تتنبأ النظرية النسبية العامة لأينشتاين ان الفضاء عبارة عن نسيج من الزمكان وأنه ينحنى بفعل الكتلة وأنه شيءٌ حقيقيٌ ومرنٌ ويمكنُ التأثيرٌ عليه. وأيضا ان الثقوب السوداء تقوم بجر الفضاء فعليا، وحتى دوران الأرض حول محورها يسبب أيضا تأثيراً مباشراً على الزمكان حولها وإن كان بنسبةٍ ضئيلة وذلك هو سبب الجاذبية بين الكتل المختلفة. حسنا هل استطاع العلماء التأكد من ذلك فعلا بتجربة عملية؟ الاجابة انه حقا استطاع العلماء ذلك. سنتناول فى هذا المقال هذه التجربة المشوقة جدا التى قامت بها وكالة ناسا وقد استغرقت فى ما يقارب الخمسين عاما كاملة لنتعرف سويا على هذه التجربة.

بدأت هذه التجربة لأول مرة عام 1959 فى ذهن الفيزيائى (Leonard Susskind) وهو بروفيسور فى الفيزياء النظرية بجامعة ستانفورد الامريكية حيث انه توقع ان الجيروسكوب يبدو أنه سيغير اتجاهه إذا ما حدث انحناء حقيقي للفضاء الذي يستند عليه هذا الجيروسكوب.

ما هو الجيروسكوب اصلا؟

الجيروسكوب هو جهاز أشبه بعجلة الغزل الدوار أو القرص ذو محور حر التوجيه. تغيير التوجيه يتأثر بأقل درجة للتأثيرات الخارجية  ببساطة هو يحافظ على الاتجاه بشكل شبه ثابت مهما تغيرت الأرضية المثبت عليها المدوار بمعنى انه مهما تغير السطح الذى يستند عليه هذا الجهاز فإن الاتجاه الذي يشير اليه الجهاز يظلُ ثابتاً.

ما علاقة الجيروسكوب بانحناء الفضاء؟

كانت فكرة ليونارد أن الجيروسكوب يشير في العادة إلى اتجاه معين وثابت ولكن اذا كانت فعلا الكتلة تسبب انحناء الفضاء (الزمكان) فعندها سيتغير محور الجيروسكوب معها ما يحول توجهها بطريقة يمكن قياسها واذا استطعنا قياس ذلك الانحراف فى محور الجيروسكوب عمليا وتطابق مع  نفس النتائج مع معادلات النظرية للنسبية العامة لاينشتاين عندها سيكون ذلك دليل حقيقي على صحة النسبية العامة.

كانت المشكلة ان معادلات اينشتاين تتنبأ ان دوران الارض حول محورها يقوم بجر الفضاء من حوله و التسبب فى انحنائه ولكن بدرجة ضئيلة جدا بحيث انه من الصعب جدا قياسها بواسطة انحراف الجيروسكوب فكيف سيحل العلماء هذه المشكلة؟

واخيرا قام هذا الفيزيائي مع فريقه بوضع خطة للتغلب على هذه المشكلة وهى خطة لتعليق أربعة جيروسكوبات تسبح في الفضاء بحرية إلى تليسكوب يصوب نحو نجم بعيد وإذا كان الفضاء يلتوي، فمع مرور الوقت لن تشير الجيروسكوبات إلى ذلك النجم لانها ستعلق فى دوامة فضائية وسيتيغر اتجاهها ثم في عام 1962 تقدم الفريق بطلب إلى ناسا بمنحة قدرها مليون دولار لما سيطلق عليه لاحقا مسبار الجاذبية (Gravity Probe) اعتقد الفريق في البداية ان المشروع سيحتاج ثلاثة سنوات ولكنهم كانوا متفائلين بشدة ولكن كانت النتائج النهائية للتجربة فى مايو 2011. يبدوا ان التجربة احتاجت أكثر من خمسين عاما كاملة للتغلب على كل المشاكل التقنية للتجربة. وهي مصنفة بأنها إحدى أطول التجارب العلمية من حيث الوقت حيث كادت ناسا ان توقف المشروع لأكثر من تسعة مرات بسبب مشاكل بخصوص تمويل المشروع وأخيرا فى أبريل عام 2004 تم إطلاق المسبار الفضائي (B Gravity Probe).

تجربة مسبار الجاذبية

نتائج التجربة: هل فعلا الارض ستسبب انحناءاً في الفضاء؟

كان التقدير النظري للعلماء وتنبؤات النسبية العامة أن محاور دوران الجيروسكوبات سوف تنحرف بمقدار 6.6 ثانية قوسية أي 1/3600 درجة سنويا بسبب انحناء الزمكان، وبمقدار 42 مللي ثانية قوسية بسبب تأثير (لينز-ثيرينج )وهو ببساطة تأثير يعبر عن تصحيح لحركة الجيروسكوبات عندما تكون فى مدار الأرض. ويعتبر قياس تلك الكميات المتناهية في الصغر من الصعوبة التي تستدعي بناء جهاز الجيروسكوبات ذات الحساسية البالغة. يبلغ قطر الأربعة كرات من الكوارتز المستخدمة للجيروسكوب 3.8 سنتيمتر مثالية الشكل وتدور في الفراغ بسرعة 10.000 دورة/ الثانية. وكان لا بد من تبريد الكرات أثناء التجربة إلى 1.88 درجة كلفن (271 درجة تحت الصفر سيليزية) بحيث تصبح الطبقة الرقيقة من النيوبيوم التي تغطي الكرات فائقة التوصيل. على أن يقوم جهاز دقيق فائق التوصيل أيضا يسمى “سكويد” بقياس انحرافات محاور دوران الكرات. بذلك يصبح في إمكان الجهاز الحساس قياس زاوية انحراف للمحاور دوران الكرات بدقة 1/40.000.000 درجة ذلك الانحراف يعادل رؤية رأس دبوس من على بعد 1000 كيلومتر). لذلك كانت هناك صعوبة بالغة للعلماء لفصل تأثيرات شوشرة النشاط الشمسي عن التأثيرات المطلوب تعيينه) . ويذكر هنا ان تركي آل سعود وهو عضو فى العائلة الملكية السعودية وحاصل على شهادة فى الملاحة الجوية من جامعة ستانفورد قد قام بالتبرع بمنحة كبيرة لاستكمال هذا المشروع).

عندما بدأت نتائج التجربة فى الظهور وجد العلماء ان محاور الجيروسكوبات انحرفت بنفس النسبة تقريبا التى توقعتها معادلات اينشتاين للنسبية العامة. إذا فاينشتاين على حق تماما ان الفضاء هو عبارة عن شبكة رباعية الابعاد من الزمان والمكان ويمكن ان تنحني بفعل الكتلة وليس ذلك فحسب بل ايضا يمكن ان تلتوي وذلك شىءٌ ليس بالخيالي، إنه حقيقيٌ تماما وهو كيان مادي مثل القماش ومن هنا سمي بنسيج الزمكان. وإن كنا لا نستطيع رؤيته او لمسه. وفي نفس الوقت فإن نسيج الزمكان مرنٌ للغاية.

كانت هذه المرة الأولى التي استطاع فيها العلماء فعلا رؤية الانحناء الزمكاني بتجربة عملية حقيقية ذات نتائج دقيقة. وفى النهاية نقول ان العلم لا يعرف الملل او الكلل او الاستسلام فالعلم دائما يبحث عن الحقائق بكل السبل الممكنة لنستطيع أن نفهم عالمنا بل وأيضا أن نُغير فيه ونستفيد منه قدر الامكان و سنظل نبحث عن الحقائق بالعلم والتجربة من خلال منهج علمي سليم.

المصادر: