علم الاجتماع ليس علما : علم الاجتماع وفي نظرة سريعة الى القواميس الشهيرة مثل قاموس اوكسفورد وقاموس مريام ويبستر وكامبرج وماكميليان نرى أن التردد في تعريفه فهو يُعرف بأنه علم تارةً وبأنه دراسة للمجتمع. وقبل أن نحكم على علم الاجتماع بصفته علماً أم لا لابد ان نرى أيضاً هل يتفق علماء الاجتماع أنفسهم بوصف تخصصهم كعلم؟ هل يتفقون مع المنهج العلمي التجريبي؟ ام انهم يتبعون طرقاً تفسيرية ويستندون الى بديهياتهم ومعلومات عامة عن مواضيعهم ويتركون المحددات المنهجية للأهواء او الرغبات الخاصة بتسليط الضوء عليها؟ هل من الممكن أصلاً ان يُدرس مجتمع او نظام اجتماعي بحساب كل المؤثرات؟ وهل هناك محاولات واعدة للقيام بذلك؟ هل استخدم علماء الاجتماع أي أدوات علمية؟ ام تورط الكثير منهم في السرد والشرح الطويل والاسهاب به دون التفكير بإمكانية التشكيك بمسلمات الطرح؟[1] [2] [3] [4]
قبل البدء لابد من الاشارة الى توجهين رئيسيين في علم الاجتماع:
- التفسيرية (Interpretivist) : وهو الجانب الفلسفي الذي يُقر معظم القائمون به أن علم الاجتماع ليس علماً او انه علم لكن ليس بمفهوم العلم الشائع.
- الوضعية (Positivism) : وهو الجانب الذي يتبنى المنهج العلمي قولاً دون شرط الالتزام به في طروحات القائمين بهذا المنهج او الالتزام الانتقائي بالمنهج العلمي مع اداة وحيدة وهي الاحصاء وبشكل نادر علم النفس وما يمكن ان يوفر من حقائق يستفيد منها عالم الاجتماع الوضعي.
هل يتمتع علم الاجتماع بخصائص العلم؟
للتحقق من كون علم الاجتماع علم أم لا فلنقم بإخضاعه لقراءات مختلفة بحسب طرق الاثبات العلمي وخصائص العلم وما يجب ان يتحلى به التوجه المعرفي المعين من خصائص لكي يصبح علماً.
1. مادة البحث
يفترض ان يكون عنصر الدراسة لعلم الاجتماع هو الإنسان والمجموعة البشرية كما تدرس الفيزياء حالات المواد وظواهرها وتدرس الكيمياء المواد وتدرس البيولوجيا الكائن الحي.
لكن نتسائل هنا الا يجب ان يكون عالم الاجتماع هو الأقرب من البيولوجيا؟ الم يؤسس كونت السوسيولوجيا لذلك؟ لكن مهلاً هل كان من الاساس يحق لكونت ان يلعب هذا الدور؟ او كما فعل سبينسر اذ ركض بحقائق التطور الوليدة حديثاً نحو رؤية شاملة للمجتمع وهي لم تكد تكتمل بذاتها حول الكائن الحي ذاته في ذلك الوقت؟ بقراءة تعريف الفلسفة سنلاحظ انها مجردة اليوم من كثير من صلاحياتها السابقة فالتفكير بمعاني الاشياء او الظواهر والافكار ليس كالأمس. هناك الكثير من الامور التي لم يعد الفلاسفة هم من يجيبون عنها، فلماذا يعطون لانفسهم الحق للتصرف بأي معطيات علمية لرسم الصور التي يريدونها للمجتمع؟
مادة متغيرة
فضلاً عن الاشكاليات الاخرى فإن علم الاجتماع يبحث في مادة متغيرة جداً وهي المجتمعات، تحاصر علم الاجتماع هنا الاف العادات والتقاليد والظواهر الخاصة بشعوب معينة دون غيرها، لا يُمكن القيام بدراسة اجتماعية واحدة دون ان تكون عابرة للشعوب ما لم ينو الباحث نفسه ان يجعل دراسته واستنتاجاته خاصة بمجموعة اثنية معينة او شعب معين او مدينة معينة.
2. الملاحظة أو المشاهدة
تنبع الأفكار والفرضيات الخاصة بعلم الاجتماع من مشاهدات لا تمتاز بالندرة وقلة الحدوث ولا تمتاز بصعوبة الرصد، إنها على الأغلب ظواهر، او عادات، او تصنيفات اجتماعية يراها الجميع. ولا تقع المشكلة في الطرح السوسيولوجي بالمشاهدة في الخطوات القادمة من الاثبات وفي مساحة المشاهدة ذاتها.
- التفاحة سقطت من الشجرة : هناك قوة ادت الى سقوطها.
- الشمس أشرقت : إما انها تدور وإما اننا ندور.
- عندما نغطي اعيننا لا نستطيع ان نرى الضوء : العين هي عضو الإبصار في الإنسان.
تلك مشاهدات تقودنا بشكل مباشر الى الافتراض والبرهان بطرق مباشرة وكذلك هو الحالة في معظم العلوم. لنحاول ان نضع مشاهدات في علم الاجتماع:
- العراقيون الذين التقيت بهم غالباً ما يمتازون بسلوك عاطفي يجعلهم يتفاعلون بشدة مع الاحداث :
- ارى فقراء في منطقتي وفي نفس الوقت ارى اقلية من الاغنياء واصحاب المصانع :
- البروتستانتي الكالفيني الذي كان مجاوراً لبيتي مع امثلة كثيرة في قريتي لهم عادات عمل تشجع الرأسماليين في القرية:
- أرى من قرائتي لتاريخ العراق أن العراق يقع على خط فاصل بين بداوة العرب وحضارة الفرس :
- الشباب الذين قابلتهم في الجنوب الامريكي في الخمسينات مترددون ومنقسمون بين التحفظ والتحرر :
تلك الامثلة المخجلة هي لمشاهدات انطلق منها علماء اجتماع لتفسير امور هائلة الحجم كما نرى انها كحقائق قاصرة عن تقديم اي استنتاج ويمكن لأي شخص ان يراها. مشاكلها كالاتي:
- أنها تحتاج الى احصائية على الاقل لتكون مقبولة.
- أنها قد لا تصح كمحطة البداية لإثبات حقيقة معينة لماذا بدأت بعاطفية العراقيين كتفسير لما ستتقدم بطرحه.
- أنها قد لا تعمل لوحدها بل هناك الكثير من العوامل الاخرى التي تعمل الى جانب هذه النقاط وانت تتجاهلها وتنطلق بإثباتك المنطقي من نقطة واحدة.
إنها بأختصار ليست مشاهدات صالحة.
ماذا عن المشاهدات التي تُقرر بالطرق الاحصائية حالياً؟ ربما تستطيع الطرق الاحصائية الحالية ان تُثبت المرحلة الاولى وأن تضع قطع متفرقة مفردة من الطابوق على حائط يبلغ طوله مئات الكيلومترات من الحقائق المطلوبة للوصول الى نتيجة معينة. واضح ان الطريق ليس صحيحاً وان كان هناك باحثون يعملون بالطريقة الاحصائية حالياً لاثبات امور مثل:
- الخلافات الزوجية لأسباب تتعلق بالاطفال لدى عوائل الافارقة الامريكيين في ولاية الاباما في التسعينات.
- استبيان للنساء الاستراليات حول ارائهن باجسادهن في العطل.
- تأثير الطقوس الدينية للهندوس على العلاقات بين المسلمين والهندوس في وسط الهند.
- تدخين الحشيشة في مدارس سكوتلاند وعلاقته بالعيش في اسر ترأسها ام عزباء.
- الفروقات الاثنية ومستويات الدخل في فيتنام.
3. الفرضية والاثبات والتحليل
غالباً ستدمج هذه المراحل سوية لمعظم مشاهير علماء الاجتماع. سيكون الطرح عبارة عن طرح جدلي متسلسل ينتهي بالاثبات الذي يصب في نطاق الفكرة المركزية التي يؤمن بها عالم الاجتماع. كثير من علماء الاجتماع تقودهم افكار كهذه يعزون اليها معظم المشكلة والحل. وليتخلصوا من معضلة الربط بين المشاهدات وبين باقي تسلسل الاثبات العلمي فهم يميزون بين النظرية المجردة والحقائق التجريبية يعني انه بالنسبة لهم يمكن ان تضع نظرية وأن لا يكون الاثبات والبيانات الخاصة متصلة بها[5].
يصف كارل بوبر فيلسوف العلم وعالم الرياضيات: ان علم الاجتماع هو عبارة عن نمط من غير موضوعي او ثانوي من الشروحات. وان علماء الاجتماع يحاولون ان يشرحوا ظاهرة موضوعية بإختزال من ناحية خصائص غير موضوعية للافراد. بوبر يشكك بالوضعية العلمية لعلم الاجتماع وان علم الاجتماع ليس علماً لأن حقائقه ليست منفتحه على التخطئة[6].
لعل الخلط الدائم لعلماء الاجتماع بين هذه المراحل وشيوع الثقافة العربية في العالم العربي هو احد اسباب العلة الدائمة في فهم مراحل الاثبات العلمي في المجتمع العربي.
4. أزمة في تاريخ العلم: علم الاجتماع علم أم دين؟
تتجلى اهمية تاريخ العلم في نقطة هامة جداً وهي أهمية ما يعالجه العلم مما يجعل اهمية تاريخية له. فما هو تاريخ علم الاجتماع؟ ببساطة لم يكن موجوداً واوجده بلحظة واحدة الفيلسوف اوغست كونت بصورة دين الانسانية. لعله ليس مخطئاً. فتاريخ علم الاجتماع وما كان يحل محله سابقاً هو الاديان وليس اي علم آخر. رجال الدين او الاصلاحيين في الاديان هم الوحيدون الذين كانوا يخرجون برؤية شاملة للحلول والمشاكل بطريقة شبيهة لرؤية دوركايم او ماركس او ويبير او سبنسر ملخصين عدداً من المشاكل من ظواهر او مشاهدات بسيطة ثم يقترحون على اساسها نظاماً جديداً شاملاً. ما قام به من يُعرفون بعلماء الاجتماع انهم وضعوا ما يشبه الاديان في تشخيص المشكلة ووضع الحلول. ليس ذنبهم بل ذنب من يتقبل طروحات كهذه على أنها علوم. الكتاب والمفكرون والفلاسفة يمكنهم ان يضعوا ما يشاؤون من الرؤى لكن لا يُمكن ولا يجب ان يتم تطبيقها او النظر اليها بجدية كما ننظر للعلوم.
5. أزمة وسائل
لو جئنا الى البرهان الرياضي لوجدنا انواعاً متعددة من البرهان الاستقرائي والمباشر والتناقضي، ولو جئنا الى الفيزياء لوجدنا طيفاً شاسعاً من ادوات الاثبات لكل تجربة ولكل نوع من الحقائق، هناك اجهزة ومختبرات تصمم من اجل اثبات حقيقة واحدة. العالم والطبيعة كلها امام الفيزيائي ليثبت ما يريد وكذلك امام الكيميائي، الفئران وكائنات عديدة هي ايضا متاحة لتجربة كافة الفرضيات بالنسبة لعلماء الاحياء والاطباء.
ما هي وسائل عالم الاجتماع عدا الاحصاء؟ النزر اليسير مما يمر من حقائق عبر علم الاعصاب بعدها الى علم النفس الذي لا زال بحد ذاته يعيش في جزيرة معزولة عن البيولوجيا. نعم علم النفس هو الأداة الاساسية لعلم الاجتماع لكن هل علم النفس متكامل اليوم؟ ما زال المفهوم المعنوي للعقل منفصلاً عن المفهوم الفيزيائي له وهو الدماغ. حتى اعمال الحفر بطيئة لايصال طرفي النفق الواصل بين مفهوم العقل بما فيه من افكار وشخصية ومشاعر والطرف الاخ الفيزيائي الذي لا يمثل سوى اجزاء من الدماغ قيست بتخطيط الدماغ وبالتصوير المغناطيسي الوظيفي FMRI. ذلك هو المأزق الذي يعيشه علم النفس. فما هو مدى التطاول الذي يجعلنا نتكلم عن علم اجتماع يستخدم علم النفس الخجول هذا كأداة[7]؟
قد يؤخذ على الاجتماع ايضاً كونه يفتقر للادوات سوى الاحصائية منها بكونه ليس علماً. لكن برأيي إن المشكلة هي بكونه تخصص تم إقحامه بشكل مغرض كتخصص علمي من غير الباب الطبيعي للعلم وفي غير وقته وبغير توفر الادوات اللازمة له. هو ليس علماً لانه لا يمكن ان يكون علماً. في اليوم الذي يصل فيه علم النفس الى الوضع المناسب وبالتحديد فك ترميز العقل والقدرة على قراءته بشكل صحيح سيتجلى من علم النفس الاجتماعي بشكل تلقائي الحقائق التي نحتاجها لقيام التخصص اللائق الذي يحل محل ذلك الجسم المعرفي المفترض – علم الاجتماع[8].
ماذا عن الجدلية ودوامة الكلاميات والفلسفة في علم الاجتماع اليست كافية لجعلها علماً؟ جيد دعونا نعود لمناقشات القرون الماضية، لقد ادت اداءاً جيداً!
علم الاجتماع اليوم وفضيحة سوكال
بدء علم الاجتماع فلسفياً مدفوعاً بمباركة مؤسسه اوغست كونت لأن يصبح وضعياً قائماً على المنهج العلمي مستمداً افكاره من علم الاحياء لا من الادبيات. ومضى الاتجاهان سوية. يمكن القول ان غالبية الابحاث الموجودة اليوم في علم الاجتماع تتبع الجانب الوضعي وتمتلك اداة وحيدة هي الاحصاء. سنجد في قراءة منشورات اليوم بعلم الاجتماع الكثير من الحقائق المتناثرة التي تشبه دراسات اقتصادية او تسويقية لكنها لا تُقيم علماً ولا تساعد في نشوء نظرية. وسنجد القليل من الفلسفة ايضاً في منشورات اليوم.
لعل ابرز حدث ساهم في توضيح بعد علم الاجتماع عن كلمة علم هو ما فعله الان سوكال الفيزيائي الذي كتب بحثاً بعنوان (انتهاك الحدود: نحو هرمنيوطيقيا تحويلية للجاذبية الكمية) وكان مليئاً بالهراء فقط وقد نشرته مجلة سوشيال تيكست الخاصة بعلم الاجتماع وفضحهم البروفيسور سوكال بعد النشر موضحاً ان ما كتبه كان هراءاً فحسب.
ننصح بقراءة الموضوع الكامل حول النشر العلمي لعلم الاجتماع اليوم.
6. قابلية التخطئة
ما لم يكن التوضيح كافياً حول طبيعة ادعاءات وافتراضات علم الاجتماع لابد ان نعرج على قابلية التخطئة لكارل بوبر وهي من ابرز اركان المنهج العلمي. عند تعريض الفرضيات الاجتماعية لهذا الاختبار فكلها ستفشل حتماً فهي غير قابلة للتخطئة. لا يمكن نقض وتخطئة عبارات وافتراضات علم الاجتماع.
علماء اجتماع يقولون ان علم الاجتماع ليس علماً
أول رد للمؤيدين المتعصبين لعلم الاجتماع هو بالعودة الى الوضعية والى الصورة المثالية التي تكلم عنها اوغست كونت ثم سيقفزون مباشرة نحو دوركايم واحصائيات الانتحار التي قام بها. سيقولون ان الوضعية هي منهجية علمية كلياً وهي اساس من اسس علم الاجتماع.
لكن هل كان علماء الاجتماع الذين يفترض ان يكونوا من الوضعيين علميين كما ينبغي؟ ولن يتمكن احد من قول أي شئ عن التفسيريين وهم الجانب الكبير الشاسع من علماء الاجتماع. ببساطة ليس علم الاجتماع علماً بالنسبة لهؤلاء ولن يدافع احد منهم عن صورته كعلم. مثلا تالكوت بيرسون (Talcott Pearson) يقول بوضوح في كتابه تقييمات حرجة (Critical Assessments) (ج4 ص116 ط1999 Routledge) “ان علم الاجتماع ليس بالعلم بمفهوم العلم المستخدم في البلدان الناطقة بالانجليزية فهو نادراً ما يتضمن اجراءات تتقبل انتاج مشاهدات قابلة للاعادة كما ان نظرياته ليست صريحة الصلة ببياناتها ومعايير البرهان تلك بالتأكيد ليست معاييراً صارمة”.
من قراءة آراء علماء الاجتماع التفسيريين سنجد نوعاً من الضيق بمبادئ الوضعية او علم الاجتماع العلمي كما تسميها مايترايي جاودوري عالمة الاجتماع الهندية (Maitrayee Chaudhuri) منتقدة نهج القائمين به ومدافعة في نفس الوقت عن علم الاجتماع كعلم. بينما يحاول استاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون ريموند بودو (Raymond Boudon) التفسيري أيضاً ان يشرح كلام اوغست كونت عن الوضعي بأنه مفهوم اشمل للعلوم ولا يعني بالضرورة الصلة اللازمة بين علم الاجتماع والاحياء. ديفيد ويلير (David Willer) المعروف كعالم اجتماع علمي وضعي من جامعة كارولينا الجنوبية كان يصرح بأن علم الاجتماع ليس علماً عازياً السبب الى انعدام المنهجية العلمية لعلم الاجتماع[9].
تشارليس لاتيشنماير (Charles Lachenmeyer) في كتابه لغة علم الاجتماع (1971 Columbia University) يقول ان علم الاجتماع ليس علماً قائلا ان لغة علم الاجتماع هي لغة اصطلاحية تقليدية اكثر منها لغة علمية.
يقول روبرت ماكيفر حول لا علمية الطرح الاجتماعي ان الطبيعة الكلية للاجتماع توجب على المحقق ان يبقى راسخاً بمنهجه على الكلية ولا يجب عليه ان يحصل على رؤية متجردة ولا أن يسعى للحصول عليها بالطرق الكمية[10] ويقول ماكيفير ايضاً انه من المستحيل للعالم ان يحصل على تلك الكلية بشكل مباشر وكمي (مقاس) وهو يخالف اوغبورن في ذلك ويرد عليه رغم ان اوغبورن الاحصائي والسوسيولوجي كان انتقائياً في استخدام الاحصاء وكان قليلاً ما يستخدمه لاثبات طروحاته.
مع ذلك يبقى هناك من يجادل من علماء الاجتماع والتفسيريين منهم ان علم الاجتماع علم محاولين اما ان يوسعوا مفهوم العلم بطرق فاشلة ليشمل علم الاجتماع او ان يتخذوا طرقاً أخرى كلامية لجعل المفهوم علماً.
بين عشرات المؤثرات على المجتمع يقع علم الإجتماع في أول اشكالياته. لو أردنا دراسة تأثير دواء معين على بكتيريا في مختبر لوضعنا نموذجين من البكتيريا واخضعنا احداها للدواء والأخرى بنفس الظروف تماماً لكن دون الدواء. المؤثر هنا كان الدواء، والعنصر الخاضع للدراسة هو البكتيريا، النتائج ستكون سهلة التحديد ببساطة بعد اجراء اي نوع من الفحوصات على البكتيريا. في مثل هذه الحالة لو أردنا دراسة تأثير مؤثر معين على مجتمع هل يمكننا ان نقوم بذلك بنفس الوسيلة؟
امام صعوبة واستحالة التحكم بالمتغيرات وضعف الادوات المتاحة فمثلاً لو اردنا القيام بتجربة سنجد انه حتى تجارب علم النفس تعاني من مشكلات اخلاقية تُثار ضدها اذا ما حاولت ان تجعل من الفرد او المجموعة عنصراً للتجربة. مثال على ذلك الإشكاليات التي أثيرت على تجربتي ستانلي ميلغرام وتجربة السجن[11]. لو أردنا قياس تأثير الفقر، التكنلوجيا، طقس ديني معين، نوع من الأدوية، امتلاك السيارات، الحرب على مدينة صغيرة فلن نتمكن بسهولة من تسليط أي من هذه المؤثرات على المدينة، كما هي السهولة في تسليط الدواء على البكتيريا ولو تمكننا من ذلك فمن المحال حالياً ان نغطي الامر بشكل كلي من ناحية علم النفس بل من ناحية احصائية فقط.
لكن علماء الاجتماع مع هذه العوائق لا يناقشون اموراً محددة بهذا الشكل في كثير من الاحيان وكثير من الامثلة على هؤلاء، نراهم يناقشون حقائقاً تمتد على مساحات جغرافية كبيرة ضمن فترات زمنية طويلة رغم عدم الاعتماد على الادوات حتى. ذلك الطرح لا يمكن وصفه بالجرأة وانما بالاستهتار.
يدرس علماء الاجتماع تأثير العلاقات بين الخصائص التحليلية للوحدات الاجتماعية، مثلا ما يسمونها النظرية البيئية في علم الاجتماع تهتم بشكل اساسي بالعلاقات السببية بين الانسان والبيئة، هناك نظريات اخرى تهتم بدور التكنلوجيا او العلاقات بين البشر انفسهم او تأثير السلطة او الاقتصاد. يبدو منطقياً الكلام بهذه الطريقة لاسيما اذا كان هناك نوع من التخصص الى حد كبير لكن التخصص هنا بحد ذاته هو اشكالية اذ لا يمكن دراسة المؤثرات بمعزل عن المؤثرات الاخرى والحصول على نتائج دقيقة، فيبقى الأمر يتراوح بين التفسيريين والوضعيين من علماء الاجتماع الجماعة الاولى مع مناقشتها لصور كلية دون أدلة كافية وامكانية تحول الطرح الى طرح دوغمائي كما في كارل ماركس او الجماعة الثانية التي اما ان تتبنى الوضعية كلاماً وتشذ عنها منهجاً وأما ان تقتصر على مناقشة حقائق صغيرة متباعدة غير كافية لبناء نظريات.
خلل كبير في علم الاجتماع منذ مطلعه
مناقشة الاسماء الكبيرة في علم الاجتماع قد يقودنا الى صورة اكبر عن حجم المشكلة. تلك الحفنة من الاشتراكيين التي جعلت في علم الاجتماع لاهوتاً وطريقة يمكن من خلالها فرض دوغما معينة بأبسط الطرق، فعالم الاجتماع يتحلى بصفة علمية ويحمل طرحاً يحمل ملامح منطقية حتى وان كان مجرداً من المنطق، انه يختزل المشكلة والحل بطرق ساذجة كافية لتجييش الجموع بسهولة.
اوغست كونت
يسمونه ابو علم الاجتماع وهو مفكر فرنسي كان هو من اوجد المصطلح علم الاجتماع (السوسيولوجي) آمن بما اسماه الفيزياء الاجتماعية حيث كان يعتقد بوجود مراحل تاريخية للحياة البشرية واذا ما استطعنا ان نمسك بنقاط التقدم في الحياة البشرية فإننا سنستطيع ان نعثر على العلل الاجتماعية ليس ذلك فحسب بل العلاجات المطلوبة لها. لكن كونت كان يعتقد بالمنهج العلمي وبإمكانية تحويل علم الاجتماع الى علم كأي علم طبيعي وبما أنه لم يستطع عبر المنهج العلمي ان يحدد وحدة بناء المجتمع او المادة للمجتمع وذلك امر مهم وصفة دائمة للعلوم الطبيعية فقد توجه كونت الى الكتابة الفلسفية في الوضعية (Positivism) التي يُعد مؤسسها والتنظير حول ما اسماه دين الانسانية وهي رؤية كتب عنها ضمن كتابته في الوضعية تتضمن ايجاد حلول للبشرية عبر علم الاجتماع بشكل علمي تسمى تلك الرؤية اليوم أيضاً بعلم الاجتماع العلمي.
وفق رؤية كونت فإن عالم الاجتماع يجب ان لا يكون ممن يركزون على الاقتصاديات او رياضيات علم الاجتماع التي تشمل الاحصاء وغيرها وانما يجب ان يركز عالم الاجتماع على علم الاحياء لانه العلم الاول الذي يدرس وحدة المجتمع وهي الانسان. ما بعد هذا القول عن علم الاجتماع اليوم[12]؟
كخلاصة لطرح كونت، كونت وضع رؤية لما يجب ان يكون عليه علم الاجتماع. لكنه لم يكن باحثاً اجتماعياً يبحث عن المشاكل ويقدم الحلول.
كارل ماركس
ويدعونه احيانا الاب الحقيقي لعلم الاجتماع لم يكن وضعياً (Positivist) مثل كونت بل رفض وضعية كونت واتجه نحو الجدلية المادية (dialectical materialism)، عند قراءة اي من كتاباته سنجد سيلاً من الاستنتاجات المتعاقبة بناءاً على تسلسل منطقي ملئ بالفجوات تَخلص في النهاية الى الصورة التي يُريد رسمها للمشكلة وهي نشوء طبقة البروليتاريين اثر الثورة الصناعية والوضع السئ المميز لتلك الفئة ثم الحل بالقضاء على الطبقات الاجتماعية تماماً. لا حاجة للخوض في مدى فشل تلك التجربة بشكل عالمي. ولعل افكار كارل ماركس هي تجربة من تجارب علم الاجتماع القليلة التي حظت بذلك القدر من التطبيق الى حد الاجبار وعلى مستوى اجتاح العالم وفي نفس الوقت حظت بذلك القدر من وضوح فشلها.
إن ذلك السرد المبني على حجج منطقية غير مفصلة وغير خاضعة لأدنى تشكيك او تمحيص ومع السذاجة التي سيكون عليها سيكون قابلاً للاستيعاب والانتشار بسرعة كبيرة بين الناس تحت ظروف معينة، لكن مع القليل من التفكير لا نقول العلمي بل المنطقي فقط سنجد الخراب الكبير في ذلك الطرح.
هربرت سبينسر
كان يجمع بفلسفته بين الربوبية والوضعية من جهة ومن جهة اخرى كان يتبنى مفهوم التطور في علم الاجتماع وما يعرف الداروينية الاجتماعية وقد كانت له رؤية مشوشة عن التطور قبل داروين، وبعد النظرية طبق نظرية التطور على علم الاجتماع وكون تلك الرؤية حول ان المجتمعات تختار الاشخاص الافضل للقيادة وتسيير الامور وذلك من اجل البقاء. وهي معاكسة تماماً للطرح الماركسي الذي يحاول القضاء على الطبقات. كان لهربرت سبنسر حضوراً في المجتمع العلمي رغم انه لم يكن عالماً ولم يقدم طرحاً علمياً سوى انه قدم تنظيراً في جوانب عديدة منها الفلسفة والسياسة والادب وكان من ضمن ما كتب فيه هو علم الاجتماع.
سبينسر كان يقول ان المجتمعات هي مثل الكائنات الحية وهي تتطور مثل الكائنات الحية ولم يكن كلامه نابعاً من اي نظرة بيولوجية. كان يقول ان المجتمعات تبدأ بسيطة ثم تصبح اكثر تعقيداً. كما وضع تشابهاً بين الحيوانات والمجتمعات من حيث ان لكلا الاثنان جهاز تحكم يتمثل بالحكومة في حالة المجتمعات بينما يتمثل بالجهاز العصبي المركزي في الحيوانات. كما ان هناك نظاما للاكتفاء في الاثنان يتمثل في التغذية لدى الحيوانات والصناعة لدى البشر بما فيها الاموال والوظائف والاقتصاد بأسره ومن ثم نظام التوزيع الذي يتمثل بالجهاز الدوري في الحيوانات بينما يتمثل بانظمة الاتصالات لدى المجتمعات. هربرت سبينسر هو صاحب المقولة البقاء للاصلح. يرى سبينسر ان الاغنى والافضل حالاً هم الافضل في المجتمع انطلاقاً من رؤيته تلك. كما كان يرى ان الاقوى من حقه ان يأكل الاضعف وافكاره الهمت النازيين الى حد ما لاحقاً. وهو أيضا من مؤسسي النسق الاجتماعي مع دوركهايم وكونت والتي تؤمن بأن المجتمع يتكون من عدة اجزاء وكل منها يقوم بمهمة معينة مثل الاقتصاد الحكومة التعليم العائلة الدين..الخ وعندما يؤدي كل من هذه مهمته بشكل جيد فسيمضي المجتمع نحو الاستقرار وهو كالجسد والاجهزة المختلفة له[13].
اميل دوركايم
لم يلتفت للنجاح الكبير للرأسمالية في اغناء الشعب وجعله اكثر حرية لكنه ركز على انها تفعل شيئاً في عقولهم وبالتحديد على جعلهم ينتحرون. حتى انه كتب كتاباً بعنوان الانتحار تضمن احصائيات عن الانتحار مقترنة بالمناطق الاكثر صناعية. كما قارن معدلات الانتحار بباقي البلدان المجاورة لفرنسا وكان يرمي بذلك التركيز على الكآبة والحزن المتسبب من الرأسمالية. وقد عزى ذلك الى اسباب هي الفردانية ودورة الامل والاحباط في المجتمعات الصناعية والحرية الكبيرة والالحاد (رغم انه كان ملحداً) وضعف الامة والعائلة[14].
افكار دوركايم تلهم الكثيرين للبحث عن حلول وطرق جديدة للتجمع والانتماء. ويعد بالنسبة لتوجهه مصلحاً لاسيما وانه اول من طرح رؤيته بناءً على احصائيات وما زال كثيرون يستشهدون به كرأي رشيد في الحقبة المبكرة من علم الاجتماع. لكن ما فعله دوركايم حول الانتحار لم يكن سمة غالبة على طرحه، إنه اقرب ما يكون للانتقائية في استخدام الاحصاء.
ماكس ويبير
ويبير هو الاخر ضمن الخط نفسه كتب في الاشتراكية بشكل محدد حول تأثير الدين وبالاخص المسيحية البروتستانتية الكالفينية على نشوء طبقة الرأسماليين[15] وهو هنا أيضاً يعيش في نفس الدور الذي يعزو فيه المؤثرات بحسب اراءه الشخصية وتفتقر طريقته فيها لامكانية التخطئة كما انه لم يطرح ما طرحه بشكل علمي، ربما كان يحتاج لدراسة عابرة للشعوب لاثبات وجود ملامح لما يقول، لكنه يكتفي بإسقاط افكاره واراءه كمسلمات.
آخرون
هؤلاء الكتاب ومن رافق اتجاههم من الجدد جمعوا تسمية فيلسوف وعالم اجتماع. مثل روبيرت ميرتون (Robert K. Merton) وماكس هوركيمير (Max Horkheimer) ويورغن هابيرماس (Jürgen Habermas) وتالكوت بيرسون (Talcot Pearson) صاحب النسق الاجتماعي والذي تشعب بالنسق الاجتماعي نحو ادوار المرأة والرجل في المجتمع والذي يدعو لبقاء المرأة في المنزل. الاراء الشخصية مسيطرة على طروحات معظم من في هذا الخط، والنزعات غير الوضعية سائدة ايضاً رغم ان بعضاً منهم يوصف بأنه وضعي علمي التوجه من حيث التسمية فقط والطريقة التي يناقش بها لا الطريقة التي يطرح بها أفكاره.
خلاصة:
علم الاجتماع ليس علماً. هناك نوعين من علم الاجتماع في القرنين الاخيرين، اولهما منهج التفسيريين وهو مزيج من الفلسفة والاراء الشخصية والطرح الجدلي، خلص بنتائج سيئة كثيرة وقامت على اساسه ايديولوجيات كالنازية والشيوعية كان لها من الخراب في العالم الشئ الكثير لانها عاملت الاراء الشخصية لاشخاص معاملة العلماء. وهناك الوضعيون الداعون الى المنهج العلمي ولا سبيل لهم الا الطرق الاحصائية التي تعد غير كافية فهم يستنتجون حقائق متناثرة ضعيفة لا تقيم علماً بطريقتها او بمقدارها. أو انهم يتبنون الاحصاء والمنهج العلمي كلاماً ويستخدمونه بندرة وانتقائية في طروحاتهم.
يوماً ما قد يكون هناك علم نفس اجتماعي ناجح في الوقت الذي يكون هناك علم نفس قادر على فهم الانسان بنفس النسبة التي يفهم الطب بها الجهاز الهضمي او اكثر من ذلك بكثير (في الحقيقة ايجاد جهاز يفهمه الطب بشكل جيد هو امر صعب لكن الجهاز الهضمي يقع في المقدمة ربما).
[5] Sociology and the Real World By Stephen Lyng, David D. Franks P189, Rowman & Latfield Publishers inc 2002
[6] Sociology By Steve Chapman 2004, isbn=1843154471
[7] العلوم الحقيقية : تجميد دماغ الانسان
[8] العلوم الحقيقية نفس المصدر السابق
[9] Philosophy of Science and Sociology: From the Methodological Doctrine to Research Practice, P73 Edmund Mokrzycki 2013 Routledge
[10] Science, Democracy, and the American University: From the Civil War to the Cold war By Andrew Jewett P279
[11] Mental Floss: Psychological Experiments
[12] موسوعة ستانفورد للفلسفة – كونت
[13] Study.com Herbert Spencer
[14] Study.com Emile Durkheim’s Theories: Functionalism, Anomie and Division of Labor
[15] [15] “Weber, Max.” International Encyclopedia of the Social Sciences. 1968. Encyclopedia.com. (March 22, 2016). http://www.encyclopedia.com/doc/1G2-3045001336.html
أظن أن وضع عنوان مثل “علم الاجتماع ليس علما” في موقع “العلوم الحقيقية” الموجه لشعب عربي سريع التصديق لما يقرأه هو امر غير حكيم. كان من الأفضل اختيار عنوان مثل “رأي يستحق القراءة – علم الاجتماع ليس علماً” وقتها سيعرف القارىء البسيط أن هذا مجرد رأي، ولن يظن ان موقع العلوم الحقيقية يعتمد هذا الرأي.
في رأيي الخاص: نعم علم الاجتماع علم حقيقي عظيم ومعقّد جداً، رغم أنه يعتمد على الرأي والتحليل والقوانين الظرفية اكثر من الاعتماد على القوانين الحتمية المطلقة.
للحديث عن علمية علم الاجتماع ، يجب التطرق للامر بطريقة إبستمولوجية ، كما ارى انكم لم تتطرقوا لمكانة المهنج الكيفي بجانب المنهج الكمي الاحصائي ، كما إن نظريات الاولى لعلم الاجتماع وكما ذكرتم كانت اسهامات راكمت المادة المجتمعية
كان لها حق من الخطأ لكن الا تذكرون القاعدة الابستمولوجية
العلم تاريخه قطائع و اظن ان خذا ما قاله باشلار .
ثم انكم تطرقتم لماركس ، فهو لم يكن عالم اجتماع ، بل اعطى اسهامات غنية للحقل السوسيولوجي ، وان امعنتم النظر في امثلة التي اعطيتموها فإنها تتوفر على علاقة سببية ودراستها تقتضي فحص بين المتغيرات ، كما لاحظت انكم تطرقتم للنظريات الكلاسيكية ماذا عن نظريات و المناهج الحديثة .
مثلا : كتاب أنتوني غيدنز – علم الاجتماع ، ستجدون ما يكفي لإثبات علمية علم الاجتماع ، كما هناك العديد من المراجع التي استطيع ان ازودكم بها بإعتباري طالب ماستر تخصص علم إجتماع
و من اهم مميزاته هي لا وجود لنظرية شاملة مفسرة تفسر المجتمع ، ولمعرفة ذلك انصحكم بإطلاع على إبستمولوجيا .
و بتزييفكم لعلم الاجتماع فانكم تزيفون كافة العلوم الاجتماعية بما في ذلك الانثروبولوجيا و الاقتصاد و علم السياسة و الجغرافيا…
هل استطيع معرفة المكانة العلمية لكاتب المقال ؟
أعتقد أنني تطرقت لمعظم الجوانب الهامة، وأول ما ذكرت هو دور الإحصاء، إن الاحصاء لا يُقيمُ علماً، لأنه لا يعطي تفسيرات، بل فقط يكشف عن ظواهر، وهنا عليك أنت أن تقرأ حول المنهج العلمي لكارل بوبر لتطلع على ماهية العلم. نحن لم نُزيف علم الإجتماع بل قلنا أنه ليس علماً واستشهدنا بأقوال بعضٍ من أعلامه ممن يوافقون أن علم الأجتماع لا ينطبق عليه مفهوم العلم الطبيعي. نعم الانثروبولوجيا والاقتصاد والسياسة كلها ليست علوم لكنها معارف معتد بها، تقدم سياقات معينة لحدوث أمور بالغة التعقيد لكنها لا تقدم التفسير الجزيئي الدقيق لها، يوماً ما قد يكون علم الأجتماع علماً بعد أن تتقدم علوم الأعصاب وعلم النفس بالشكل الكافي، أما حول تخصص الكاتب فسأفوت عليك الفرصة للشخصنة أو لمغالطة التخصص. ناقش كلامي ولا تناقش شخصي، هل يهمك كوني غير متخصص أصلاً او متخصص في علوم الفضاء لو كنت قد كتبت كلاماً ذو أثر في مجال معين؟ لاسيما وأنني ناقل فحسب.
كان لمقالك دورا حاسما في تغيير رؤيتي للعلوم الاجتماعية و الانسانية و كذلك المنهجية المعتمدة في العلوم الحقيقية (كالفيزياء و الكيمياء و البيولوجيا ….الخ) , و ما اثار انتباهي كذلك هو تساؤلك ان كان علم النفس متكامل , اريد رايك حول مدى علمية ”علم” النفس لو سمحت , بعبارة اخرى , هل يمكن اعتبار علم النفس علما حقيقيا طبقا لنفس مفهوم العلم الذي استخدمتموه لاعتبار علم الاجتماع علما زائفا ؟؟
مهلاً أخي، لا يمكنك إعتبار العلوم الإنسانية ومنها علم الاجتماع علوماً زائفة، العلم الزائف غالباً ما يتستر على خرافة بمصطلحات علمية، وهذا الأمر لا يفعله علم الإجتماع ولا يدعي شيئاً.
كون العلوم هي أرفع المعارف فإن ذلك لا يعني أن باقي المعارف هي محض هراء. علم الإجتماع هو معرفة تتضمن آراءاً صحيحة وآراءاً خاطئة وتتضمن حقائق قابلة للتخطئة وأخرى تعد قابلية التخطئة بالنسبة لها أمراً شبه محال وهو الأمر الذي يجعل علم الإجتماع بعيداً عن العلوم من الناحية التنفيذية لا من الناحية المنهجية وكذلك الحال مع باقي العلوم الإنسانية. بمعنى أن هناك مجالات في علم الإجتماع كبعض حقائق علم النفس الإجتماعي تمتاز بالعلمية الشديدة وتعد حقائق علمية. وهناك في نفس الوقت مجالات ليست سوى فرضيات وآراء شخصية.
هل ينطبق الأمر على علم النفس؟
كلا، علم النفس وبعد التطورات الكبيرة في التسعينات والثمانينات وظهور علم النفس المعرفي وحتى ما سبق ذلك من رحلة علم النفس السلوكي الحذرة والعلمية، كل ذلك يعد علماً، لكن هناك فرق بين علم ما زال في مهده وعلوم وصلت أسمى درجات الإثبات. وبالنتيجة ولضعف علم النفس بهذه الشكل فمن الصعب أن ينال علم الإجتماع ما يكفي من الحقائق لتوفير الإثبتات التي تجعل منه علماً وسيبقى مستنداً الى الاحصاء طيلة تلك الفترة والاحصاء لا يُقيم علماً، في الواقع لا حاجة لعلم الإجتماع بتسميته هذه لو كان لدينا علم نفس متكامل أو متقدم الى مرحلة معينة. سنتذكر سوية هذا النقاش بعد 20 سنة عندما نشهد تطورات فائقة في علم النفس، وسنحاول أن نغطي تلك التطورات طيلة هذه السنوات.
علوم زائفة بمعنى انها تدعي العلمية و هي ليست علما , نعم اتفق معك في كونها مجموعة من المعارف , و لكن اذا عرفنا العلوم الزائفة هي كل ما يتستر بستار العلم و لكنه ليس علما حقيقيا فان هذا التعريف ينطبق على العلوم الاجتماعية و بالتالي هي علوم زائفة (هذا لا يناقض كونها مجموعة المعارف و اراء فلسفية)
بالنسبة لعلم النفس فلازلت لا ارى ما الذي يميزه عن باقي ”العلوم المرنة”
حتى الطرق التي تتبعها المدرسة السلوكية لا تجعله علما , فهذه المدرسة ظهرت في فروع اخرى كالعلوم السياسية مثلا و انا كطالب في هذا التخصص اؤكد لك ان هذاالاخير ليس علما 🙂 و بالتالي ان كانت المدرسة لم تجعل علم السياسة علما فكذلك لم تجعل علم النفس علما
اتمنى ان توضح اكثر ما المميز بعلم النفس فهو يعتمد الاحصاء كباقي العلوم الاجتماعية و الاحصاء _كما ذكرت في مقالتك المميزة_ لا يقيم علما , ماذا بجانب الاحصاء ؟ و رجاء لا تقل لي FMRI فهي تستخدم نادرا جدا في هذا الفرع و هي اقرب اكثر الى علم حقيقي يسمى ”علم الاعصاب” ؟ و اخيرا هلا ذكرت امثلة عما سميته ”حقائق علمية” في علم الاجتماع ؟
ليس هذا فحسب، العلوم الزائفة تُحاسب وفق طبيعة افتراضاتها، فرق بين شئ يُمكن إثباته لكن ربما في السنين العشرين القادمة وليس الآن وبين شئ لا يُمكن إثباته أبداً ولا يمتلك أي أدلة. يفتقر لقابلية التخطئة. الفلسفة من هذه العلوم الانسانية لا تدعي العلم ولا تزعم ذلك وهي تقول أنها آراء فقط رغم تقديس البعض لها واعطائهم مكانة خاصة لها. أما الاحصائية منها فيعتمد على طبيعة ما تحاول اثباته وهل يكفي الاحصاء له أم لا. بعض الأمور يمكن ان يجيب عليها الاحصاء لتكون هي بذاتها حقائق علمية لكن لن يكون التخصص الذي يضمها علماً إن لم يكن يحتوي على وسائل اخرى. فرق بين النظر للامور على مستوى الحقائق والمفردات والنظر اليها على مستوى التخصصات.
أما علم النفس فربما تستخدم الادوات الحديثة بقلة هنا، لانها غير موجودة لكن في الدول المتقدمة هناك علم نفس رصيد يسير بخطى ثابتة نحو التكامل. وبتكامله سينتج لنا علم اجتماع قوي أيضاً.
احسنت التعليق المقال هو عبارة عن تلفيق يدعي العلم.
صديقي احترم رأيك ، لكنني لاحظت انك غير مطلع على منهج العلوم الانسانية بصفة نهائية و هذه هي الإشكالية .
فلا مجال للمقارنة بين علم طبيعي و علم إنساني ذلك لإختلاف المنهج المتوخى في كل دراسة ، على سبيل المثال : يمكنك ان تدرس الموضوع وذلك بإدخاله للمختبر
لكن الانسان لا يمكن ، بحيث ان ادراكه سيتغير و لن نحصل على نتائج ، لذلك فإن مناهج العلوم الإنسانية تطورت ابستمولوجيا لتركز في دراستها للانسان على المتغيرات التي تحيط به ، و ترصدها من خلال مؤشرات ذات علاقة بالموضوع
فدراسة اميل دوركايم للانتحار لم يعتمد على إحصائيات بل قدمها الى جانب منهج النوعي و استشهادك ببعض اعلامه لا يكفي ، كما اردت ان أجيببك عن سؤال
نعم يهمني امر تخصصك يا صديقي لانه الحديث عن الأمر ابستمولوجيا يقتضي التخصص ولم يكن للشخصنة
انصحك بهذا المرجع لريمون بودون-مناهج علم الاجتماع
الاخ العزيز، لو راجعت فلاسفة العلم فلن تجد علما اخضر واخر احمر هناك مفهوم واحد للعلم يرتكز على مبدأ التخطئة وعلى المشاهدات والفرضيات والبراهين. اما ما يعرف بالعلوم الانسانية فهي محض اداب وهكذا هو اعتبارها في المؤسسات العلمية المحترمة حول العالم اذ ينال دارسوها شهادات ماستر تختصر ب ma.
سبب هذا التصنيف العلمي الدقيق وهذه المكانة لهذه الدراسات هو ما يمكن ان تحدثه من كوارث، دراسة في شأن اعتيادي تخطئ في متغيرات وارقام البحث تؤدي الى كوارث فما بالنا بدراسة لا تستند الا لافكار واستنتاجات فلان وفلان،لا عزاء لك في ذلك كونك طالب ماسترفي علم الاجتماع لكن يمكنك ان تنحو منحى الاحصاء فهو اعلى دليل يمكن ان تبلغه دراستك، لعل الاكتشافات في علم النفس والاعصاب تسعفها يوما فتجعل منها علماً.
صديقي العزيز ، حتى الآن وجهة نظرك مقبولة ، الا بشأن التخصص الذي ادرسه فلا شأن لك في ذلك و أظن أن سقطت في فخ الشخصنة ، استطيع سؤالك ، إذا كانت العلوم الانسانية ليست بعلوم لماذا يتم دراسها في الجامعات عبر العالم ، اظن ان حديثك هذا لن يكتمل الا اذا انفتحت على المناهج و العلوم الإنسانية ، و كفى من التعصب العلمي .
ايضا يا صديقي الاحظ ان دائمت ما تذكر علم النفس ، هل يحظى بالعلمية بالنسبة لك و العلوم الانسانية مجرد آداب
علما ان علم النفس يندرج ضمن العلوم الانسانية بإعتبار أن الإنسان موضوع الدراسة .
قد استنتجت من حديثنا انك تقر ان الانسان لا يمكن دراسته .
نعم يوجد علم اخضر وعلم احمر و جوابه في الفلسفة منذ ظهورها ، وقد صدق غوته : من لم يتعلم الدروس ثلاثة
آلاف الأخيرة لم يتعلم شيئا .
ليس كل ما يُدرس هو علوم، وليس كل ما يحمل إسم علم هو علم حقيقي، دون مقارنة لكن علم المنعكسات مثلاً علم زائف وغطاء للخرافات ويحمل في تسميته كلمة علم. العالم يدرس الاداب والفلسفة وليس العلم هو المعرفة الوحيدة. اما قولك عن علم النفس فنعم في مناهج تدرس ادبيات كالتحليل النفسي بالتأكيد يعتبر علم النفس آداب عندها، لكن في العالم المتمدن اليوم فعلم النفس صار يغلب عليه المنهج المعرفي الذي تعد دراسته علمية.
نعم الانسان لا يُمكن دراسته حتى يُحسم فهم العقل بشكل كامل، وهذا كان منهج السلوكية طيلة القرن العشرين، لكن اليوم لم يعد صحيحاً تماماً فعلم النفس المعرفي وعلم الأعصاب صار يمتلك أدوات أكثر تطوراً ليقول أن الصفة الفلانية تقع في الجزء الفلاني والمهارة الذهنية الفلانية تقع في الجزء الفلاني من الدماغ.
قد تقول أن هناك علم أحمر وعلم أخضر لكن في النهاية هناك منهج علمي واحد وهناك دراسات علمية في الجامعات تتخذ طرقاً علمية وسيكون هذا هو العلم (س) لكن علم الاجتماع لن يكون ضمن نطاقه.
اكرر نصيحتي لك بالإتجاه الى الاحصاء فهو الجزيرة المعرفية المحترمة الوحيدة في بحر الهراء الذي يخلد فيه علم الإجتماع حتى الان.
مع التقدير
صديقي لا تتازم اظن انك تعرف الحرية و اخلاق و الفكرة ام انك لم تدرس الفلسفة ايضا ، فعلا انني اتحسر لك فانت لا تختلف عن المتطرف سوى انه يؤمن بدين خالد و انت تؤمن بعلم خالد لا يخضع لتغير كما اريد ان اذكرك انك مجرد ناقل للنص و قد قلتها و اكتشف تناقضك واخيرا عندما تريد نقد المعرفة العلمية يجب ان تكون على تجربة طويلة في الميدان يا صديقي كما انك كسول في الابستمولوجيا و اتحداك انك لم ترجع لأي من المراجع التي زودتك بها ، اعلم ان رغم بحثك في هذا الحقل فإنك لاتزال مبتدئا و ستغرق في بحر المفاهيم و احذر تهكمك قد يهجم عليك جيش من سوسيولوجيين
ولا شأن لك في تخصصي ، فهذا العلم و الذي اصر على قوله علم بمعنى الكلمة فالعلوم الطبيعية تأخذ كنموذج للحقيقة ، لكن اذا تخصصت ستعلم القياس و تعرف معنى التقنيات المستعملة في البحث ولا تحكم عن السوسيولوجيا الكلاسيكية فاذا اخطئت قد اجتهدت ، اما النظريات المعاصرة كالتفاعلية الرمزية و غيرها ، ارجع للكتب و كفى من الهرطقة
افتراضك عدم اطلاعي على نظرية المعرفة ووجوب قرائتي لما تنصحني به وكسلي وجهلي وضعفي العلمي بخلاف ذلك هو افتراض لمكانة عليا مزعومة تمتلكها تجعلك تحكم على ما اطلعت عليه وما لم أطلع، على حالتي النفسية، على وضعي كمتطرف، تحلل شخصيتي، تقرر ما يجب أن أفعل. لننتقل بعدها الى الجيوش والهجومات والكلام عن الهرطقة.. لا عزاء لك
اظن ان حديثك قد طال و تحول من نقاش الى شخصنة
نهايته هنا ، نصيحتي لك اقرأ المزيد ، ودعك من التعصب العلمي
حكمت عليك انطلاقا من حديثك معي و لم تتطرق للامر بطريقة معرفية ، اذا كنت تستطيع ذلك ، قم بإعادة النص من منظور ابسمولوجي ، ولم احكم عليك انطلاقا من مكانتي العلمية بل انطلاقا من افكارك التي اعطيتني اياها .
يبدو مقالا مثيرا من خلال تصفحه بشكل سريع. لكن لي عتب على الكاتب. كيف تسوق عبارة خاطئة تاريخيا ومنفرة عنصريا. وهي أن العراق على خط فاصل بين حضارة الفرس وبداوة العرب!! شيء مضحك من عدة جوانب.
أولا العراق بلد قائم بنفسه وليس تابعا أو مرتبطا بالفرس، بل على العكس لطالما كان العراق هدفا للاستغلال والاقصاء وفرض النفوذ بالاعتداء العسكري من قبل الشعوب الايرانية وخاصة الفرس منذ العصور القديمة، فالعراق بلد الحضارات العريقة يتعرض للخراب من ما تزعم أنهم أهل حضارة (الفرس).
ثانيا، الشعوب التي عاشت في العراق وبنت الحضارات القديمة الرائعة هي شعوب جاءت من الجزيرة العربية التي تعتبرها بادية، بمعنى آخر من بنى أشهر الحضارات في العراق أصولهم من بلاد العرب لا بلاد الايرانيين (الفرس)، وبالتالي فبلاد العرب والعراق هي امتداد لبعضهما البعض وليس بينهم خط فاصل إلا في أوهام العنصريين والذين يريدون تزييف التاريخ لأهداف شعبوية وسياسية ودينية، بل بلاد العرب هي المزود للعراق بالشعوب التي نهضت بحضاراته، وحين دخل الفرس العراق ماتت حضارات العراق وكاد العراق أن ينسى، إلا حين أعاد مجده العباسيون العرب.
ثالثا، ترديد أن الفرس أهل حضارة وأن العرب أهل بداوة هو إما جهل بالتاريخ أو ترديد لأقوال المتعنصرين الفرس الذين يرون أنهم شعب الله المختار. العرب أقدم ذكرا من الفرس بآلاف السنين، ولهم حضارات قديمة جدا قبل أن يظهر للعالم مسمى “الفرس”. ثم أن هذه المناطق هي بلاد العرب ولا يعرف أن شعبا زاحمهم عليها من قبل، أما الفرس فهم قوم طارئون على المنطقة (جدد بمقياس التاريخ القديم)، وهم أيضا كانو بدوا رعاة جاؤو كقبائل من وسط آسيا وتعلمو الحضارة من الشعوب التي سكنت أرض ايران ومن الشعوب المجاورة مثل حضارات العراق. ليست لهم أصالة تاريخية استثنائية حتى يتطاولون على العرب الأعرق ذكرا. ويكفي برهانا على عظمة حضارات العرب القديمة السابقة على الفرس وغيرهم أن العرب نجحو ببراعة في ابتداع لغة مكتوبة (أحرف هجاء) خاصة بهم ولم يكونو كسالى ويستعيروها من غيرهم من الحضارات كما فعل الفرس.
الاكتشافات في الجزيرة العربية تتلاحق وستكشف عن مفاجئات قد تغير نظرة جميع المؤرخين وعلماء الاجتماع بتاريخ المنطقة، وليس آخرها اكتشاف حضارة المقر العظيمة.
واضح جداً أنك لم تقرأ من المقال شئ، فهذه العبارة هي من المقتبسات المأخوذة من علي الوردي الذي يتعرض هو ومنهجه للنقد في هذا المقال وليس كما مرت عيناك على العبارة وظننت أننا نسوق لها. والعبارة هي نموذج للأحكام التي يصدرها الاجتماعيون مع نقدها.
جميل، شكرا للتوضيح.
أنا ذكرت فعلا أني مررت سريعا بنظري ولم أقرأها. ولكن سبحان الله هي من العبارات التي شدتني كثيرا لذلك تحمست للكتابة وتوضيح وجهة نظري.
سأعطيك ملاحظاتي إن وجدت حين أقرأها بهدوء إن شاء الله