لا يختلف اثنان في كون فرويد واحدا من أهم الرموز الفكرية في القرن العشرين فقد سخر الرجل حياته وعمل على تأسيس مدرسة تعد الأولى من نوعها في علم النفس الحديث. بدأ فرويد باحثا في علم الأعصاب ثم أدرك بذكاء أن بعض الأمراض العصبية آنذاك كفقد إحدى الحواس أو اضطراب الوعي يمكن تفسيرها بمشكلات في النمو النفسي منذ الطفولة. منطلقا من هذه الفرضية قام المفكر النمساوي الذي لا تنقصه العزيمة بتعزيز أفكاره من خلال حالات مرضاه وتوصل إلى فكرة التحليل النفسي الذي لم يزل يعد واحدا من التدخلات النفسية في عصرنا.

بقيت مدرسة التحليل النفسي مسيطرة على أفكار المثقفين والباحثين والأطباء إلى قرابة منتصف القرن الماضي ثم بدأت تتخذ أشكالا أقل تعقيدا وأكثر عملية كالعلاج المعرفي السلوكي الذي طوره الباحثان آرون بيك وآلبرت إليس؛ خط العلاج الأول للاضطرابات التي صنفها فرويد بالعصابية كالقلق والوسواس. بعد ذلك نشأت مدارس أخرى أزاحت أفكار فرويد الأصلية إلى الأرشيف فصارت تذكر في مقدمات الكتب والمراجعات العلمية على سبيل التأريخ فقط. فما السبب؟

اعتمد فرويد في الأساس على ما نسميه الآن بدراسة الحالات (case study) والدليل الشخصي (anecdotal evidence) في إثبات فرضياته. تقع هذه الأدلة الآن في قاع هرم الدليل العلمي الذي ترأسه الدراسات المحكمة المعماة (Randomised controlled trial) والتحليلات الشاملة (meta-analysis) وتعد من أضعف الاستشهادات التي لا يمكن الاعتماد عليها في إثبات نظرية علمية. لكن الى جانب ذلك، فهناك اشكاليات كبرى فيما قدمه فرويد، وهي ما سنتناوله في هذا المقال.

ضحالة التعريف

واحد من أهم أسباب نجاح فرضيات فرويد هو أنها مرنة وقابلة للتحوير والتطويع في خدمة أي إيديولوجية تخطر بالبال. ماذا عنى فرويد بحسد القضيب، عقدة أوديب، الترابط الحر، التثبيت الفموي، التصعيد؟ لا أحد يجزم. وهذا إخلال آخر بشرط أساسي في البحوث العلمية؛ التعريف، فكيف نستطيع دراسة ظاهرة ما دون أن نعرفها بدقة؟ كيف نعرف أو نقيس المستوى أو الحالة النفسية التي تؤهل المريض وتصنفه كفرد يعاني من عقدة أوديب مثلا؟ كل ولد متعلق بأمه أم كل ولد متعلق بأمه جدا؟ وما الذي يحدد شدة ذلك؟ الكثير من الأسئلة التي لا نستطيع إخضاعها لاختبار إحصائي أو منطق أو إبستمولوجيا واضحة المعالم.

غياب الطبيعي وحضور المرض

لم يحدد فرويد سمات النفس الطبيعية الخالية من العقد والضلالات والإيحاءات والهستيريا. يصف فرويد مراحل النمو الجنسي بدءا من الفموية وانتهاء بالتناسلية ويحدد لها أعمارا اعتباطية دون تحديد ما يعرفها ويشخصها. كيف نعرف إذا كانت هذه الصبية في المرحلة القضيبية أو الشرجية؟ جدير بالذكر أن مؤلفات فرويد مهدت الطريق لتطبيب الطبيعي (medicalization of the normal) الذي لم يزل يعانيه الطب النفسي حتى الآن. ليس سهلا تحديد معالم الوعي الطبيعي والنمو النفسي المعتدل وليس من المنطقي تحديد الخروج عن شيء غير محدد!

استحالة التنبؤ

من البديهي أننا نطور النظريات لتفسير الظاهرة والتنبؤ بمتغيرات لم تُدرس بعد. يمكن عن طريق نظرية داروين مثلا أن نتنبأ باختيارية الإناث عند التزاوج بناء على نظرية الاختيار الجنسي بعد ملاحظة بهرجة ذيل الطاووس التي تضر بموارده البيولوجية بدون منفعة بقائية. هل نستطيع إذن التنبؤ بهوية الفرد الجنسية بناء على صفات مرحلته الشرجية؟ لا يمكن ولن يمكن.

التحيزات

يذكر علماء الإحصاء عددا كبيرا من التحيزات التي يمكن أن يقع فيها الباحث فتؤثر على مصداقية استنتاجاته. وقع فرويد فيها كلها بلا استثناء وعلى رأسها تحيز التذكر (recall bias) إذ تكونت حالاته من تفاصيل كثيرة وترابطات يستحيل تدوينها أثناء الجلسة ويصعب تذكرها فيما بعد. انطلاقا من أفكار فرويد، ما المانع أن يقع الباحث في تزييف الأحداث الماضية مدفوعا بذاكرة متحيزة لإثبات رأي يسيطر على اللاوعي عند الباحث؟

حصر النمو في مرحلة

افترق كارل غوستاف يانغ عن معلمه فرويد بسبب إصرار المعلم على تضييق زمن النمو النفسي وحصره في مرحلة الطفولة بل إصراره أن جميع الاختلالات النفسية يمكن إرجاعها إلى مشكلات في نمو الطفل وعلاقته بوالديه وكبت حاجاته الجنسية. رأى يانغ أن التطور عملية مستمرة وليست ثابتة ومشتركة داخل النوع وليست فردية لذا طور نظرية الوعي الجمعي (collective consciousness) التي حظيت بدعم علمي أكثر من وعي فرويد الفردي رغم علات النظريتين. كيف نفسر تغير الفرد في ظل معطيات كل مرحلة عمرية وحسب معطياته البيئية؟ هل يكفي أن نرغمه على تذكر موقفه من ملابس أمه عندما كان في الرابعة من عمره تماما عندما كان في أوج مرحلته القضيبية؟

عدم القابلية للتكرار

لا توجد نظرية علمية وحيدة لم يتم تكرارها بواسطة أكثر من باحث. التكرار (replication) هو توصل باحثين مختلفين إلى نفس الاستنتاجات التي قام بها الباحث الأصيل. في غياب وضوح التعريف وسلامة العينة والتحليل الإحصائي ومحددات الطبيعي لا يمكن تكرار نتائج أي فكرة حتى بالغصب والقوة ولو اجتمع كل من على الأرض حاملا صميلا مقطرنا لتكرارها.

البيئة، الجينات، وما وراء الجينات epigenetics

لم يهتم فرويد بأي متغيرات أو عوامل خطر يمكن أن تؤثر في نمو النفس البشرية ونشوء اعتلالاتها فبينما يتجه علم النفس الحديث نحو الاضطرابات الوراثية والبيئية والسوشيوسايكولوجية توقفت آراء فرويد عند مرحلة الطفولة والدوافع الجنسية والأحلام كعوامل أساسية لتحديد السلوك وتشكيل الانفعالات الحسية والنفسية. باختصار، لا يمكن حاليا قبول أي نظرية علمية في علم النفس لا ترتكز على الفهم الحديث لبيولوجية داروين؛ موقف مبرر إذا فهمنا الجانب النفسي للفرد كتابع للجانب الجسدي.

الأحلام

لا أجزم بأن العلم الحديث قد توصل إلى نظرية رصينة لفهم نشوء وديناميكية الأحلام. تفترض النظريات أن لها دورا في التعلم أو الذاكرة أو أنها محظ هراء يتم استعراضه في ذهن النائم بسرعة وبلا معنى. المؤكد أن الأحلام لا تنشأ لتحقيق رغباتنا المكبوتة إلا إذا وظفنا الزبط الحر كما فعل فرويد. الترابط الحر (free association) هو افتراض معان مترابطة لأحداث غير مترابطة. أن يرى النائم أنه في عربة فكتورية يعبر بوابة فإن العربة هي القضيب وإن البوابة هي الفرج -ورد هذا حقا في كتابه تفسير الأحلام- فإن ذلك يعني أن الحالم يعاني من كبت رغبة جنسية قد تكون موجهة إلى جارته أو زميلته أو بائعة عابرة أو إحدى محارمه. ما الذي يحدد معنى الأحلام؟ مزاج فرويد. ما الذي يحدد مزاج فرويد؟ طفولته وعقده النفسية وبغضه لأبيه.

 

الهو والأنا والسوبرمان

لم يكن فرويد أول من جاء بفكرة تقسيم حالات العقل إلى “هو” متدنية حيوانية ساقطة و”أنا” بشرية” وسوبرمان” ملائكي إلهي يشع نورا وأخلاقا ومثالية. وردت تصنيفات مشابهة في كتابات اليونانيين وفي الكتب الدينية وحلم بها نيتشة ويمارسها أي واعظ وأي عجوز في هذه الساعة. هذا التعبير الوصفي لا يخلو من الفلسفة ويخلو كل الخلو من العلم. نعم فملاحظة فرويد للجانب اللاواعي من العقل وأن جزءا من عملياتنا المعرفية وسلوكياتنا يمثل قمة جبل هائل قابع تحت جليد اللاوعي تحظى بقبول علمي في الوقت الحاضر غير أن ثلاثيته العقلية تبقى مجرد وصف أدبي لا أكثر. حاول باحث علم الأعصاب الأميركي باول مكليان في الستينات تحديث تقسيم فرويد وطور نظريته “العقل الثلاثي” (truine brain) وعزى كل قسم إلى تمثيل مقابِل من الدماغ فجذع الدماغ يمثل الهو والجهاز اللمبي يمثل الأنا والقشرة الأمامية تمثل السوبرمان إلا أن نظريته لم تلق دعما ولم يمكن تكرارها وتوظيفها في فهم باثولوجية السلوك والشعور أو علاج اضطراباتهما لعدم قدرتها على تفسير غياب الجانب المثالي الأخلاقي بمفهومه البشري في الكائنات غير الثديية التي ثبت امتلاكها قشرة دماغ مكتملة التطور. يسهل أن أزعم أن فلانا المتدين الكريم السمح قد غلبت فيه السوبرمان على الـ “هو” وأن الإنسان الشهواني العدائي الكريه قد غلبت فيه الـ “هو” على السوبرمان ولكن كيف أثبت ذلك علميا؟ بأي تجربة وبأي مقياس؟ ما دور التعليم هنا؟ وإذا كانت التعاليم والمثل مكتسبة فكيف يتم تمريرها إلى السوبرمان أو دفنها في الـ “هو”؟ إن ثلاثية فرويد لا تختلف كثيرا من حيث المصداقية العلمية عن رباعية أبقراط “الدم والصفراء والسوداء والبلغم أو رباعيات الخيام فقد كان فرويد أديبا غزير الكتابة وواسع الاطلاع على الأساطير وتوظيفها أفضل من نسخته العلمية المزيفة. سوبرمان هي تحريف تهكمي للـ “superego”.