتاب (دين رادين) الجديد بأنَّ الأدلّة العلمية على قدرات البشر الخارقة للطبيعة قد أصبحت ذات كميّة مهولة. حيث يعتمد رادين على التحليل التجميعي والتحريفات في النتائج المنشورة لإنتاج أعداد دخيلة موثوقة تعمل ضدّ نفس المعتقد الذي يحاول تبنّيه.

كلنا نرغب بقوى الخارقة، ولا أعتقد بأن هنالك شخصاً لم يكُن يُغلق عينيه ويتواصل مع كائنٍ عشوائي عندما كان طفلاً، آملاً أن يعطيه ذلك الكائن “القوّة الخارقة” الموجودة بين يديه. وبينما توقّف معظمنا عن محاولة إثبات وجود القوى الخارقة للطبيعة، لم يكفَّ أيٌّ منّا عن “تمنّي” امتلاكنا لها. وبنفس تلك الروح الطفوليّة، يحاول كتاب دين رادين ببسالة عن محاولة إثبات تلك القوى، إنه كتاب (الخارق للطبيعة: العلم، اليوغا، والدليل على وجود القدرات النفسيّة الإستثنائية)، رادين يستخدم “العلم” ليُعيد إحياء إيماننا بالقوى الخارقة الكامنة فينا. غير أنّه يفشل في ذلك نتيجةً لتوجّهه للتطبيل للنتائج المبهرجة عِوَضاً عن العقلانية، تاركاً القارئ المحب للاستطلاع في حيرة بشأن ما ينبغي الوثوق به وما ينبغي تجاهله.

أغلب من يتوجّهون لهذا الكتاب يبحثون عن الدليل الموعود به في العنوان. ولكن، لسوء الحظ، سيتوجّب عليهم الإنتظار، لأن الثلث الأوّل من الكتاب هو بالدرجة الأساس عبارةٌ عن رثاءٌ طويلٌ جداً حول قلة الإعتراف بالباراسايكولوجي (الروحانيّات) من قبل المجتمع الأكاديمي ورفضه من قبل المشكّكين. حيث عُرضت علينا مائة صفحةٍ يقول فيها رادين بأنَّ المشكّكين مخطئون، بدلاً من أن يُبيّن أنّهم كذلك وبدل أن يبين خطأهم الذي يراه، مع وعودٍ متكرّرةٍ على أنّه سيصل بالقارئ إلى البرهان فيما بعد! ولو أنّه أعاد تسمية الكتاب الى “عشرات الصفحات لتسقيط مايكل شيرمر [1]، تليها بعض الأدلّة حول اليوغا” لكان قد وفّر علينا الكثير من الوقت!

ولكن، في نهاية المطاف، يُبرئ رادين ذمّتهُ من امتعاضه المرير ويستعدّ لبدء العمل على تقديم الدليل الذي طال انتظاره! أو بالأحرى، اللادليل، لكونه يبدأ بتحليل لعمليّات “سيدهي العظيمة”، أي تلك التجلّيات في براعة استخدام اليوغا، والتي يبدو غير معقولة بالنسبة للأذن البشرية في الوقت الحالي، كالارتفاع في الهواء والتخفّي والتضاعف الذاتي. حيث ينطلق في الإجابة على السؤال المنطقي: إن كان بالإمكان اعتبار يوغا سوترا [2] مثالاً صادقاً على قدرات الجسم البشري الخارقة للطبيعة، فلمَ لا يمكنني إيجاد المئات من الفيديوهات في يوتيوب عن ممارسي اليوغا الذين يخفون أنفسهم في أوضاعٍ مُسيطرٌ عليها؟

وجواب رادين هو أن تعليمات السوترا تُلزم معلّمي اليوغا بعدم التفاخر بإتقانهم لإجراءات سيدهي، خشية أن يؤثّر ذلك على أنّاتهم. لذا فهُم يرفضون إظهار براعتهم للحفاظ على أنفسهم من احتمال التعرّض للدَنَس. وهذا شيءٌ أنانيٌّ من الغرابة أن يفعلهُ مخلوقٌ من المفترض أن يهمّه تقليل معاناة البشريّة. وفي ظل مواجهته لإظهار قوة اليوغا للتغلّب على آلاف الصدمات الطبيعيّة للوجود الحي وبالتالي احتمالية مساعدة الملايين لنَيل حياةٍ أفضل، يختار ممارس اليوغا أن لا يفعل شيئاً حيال ذلك فقط لكي يحافظ على نقاء ذاته! وفي التحليل النهائي، يتبقّى لدينا اختياران فقط، إما أن تكون ممارسات سيدهي العظيمة حقيقيّةً بالفعل وأن ممارسي اليوغا مجرّد حمقى أنانيّون يُفضّلون نقائهم البديع بدلَ إعانة أقرانهم من البشر وذلك للحفاظ على سرّية عملهم، أو أنها ليست حقيقيّة وأن ممارسي اليوغا هؤلاء هم ببساطة عبارةٌ عن دجّالين ومخادعين. وفي كلتا الحالتين لا يبدو هذا جيّداً بالمرّة.

في الواقع أن الدليل الذي تم تحليله بصورةٍ إحصائيّة لا يأتي إلا بعد ثلاثين صفحة لاحقة، وذلك في فصل كتاب رادين حول الاستبصار (رؤية المستقبل). حيث يعرض، وبشكلٍ مباشر، دراسةٌ من المفترض أنها توضّح وجود تأثيرات الإدراك الفائق للحواس (PSI)ـ [3] باحتماليّة عدم حدوث [4] بنسبة عشرة ملايين مليار مليار (1015) إلى واحد! وباستثناء عدم كونها دراسة، فهي تحليلٌ تجميعيٌّ تم إجراؤه في عام 1989 بواسطة (تشارلز هونورتون [5]) و(ديانا فيراري [6]) حيث أخذا فيها كل الدراسات المتعلّقة بعملية الإدراك بالإختيار الإجباري (نفس ما حدث في تجربة الممثل بيل موراي في المشهد الأول من فيلم صائدي الأشباح Ghostbusters ولكن من دون صدمات كهربائية) ما بين عامي 1935 و 1987 وجمعاها كلّها في دراسةٍ واحدةٍ عملاقة. لقد كنتُ مفتوناً بالعدد الكبير للغاية الذي اقتبسه رادين، لذلك فقد بحثتُ عن الورقة الأوّليّة ووجدتُ أن التوضيح الذي أجراه رادين قد أهمل فيه عدداً من المحاذير الهامّة الموجودة في الورقة الأصلية.

على سبيل المثال، فإن الدراسات التي تم تجميعها من قبل (هونورتون) و (فيراري) كانت، وحسب اعترافهما، “متباينة بحِدّة” حيث أن الدرجات القياسية (z-scores) [7] لها تتراوح من -5.1 (ترابط سلبي حاد) الى 19.6 (ترابط ايجابي حاد). كانت النتائج موجودة في جميع أنحاء المخطط، مع وجود بعض القيم المتطرفة غير المعهودة للغاية. وهذا ما جعل مؤلّفَي الورقة البحثية منزعجَين، فقاما على مسؤوليتهما بإزالة 10 بالمئة من أعلى وأسفل بياناتهم ليحصلا على فكرةٍ أفضل مما خرجت به أغلب الدراسات. فينتُج عن هذا تأثيرٌ ضئيل إحصائياً. يبدو هذا الرقم صغيراً للغاية لإثبات وجود الإدراك الفائق، ولكنّه لا يزال مهمّاً. المقلق في الأمر هو حقيقة أنَّ رادين قرّر عدم الإفصاح عنه، ولكنّه قام بالإفصاح عن جزء من النتيجة من البيانات المتباينة بحِدّة. لماذا يُهملُ ناتجٌ مؤثّرٌ لكنه أيضاً مثيرٌ للفضول، لصالح ناتجٍ أكبر حتى المؤلّفين نفسيهما كانا قلقين حياله؟ وإذا كانت هذه هي الطريقة التي يورد بها البيانات من الدراسات المتوفّرة بسهولة، فكيف بإمكاني أنا، كقارئٍ يحاولُ أن يكتشف ما يقوله الدليل فعليّاً، أن أثق بالكامل بما يوردهُ من أرقامٍ للدراسات التي يعتمد عليها كمصادر والتي يصعب العثور عليها؟ مع دراسته الأولى القابلة للقياس إحصائياً، اختار رادين أن يُلقي بظلاله على كل الأرقام التي سيستمر بإيصالها، تلك الأرقام الأقل ضخامةً بكثيرٍ من عشرة ملايين مليار مليار (1015) الى واحد!

وفي نهاية المطاف، يقرّر رادين أنَّ اختبارات الاختيار الإجباري هذه غير ملائمةٍ للتحقّق مما يحدث فعلاً في حالة الإستبصار وينتقل إلى تجارب الإستجابات الحرّة [8]، حيث يُطلب من شخصٍ أن يصف موقعاً اختير بصورةٍ عشوائيّةٍ لشيءٍ يبعدُ عدّة أميال. فمن بين 653 اختباراً تم اجراؤها في برينستون، اختار مثالاً واحداً ليُبيّن مدى نجاح هذه الإختبارات فقط. هذه هي جوهرته اللامعة، نموذجه المتلألئ لأفضل نتيجةٍ ممكنةٍ تمَّ الحصول عليها. وهذا ما يستحق أن نقتبسه بالكامل، لأنّه يتيح لنا معرفة ما تمَّ اعتباره “نجاحاً” في هذه الاختبارات، وبذلك يُخبرنا إلى أي حدٍّ يجب أن نثق بالإحتمالات المذكورة. هذا ما وصفه الشخص على أنّه الموقع المستقبليٌّ للشيء:

“صورةٌ غريبةٌ نوعاً ما ولكنّها متكرّرة لـ(شيءٍ) داخل وعاءٍ كبير، والذي هو عبارةٌ عن ارتفاعٍ نصفُ كرويٍّ في الأرض مع بعض المواد الصقيلة الصناعية كالخرسانة أو الإسمنت. ليست ذات لون. من المحتمل أنّها مغطّاةٌ بقبّةٍ زجاجيّة. إحساسٌ غريبٌ لما في داخله وخارجه بالتزامن. وهذا كل شيء. إنّه وعاءٌ كبير. لو كان مملوءاً بالحساء (الشيء) فسيكون بحجم قطعة حلوى زلابية كبيرة.”

يخبرنا رادين بالموقع الفعلي للشيء على أنه “التليسكوب الراديوي على قمّة (كيت بيك)”. تكمن المشكلة في أن هنالك أكثر من تليسكوب راديوي واحد على قمّة (كيت بيك)، وتبدو مختلفةً نوعاً ما عن بعضها البعض. الأكثر أهمّيةً من بينها هو التليسكوب الراديوي مديد القاعدة (VLBA telescope [9]) والذي يُديره المرصد الفلكي الراديوي الوطني، ولا يمتُّ بأيّ صلة تشابهٍ لكلّ ما ذكره الشخص. ولو أنّك قرّرت ان تستمر في التحرّي حتّى تصل للنتيجة التي تريدها، فستعثر على التليسكوب الراديوي ذو الـ12 متراً في كيت بيك KP12m الاصغر بكثير من الأول، والذي يُديره المرصد الراديوي في ولاية أريزونا الأميركية، وهو أقرب شيءٍ لما سيصل إليه رادين. حيث أنّه يتميّز بما يلي: (1) ليس هنالك أي نوعٍ من الإرتفاعات على الأرض، (2) يحتوي قبّةً قماشيّةً بيضاء قابلة للسحب، (3) ألوانه الابيض والفضي، (4) يوجد تليسكوبٌ عملاق بقطر اثنين وثلاثين قدماً مستقرٌّ في مركزه بالضبط. وبناءً على هذا، فإنّ جواب الشخص هو خليطٌ من تصريحاتٍ إيجابيّة من الواضح أنها خاطئة، وغيابٌ لأهم عنصرٍ يميّز المرصد (ألا وهو التليسكوب)، وتصريحٌ صحيحٌ نوعاً ما بشأن الشكل التقريبي للمبنى (لأنّه ليس نصف كرويٍّ من الناحية الفنّية، ولكن بإمكاننا التغاضي عن ذلك).

هذا ليس مثالاً اعتياديّاً تم اختياره عشوائيّاً من الدراسة، بل هو أفضل عيّنة منفردة من البيانات التي من الممكن أن يجدها رادين ضمن دراسةٍ تمتد على مدى عقدين من الزمن، وهو نوعٌ من الفوضى. إن كان هذا النوع من الأشياء هو ما بالإمكان تقييمهُ على أنّه نجاحٌ يتم التطبيل له بحفاوة، فلا عجب أن يخبرنا رادين باحتماليّة كبيرة لعدم حدوث شيء تصل الى ثلاثةٍ وثلاثين مليوناً إلى واحد. وطبقاً للاختبار الأميركي الموحّد الذي تعلّمته منذ عدّة سنواتٍ مضت، فإنَّ أفضل طريقةٍ لتحسين النتائج هي بإعادة تعريف مفهوم النجاح.

أمّا ما تبقّى من الفصل في كتاب رادين فهو عبارةٌ عن فهرسةٍ لدراساتٍ أخرى ذات انخفاضٍ مستمرٍّ في احتمالات عدم الحدوث، حيث يظهر فيه وضع للبيانات الملائمة في المقدّمة، نفس الشيء الذي يميل الصحفيّون لفعلهِ ولكن على العلماء أن لا يفعلوه. إن النقطة الأكثر أهميّةً في كل ذلك هي اختفاء أشرطة الأخطاء [10] في تمثيله البياني للبيانات. كل ما في الأمر هو أن رادين يُسرّ للغاية لإدراج تلك الأشرطة عندما يؤدّي وجودها إلى إظهار البيانات بصورةٍ جيّدة، كما هو الحال في تجاربه الخاصّة بموصّليّة الجلد، ولكن فيما بعد، يظهر فيها ميلٌ الى الاختفاء حينما يكون من الممكن أن يؤدي وجودها إلى إظهار البيانات بصورةٍ سيّئةٍ جدّاً، كما هو الحال في تجاربه المختبرية الخاصّة بالفص القذالي (الخلفي) من الدماغ. وهذا إغفالٌ غريب يزيد من ضُعفهِ، وذلك لعرضه وسائل استجابات أكثر من اللازم في هذه الرسوم البيانيّة حيث تكون قيم الوسيط الحسابي أكثر جدّيةً لو كانت أقل دراماتيكية.

إحدى المفارقات العميقة في هذا الكتاب هي أنّه يبدأ بنفس آلية الهروب الطويل من الإحباط بشأن استجابات المشكّكين للبيانات الباراسايكولوجيّة، ومن ثَمَّ يقضي القسم الأوسط بعمل كلّ ما من المحتمل أن يقوم شخصٌ بعمله ليثير استجاباتٍ تشكيكيّة، كتحريف بيانات التقرير، وتقليل معايير النجاح، ولعب لعبة مبتذلة نوعاً ما حول الكيفية التي تمَّ فيها تقديم المعلومات بثقةٍ صارمة. ولذا فإنّي أجد هذا الكتاب مزعجاً للغاية. أودُّ بشدّة أن أعرف ماهيّة البيانات، وما مدى مصداقيّتها. وأرغب بكلِّ سرورٍ أن أتلقّى نتيجةً ضئيلةً لكنّها مؤكّدة بدلاً من نتيجة أخرى أكبر ولكنّها مشكوكٌ فيها، ولكن، هنالك شيءٌ في الشخصية الاستعراضية داخل رادين والذي ينجذب نحو الصنف الأخير من النتائج، تاركاً القارئ – الذي يريد منه رادين أن يفكّر حول البيانات بدلاً من مجرّد قبول تفسير رادين لها – من دون شيءٍ ليستخلصهُ من التجربة سوى الإحباط في ما قد يكون. وبذلك يكون رادين في هذا الكتاب هو أسوأ عدوٍّ لنفسه على الإطلاق!

القسم الأكبر من الفصول اللاحقة عبارةٌ عن تكرارٍ للنمط الذي كان قد أسّسه في فصله الخاص بالاستبصار. ففي فصل التخاطر، لدينا مثالٌ على تجربةٍ اخرى تم اختيارها بعناية على غرار التجربة المتعلّقة بالمرصد الراديوي، غير أنّها مثيرةٌ للاهتمام بشكلٍ طفيف. هنالك المزيد من التحليلات التجميعية التي تحقّق شيئاً اكثر بقليل من مجرّد اثارة الشكوك بشأن دقّة الطريقة الاحصائية الكاملة للتحليل التجميعي. خذ على سبيل المثال هذا الوصف الخاص بعدّة دراساتٍ مختلفةٍ تتعلّق بتجارب الحقل الكامل في التخاطر [11]: “من بين سبعة تحليلاتٍ تجميعيّة، ذكرت ستّةٌ منها دليلاً مهمّاً إحصائيّاً باحتمالية عدم حدوث تتراوح من كونها متواضعة بنسبة 20 إلى 1، إلى أكثر من تريليون الى 1”. وأضاف ان الدراسة السابعة لم تجد دليلاً مهمّاً إحصائياً على الإطلاق.

ماذا سنفعل بشأن هذا الانتشار الفاضح للاحتمالات المذكورة؟ حينما اسأل متخصّصاً في الكيمياء ما هي كتلة مولٍ من الاوكسجين، ويقول لي: “تقترح الدراسات بأن الكتلة تتراوح ما بين غرامٍ واحدٍ وتريليون غراماً”، فمن المنطقي حينها أن يكون لدّي سببٌ قويٌّ لأشكَّ في طرق حساب الكتلة في الكيمياء. تبدو التحليلات التجميعية أنها الموضوع المثالي للنقاش العلمي، حيث يتيح لنا تجميع عشرات او مئات الدراسات السابقة أن يكون لدينا مجموعة هائلة من التجارب لنبني إحصائياتنا على أساسها، ويبدو أنّها توفّر لنا في نفس الوقت توازناً ضمن حدودٍ معيّنة، لأنَّ الدراسات الإيجابيّة غير المنتظمة تتوازن من خلال الدراسات السلبية غير المعهودة. ومع ذلك، توجد ضمن التحليل التجميعي قوّةٌ رهيبةٌ يمارسها المؤلّف بشكلٍ سرّي، ألا وهي الطابع الشخصي للغاية والذي يضفي على كلِّ تحليلٍ نتيجته النهائية الفريدة من نوعها.

بكل بساطة، يمكن للمؤلّف أن يقدّر أهمّية تجربةٍ معيّنةٍ من خلال تقييمه الخاص لنوعيّتها. حيث قام (راي هايمان)، مؤلّف إحدى التحليلات التجميعية لتجارب الحقل الكامل السبعة التي ذكرها رادين، بتسليط الضوء على الكيفيّة التي غالباً ما توجّه بها عمليّة التقدير هذه، البيانات نحو النتائج المرغوبة، وذلك في مقالةٍ في مجلّة (المستقصي المشكّك Skeptical Inquirer) عام 1996:

“لقد قمت بتحليلٍ تجميعيٍّ لتجارب الحقل الكامل الأصليّة كجزءٍ من نقدي لهذه التجارب. حيث وضّح تحليلي أنَّ عيوباً محدّدةً، وبالخصوص نوعيّة التوزيع العشوائي، لها بالفعل صلةٌ بالنتائج. فالنتائج الناجحة مترابطةٌ مع المنهجيّة غير الكافية. (تشارلز هونورتون) في ردّه على النقد الخاص بي، قام بتحليلٍ تجميعيٍّ خاص به للبيانات نفسها. وقام بتسجيل العيوب أيضاً، لكنّه ابتكر معايير تسجيلٍ تختلف عما لديّ. ففي تحليله، ليس لتقييماته النوعيّة أيُّ صلةٍ بالنتائج. وأحد الأسباب المسؤولة عن هذا هو أنَّ (هونورتون) كان قد وجد عيوباً في التجارب غير الناجحة أكثر من تلك التي وجدتُها أنا. وعلى النقيض من ذلك، كنتُ قد وجدتُ عيوباً في التجارب الناجحة أكثر من تلك التي وجدها (هونورتون). من المحتمل أنَّ كلينا، أنا و(هونورتون)، قد آمنّا بأنّنا كنّا نقيّم النوعيّة بشكلٍ موضوعيٍّ وغير متحيّز. ومع ذلك، توصّل كلينا لنتائجٍ تطابقت مع تصوّراتنا المسبّقة.”

بعبارةٍ أخرى، إن كنت تريدُ أن تقلّل من أهمّية دراسةٍ ما،  فستتوجّه نحو إيجاد الكثير من العيوب فيها، وإن أردتَ أن ترفع من شأنها، فستتّجّه إلى التغاضي عن العيوب التي قد تتواجد فيها. وفي أيّ دراسةٍ اعتياديّة، من الممكن أن تسبب هذه القابليّة خسائر قليلةً نسبيّاً، لأن عدد التجارب قليلٌ بما يكفي لكي لا تؤدّي النتيجة البسيطة الى عددٍ هائلٍ من احتمالات عدم الحدوث. ورغم ذلك، فحينما تستخدم هذه القابليّة مع الملايين من عيّنات البيانات، فسيكون التأثير ضخماً للغاية، وسترتفع احتمالات عدم الحدوث بمقدارٍ كبير، مما ينتج عنه اعدادٌ من نوع “تريليون إلى واحد” والتي تطغى ضخامتها على ضُعفها.

من المحتمل أن تكون هناك بياناتٌ استثنائيّةٌ في هذه الدراسات، ولكنّ توجّه رادين نحو الوصول الى النتائج الضخمة يُبقيه مُركّزاً على التحليلات التجميعيّة أينما يجدها، وبناءاً على ما يُبيّنه الإختلاف الجامح في النتائج، فليس هنالك معاييرٌ موحّدة كافية في هذا النهج بالنسبة لنا كقرّاء لكي نثق بما يحدث بالفعل. إن رادين يتأرجح ما بين التقارير المفرطة الدقّة لتجاربٍ منفردةٍ غير مقنعةٍ تماماً، والمليارات المتراكمة من التحليلات التجميعيّة التي تكبر بشكلٍ تدريجيٍّ ولكنّها أقلّ مصداقيّةً في القول، وبالتالي يضر نفسه. ودائماً ما أجد نفسي أتسائل: “هل هنالك بالفعل مبدأٌ فيزيائيٌّ جديدٌ في العمل هنا، أو ربّما امتدادٌ لمبدأٍ معروف لكنّه غير محدّد؟” بحيث أن حب الإستطلاع لديّ سرعان ما ينتهي بسبب نزعة المؤلّف الشغوف لفرط الوصول.

إنَّ غاية رادين من هذا الكتاب هي إقناعنا بوجود بشرٍ اعتياديّين لديهم قابليّاتٌ خارقةُ للطبيعة. بالنسبة لي، لم ينجح في ذلك. بعد مرحلةٍ معيّنة، شعرتُ بأنَّ ثقتي قد تم استغلالها في الكثير من الأحيان، وأنَّ “ضعف رادين” قد بدا جليّاً بحيث أن البيانات التي ربّما تكون مقنعة قد تم عرضها على أنها موضعُ شكٍّ حينما صدرت من قلم زميلٍ أخذني في كثيرٍ من الجولات بالفعل. فخرجتُ من هذا الكتاب غيرَ مقتنعٍ، ولكنّي لستُ غيرَ مقتنعٍ ببعض التفاصيل المحدّدة، ولو أن بإمكان رادين تعديل توقعاته لـ “إبطال عدم قناعة الأشخاص” فيما يقول بدلاً من محاولة “إقناعهم” لكانَ قد شعر بالراحة في حينها.

الهوامش:

[1] مايكل برانت شيرمر Michael Brant Shermer: كاتب علمي أميركي ومختص في تاريخ العلوم، وهو مؤسس جمعية المشكّكين ورئيس تحرير مجلّتهم (المشكّك) والتي تكرّس جهودها في التحقيق وكشف العلوم الزائفة وادعاءات خوارق الطبيعة

[2] يوغا سوترا Yoga Sutras: مجموعة من الحكم الهندية عددها 196 حكمة جمعها شخص اسمه (باتانجالي) حيث قام بتجميع المعلومات حول اليوغا من التقاليد الهنديّة القديمة.

[3] بساي Psi  (Ψ): الحرف الثالث والعشرين من الأبجدية اللاتينية. يرمز لعلم النفس والطب النفسي، وأحياناً يرمز للباراسايكولوجي (الروحانيّات).

[4] احتمالية عدم الحدوث Odds against chance: تعبير عددي يستخدم في الإحصاء يشير الى ارجحيّة أن حدثاً معيناً سوف لن يحصل، وهو على نقيض احتمالية الحدوث Odds for والتي تشير الى ارجحيّة حصول حدث معيّن. تستخدم هذه التعابير ايضاً في القمار وبناءً على أساسها يقوم المقامر بالرهان أو لا.

[5] تشارلز هنري هونورتون Charles Henry Honorton: متخصص أميركي في الباراسايكولوجي. كان أحد ابرز القادة ضمن مجموعة من الباحثين الذين عزموا على تطبيق طرق البحث العلمي المقررة في اختبار ما أسموه بـ”النقل الشاذ للمعلومات” أو ما يعرف بـ”الإدراك فوق الحسي” أو “الحاسّة السادسة”.

[6] ديانا فيراري Diane C. Ferrari: متخصّصة في علم النفس في جامعة برينستون الأميركية.

[7] الدرجات القياسية (z-scores): عدد الانحرافات المعيارية التي تكون فيها قيمة ملاحظة أو نقطة بيانية أعلى من القيمة المتوسّطة لما يتم ملاحظته أو قياسه. حيث ان القيم الملاحظة الأعلى من المتوسّط لديها نتائجٌ قياسيّة موجبة، في حين أن القيم الأدنى من المتوسّط لديها نتائجٌ قياسيّةٌ سالبة.

[8] الإستجابات الحرّة Free-response experiments: وتسمّى أحياناً بالمقالات، وهي نوع من الاختبارات التي تُجرى في مراكز التعليم والعمل والمراكز الحكومية الأخرى. وأغلب هذه الاختبارات تطلب من الشخص الذي يؤدّيها أن يصف ما يعتقده أو أن يعبّر عن رأيه أو أن يكتب مقالةً قصيرةً ويدعم ذلك بالحقائق والأمثلة أو الأدلة الأخرى التي تؤكّد كلامه. وبشكل عام، يمكن القول ان اختبارات الاجوبة الحرة لا تختبر فقط الجواب المباشر للشخص وانما تطلب منه أن يكون ملمّا بكل جوانب الموضوع.

[9] التليسكوب الراديوي ذو الخط الأساسي الطويل جدّاً (VLBA telescope): نظامٌ مكوّنٌ من عشرة تليسكوبات راديوية تتم إدارتها عن بعد من قبل مركز العمليات الخاص بها والواقع في سوكورو في نيو ميكسيكو. وهذه التليسكوبات العشرة تعمل جميعاً كمصفوفة لتُشكّل النظام الأطول في العالم والذي يستخدم التداخل مديد القاعدة. حيث بلغ أكثر طول للقاعدة في هذا التداخل أكثر من 8600 كيلو متراً.

[10] شريط الأخطاء Error bar: عبارة عن خط يمر بالنقطة الموجودة على الرسم البياني ويكون موازياً لأحد المحورين ويمثّل الخطأ أو عدم الدقّة في قيمة الإحداثي المقابل لتلك النقطة.

[11] تجارب الحقل الكامل في التخاطر ganzfeld telepathy experiments: طريقة تستخدم في الباراسايكولوجي لاختبار التنبّؤ فوق الحسّي لدى الأشخاص. وتعتبر هذه التجارب من ضمن التجارب الحديثة العهد لاختبار التخاطر.

المقال الأصلي:

Dale DeBakcsy, “When Big Evidence Isn’t: The Statistical Pitfalls of Dean Radin’s Supernormal”, Skeptical Inquirer Volume 38.1, January/February 2014