الدكتور جعفر الجوذري مختص في علم الجيولوجيا الاثرية من جامعة درهام في المملكة المتحدة بشهادة الدكتوراه 2014-2016، وحاصل على الماجستير في علم الجيولوجيا من جامعة بغداد ويعمل استاذاً في جامعة القادسية في العراق. سجل له اثبات تسع تحولات تاريخية في نهري دجلة والفرات بعد ان كانت الساحة العلمية لا تعرف سوى ثلاثة. سنتكلم في هذا اللقاء عن التحدي المناخي الذي يواجه نهري دجلة والفرات، وعن تاريخ هذين النهرين في الظاهرة التي يجهلها الكثيرون عن تغيير الأنهر لمجراها.

استمعوا على جوجل بودكاست

آبل بودكاست

سبوتيفاي

رابط المقال على الموقع: https://real-sciences.com/?p=16820

كيف تصفون مجال دراستكم؟ ما هي الحقائق التي تغطونها وما هي التطبيقات الأهم لدراسة الأنهر والمياه تاريخياً؟

مجال دراستي هو الجيولوجيا الاثرية مجال نادر يجمع بين الجيولوجيا (علم الأرض) وعلم الاثار (archaeology). لذا فقد كان لي مشرف جيولوجي في الدكتوراه وهو الأستاذ مارك الين (Mark Allen) ومشرف آخر وهو الأستاذ توني ويلكنسون (Tony James Wilkinson) وهو مختص بعلم الآثار. وكلاهما أصحاب خبرة في اثار وجيولوجيا العراق. لدينا في الجيولوجيا حوالي 12 تخصص مختلف، وفي الاثار هناك أيضاً حوالي 15 تخصص. لكن هذا التخصص هو نصف جيولوجي ونصف آركيولوجي فهو يستخدم قوانين الجيولوجيا لفهم الآثار. آخر 10 الاف سنة تعد مشتركة في دراستها بين الجيولوجيا التي تدرس تكون الكرة الأرضية حتى الان اما الاثار فهي التي تدرس الانسان وموجوداته خلال اخر 10 الاف سنة، لذا فحين أتكلم للآثاريين أتكلم كجيولوجي واقدم لهم شيئاً جديداً بالنسبة لهم وأتكلم مع الجيولوجيين كآثاري واقدم لهم ايضاً اموراً ليست في مجال تخصصهم. لذا بالإضافة الى الجغرافية، فإن هذا يوفر لي معلومات كثيرة، لكن المشكلة في إيصال هذا التخصص للجمهور العراقي سواء في الجيولوجيا او الاثار او الجغرافية تكمن في ان معظم ابحاثي ورسالتي هي باللغة الإنجليزية، مع ذلك فقد سعيت لادخال مادة الجيولوجيا الاثرية لتدرس في الجامعات وهي اليوم تدرس في تسعة اقسام دراسية في العراق وانا اعتبر هذا وفاءاً للبلد حيث أنني طالب بعثة وقد تحمل العراق كلفة بعثتي الدراسية لذا فكان يجب ان اضيف شيئاً حين أعود، وما أفخر به ربما هو إضافة هذا التخصص للعراق. حالياً، معظم البعثات التنقيبية الأجنبية والعراقية، والباحثين في مجال الجيومورفولوجيا والجيولوجيا والاثار كلها تأخذ على عاتقها دراسة الجيولوجيا الاثرية.

الأمر الآخر وأنا لا احب التركيز على شخصي، لكنني اطرح الأمر كحقائق، حينما أكملت الدكتوراه عام 2016 في العراق، تواصلت مع معظم الفرق الاثرية الذين صدف ان يكون كثير منهم زملاءاً او أساتذة، ليقوموا باتخاذ الجيولوجيا الاثرية كمهمة وكجزء من عملهم، فضلاً عن طرائقهم الموجودة والمعتمدة. ستلاحظ منذ 2016 هناك زيادة في الاكتشافات ذات الصلة بالجيولوجيا الاثرية في العراق وهو قد يعزى لجهودي في نشر هذا المجال. الكثير من الفرق الأجنبية التي تدرس في العراق تخصص اموالاً وجهوداً للدراسة من جانب الجيولوجيا الاثرية.

لاحظنا استشهادات كثيرة بابحاثكم وصوراً التقطتموها في جنوب العراق، لكن لنعد الى مجال الدراسة، هل تقوم الجيولوجيا الاثرية بدراسة الأنهر والمياه بشكل رئيسي؟ انتشر مؤخراً بحث حول الجفاف في شبه الجزيرة العربية في فترة قبل ظهور الإسلام وتكلموا ايضاً عن تحليل له صلة بتساقط الامطار. فهل المجال قائم على دراسة الأنهر والمياه ام ان هناك مجالات وفروع أخرى في الجيولوجيا الاثرية؟

هناك مجالات وفروع أخرى. لكن لأن العراق هو بلاد ما بين النهرين، فإن الجانب العراقي اخذ على عاتقه دراسة قنوات الري والانهر القديمة. لكن بالتأكيد فإن الجيولوجيا الاثرية تدخل في الأدوات الحجرية، أنواع الصخور، البيئة القديمة، الاهوار، حبوب اللقاح القديمة، السبورات، المتحجرات ومجالات أخرى كثيرة. لكن ما يهم في المنطقة العربية والشرق الأوسط هو الأنهر وقنوات الري وطرق النقل. هذا كله يعرف بشكل سطح الأرض اثارياً (landscape archeology). فما الذي يظهر على سطح الأرض؟ الأنهر، الاسوار، الخنادق، الطرق، المسالك النهرية، الاهوار القديمة، العيون، واي شيء يظهر على سطح الأرض. حينما نأتي لطرق الري (نقول طرق الري لأنه لا يقتصر على القنوات فتوجيه الامطار ليس فيه قنوات مثلاً)، او استخدام الكهاريز والتي هي ايضاً ليست قنوات ري. لنقل انه نظام الارواء بشكل عام (irrigation system)، ما يجمع كل هذه المجالات هو دراسة اثار سطح الأرض الذي ذكرناه.

 

كيف تخدم النصوص التاريخية الدراسة العلمية في فهم المناخ والأنهر؟ ما هي الوسائل الأخرى لدراسة للمناخ والأنهر تاريخياً؟

الكتابات المسمارية مهمة جداً، لانها وثقت عمليات حفر قنوات الري وطرق السقي والفيضانات والصراعات على المياه، كل ذلك وصف وصفاً دقيقاً. أيضا استخدام الانسان المياه للتنقل، الاهوار. لدينا وصف مفصل لآثار سطح الأرض في المخطوطات المسمارية وهذا مصدر مهم جداً اعتمدت عليه في دراستي لآثار سطح الأرض في العراق. المصدر الآخر هو النصوص الساسانية ما قبل الإسلام، والمصادر الإسلامية، ثم الرحالة سواء من العرب او الأجانب. ولك ان تتصور كم مرحلة من مراحل الكتابة والمصادر بجميع تلك اللغات. كل ذلك تم استخدامه لفهم أنظمة الارواء والانهر القديمة.

كل مصدر سيعطي جزء من الحقيقة، لكي تكتمل الحقيقة يجب أن يكون هناك تعدد لمصادر الدراسة. عدم الاستماع للجانب الآثاري يوجه الجيولوجيين الى استنتاجات خاطئة أحياناً، والأمر ذاته مع الآثاريين.  

هناك ايضاً الخرائط القديمة، والصور القديمة، وصور القمر الصناعي السابقة وما نسميها صور كورونا (يقصد به قمر صناعي بهذا الاسم وليس مرض كورونا) في ستينات القرن الماضي. صور كهذه مهمة لأنها تصور سطح الأرض قبل التقدم العمراني، فقد كان هناك غابات ومشاريع ومشاريع زراعية تختلف عما هي عليه اليوم. ثم لدينا صور القمر الصناعي عالية الدقة، وصور الدرون. ما ارجوه هو ان يفهم المستمعون كمية المصادر التي نحتاج اليها لكي نصل الى الحقائق، كل ذلك يسمى العمل المكتبي، ثم يأتي بعده العمل الحقلي، مثلاً تجمع قد الأدلة من العمل المكتبي أن مكاناً ما هو نهر الفرات، لكن دون الذهاب والحفر والقيام بالعمل الحقلي لا يمكنني تأكيد ان هذا بالفعل هو نهر الفرات. إذاً هناك عمل حقلي وعمل مكتبي وعمل مختبري أيضاً لتحليل النتائج. تبدأ من النصوص المسمارية، ثم تذهب للصور الفضائية ثم تذهب الى الحقل لتأخذ نماذج وتقوم بتحليلها وتستطيع بعدها إعطاء النتيجة. هذه هي طريقة بحثنا. بعض الباحثين المحليين في العراق يقتصرون على جانب واحد لاستخراج استنتاجاتهم كالكتابات المسمارية او الصور الفضائية او كتابات الرحالة. كل مصدر سيعطي جزء من الحقيقة، لكي تكتمل الحقيقة يجب أن يكون هناك تعدد لمصادر الدراسة.

الاخوة في قسم التاريخ، او الدراسة التاريخية الذين لا يستخدمون المختبر والعمل الحقلي يجب عليهم ان يستمعوا للمجالات الأخرى. من الأمور الغريبة هي ان قنوات الري غالبا ما تكون مستقيمة، وما يحدث مع بعض الجيولوجيين هو أنهم حين يرونها يجزمون فوراً أنها خطيات (تراكيب جيولوجية خطية)، وفي الحقيقة فإن كثيراً منها هي قنوات ري حفرت في الفترة الساسانية. الجيولوجي لم تمر عليه تفاصيل كهذه فيحكم عليها بأنها تراكيب جيولوجية. ويحدث امر اخر مع الاثاريين، فيظنون أن دجلة والفرات هي ذاتها دجلة والفرات قبل الاف السنين ولا يعلمون ان الأنهار متحركة وغير ثابتة بمكانها. لذا فقد ذكرت لكم ان مجالنا هو مجال يجمع دراسة ثلاثة مختصين سوية.

هل كانت أراضينا أراضٍ خضراء يوماً ما؟ ما هي الحقب المناخي التي مررنا بها خلال الـ 20 الف سنة الأخيرة؟ أعني جميع تلك الأراضي الواقعة اليوم تحت المناخ الجاف من شمال أفريقيا وحتى داخل ايران ومن جنوب تركيا حتى اليمن. نشير الى بحثكم مع مارك الطويل والتدرج من اختفاء أشجار السنديان جنوبي بغداد قبل 6 الاف سنة بعد ان كانت موجودة منذ بداية الهولوسين، ثم ازدهار النخيل قبل 3 الاف سنة، ثم الانتقال الى حقبة اكثر جفافا في الفترة بين 1000 ق.م الى 1000 م مع وجود امطار موسمية.

انا مستعد لأخذ أي شخص يرغب، الى مقلع قريب من الوركاء (جنوبي العراق) عمقه 14 متر في الصحراء. استخدم هذا المقلع لبناء الطريق السريع وكذلك استخدم من قبل معامل الطابوق القريبة. على جوانب المقلع هناك مقطع واضح لطبقات السهل الرسوبي. نزلت الى قاعه وحسبت طبقات الأرض. يبدأ بطبقة سوداء لمتر ونصف، ثم طبقة ذات لون فاتح، ثم طبقة رمادية، ثم تعود الطبقة الرمادية، ثم لون احمر فاتح. ما اقصده من هذه الـ 14 متر هو أنه طبقات جيولوجية ملونة. تمت نمذجة هذه الطبقات بالتفصيل وارسال نماذجها الى مختبرات في بريطانيا. وتم تقييم عمرها ومكوناتها الجيولوجية.

اتضح ان لدينا طبقة اهوار تتضمن القصب والبردي والجواميس والاعشاب الخاصة بتلك البيئة والاسماك والفقريات والطيور تستغرق هذه المرحلة مدة من الزمن بين 100 الى 200 سنة ثم تتحول الى مناطق زراعية جافة يمكن سقيها بالواسطة، ثم تتحول الى مناطق حقول زراعية كالحنطة والشعير وبعض الأشجار. ثم تتصحر المنطقة وتكون فيها كثبان رملية وتأخذ فترة من الزمن، ثم تتعرض للفيضان وتتكون اهوار مرة أخرى، ثم تعود الدورة.

هذا التعاقب موجود وواضح وأي شخص يمكن أن يصدق ما تراه اعينه يمكن أن يرى ما يحدث في ذلك المقلع. هذا هو الحال في السهل الرسوبي، انها ليست منطقة ثابتة وفيها تعاقب بين الاهوار، الجفاف، المناطق الزراعية. وهذا الامر واضح للجيولوجيين وامل ان يكون واضحاً للمهتمين بالتاريخ والاثار من المستمعين.

طبقات الأرض تظهر مراحل مختلفة في السنوات الخمسة الآف الأخيرة - من رسالة جعفر الجوذري للدكتوراه

طبقات الأرض تظهر مراحل مختلفة في السنوات الخمسة الآف الأخيرة – من رسالة جعفر الجوذري للدكتوراه

لكن دكتور حين نتكلم عن أشجار البلوط (السنديان) فهل كان المناخ شبيها بمناطق معينة في اوربا مثلاً؟

لقد سافرت سابقاً عبر البر الى ايران، وحالما تجاوزت العمارة والكوت واتجهت شمالاً قليلاً يمكنك مشاهدة أشجار البلوط حتى في مناطق قريبة من الحدود العراقية الإيرانية. لذا، فهي كنطاق، موجودة في المنطقة. لكنها تحتاج امطار وتحتاج درجة حرارة اقل وهذا موجود في المنطقة. درجة الحرارة في جنوب بغداد كانت ملائمة يوماً ما لنمو أشجار البلوط وكذلك الامطار. في نهاية الفترة الجليدية كان العراق منطقة مطيرة وباردة، انتهت هذه الفترة في الالف الرابع قبل الميلاد او الالف الخامس قبل الميلاد. وكانت مناسبة لنمو أي أشجار أخرى والكثير من الحيوانات التي تناسبها الأجواء الباردة. بعد الالف الرابع او الخامس بدأت زيادة درجة الحرارة لفترة معينة. ما يتحكم بنوع النبات هو النطاق من التساقط المطري درجة الحرارة والرطوبة. ويستجيب نوع المناخ للتغير المناخ فيكون صحراوياً إذا كانت المنطقة صحراوية واستوائياً اذا ما كانت استوائية وهكذا. مناخ جنوب العراق كان أكثر برودة وأكثر رطوبة وكان ملائماً لنمو هذه الأشجار التي يمكن ان نجدها اليوم في شمال العراق وجنوب تركيا وغرب ايران. كان هذا المناخ سائداً في الالف الخامس والرابع وبداية الالف الثالث قبل الميلاد. ثم بدأت الحرارة بالازدياد وبدأت هذه الأنواع بالاختفاء ثم ظهرت أشجار النخيل. كانت موجودة هي بالطبع لكنها ازدادت، واليوم يمكن ملاحظة أشجار النخيل في سامراء وتكريت وحتى في الموصل على نطاق ضيق، لكن ليس كما هي في الجنوب والبصرة. وأيضاً ينطبق ذلك على الحيوانات التي يلائمها هذا المناخ.

المنحنى اليوم يتجه الى زيادة الحرارة وقلة التساقط المطري وقلة الرطوبة وهذا الاتجاه طبيعي بصراحة، لكن المشكلة هي أننا في اخر عشرين او ثلاثين سنة صارت لدينا زيادة استثنائية وحادة في درجة الحرارة. لو كان التغير تدريجياً فلن تكون لدينا المشكلة ذاتها، لكن التغير السريع يختلف. معظم الدراسات تتكلم عن جفاف كامل لدجلة والفرات في العام 2050 او 2040.

يشيع حالياً فهم خاطئ وهو أن تركيا وإيران لا تعطينا حصتنا من المياه، كلا، المنطقة بأكملها تعاني من جفاف عام وسيستمر هذا الجفاف وسيطال تركيا وإيران. المناخ أقسى من أي تغيرات سياسية وأي حروب. معظم الدراسات تتكلم عن جفاف كامل لدجلة والفرات في العام 2050 او 2040.

لنتوقف عند هذه النقطة، هل هذه هي التوقعات حاليا؟

نعم وهذه التوقعات مبنية على بحوث رصينة واستقراءات للمناخ المستقبلي وليست رجماً بالغيب. المختصون يعرفون ان هذه الدراسات تعتمد على مواد توجد في الكهوف تعرف بالستركمات والستركتايت تستخدم لتخمين التغير المناخي. يشمل هذا المنطقة بأكملها وليس العراق، التغير المناخي هو تغير عالمي وحصة الشرق الأوسط منه هي الجفاف بعض المناطق حصتها الفيضانات وبعض المناطق حصتها منه هي الثلوج وبعضها حصتها هي العواصف والفيضانات. الشرق الأوسط حصته العواصف الترابية والجفاف وقلة الامطار. تركيا ستعاني من الجفاف وايران كذلك وأفغانستان. يشاع حالياً فهم خاطئ وهو أن تركيا وإيران لا تعطينا حصتنا من المياه، كلا، المنطقة بأكملها تعاني من جفاف عام وسيستمر هذا الجفاف وسيطال تركيا وإيران ولكن العراق سيعاني منه مبكراً. هناك سبب سياسي لمعاناتنا بالتأكيد وهو نظراً لعدم استعدادنا للازمة لذا سنعاني قبل الجميع وأكثر من غيرنا.

جفاف دجلة والفرات في عام 2050 هو امر حتمي وهو جفاف تام. وسيؤدي ذلك الى تحول جنوب العراق الى صحراء شبيهة بالصحراء في السعودية. وهذا المناخ سيؤدي الى المزيد من العواصف الترابية ودرجة الحرارة المرتفعة. الوضع سيكون مأساوياً جداً. المناخ أقسى من أي تغيرات سياسية وأي حروب. سيتوجه الناس الى الاعتماد على المياه الجوفية حين نفاذ مياه الأنهر، والتي لن تكون كلها صافية، ثم سنحتاج الى تحلية المياه من الخليج، وسنواجه هنا تحديات الفساد الإداري، وعدم وجود أي شبكة او خدمة سليمة حتى نتوقع ان تكون لدينا شبكة تحلية مياه صحيحة وجيدة. النتيجة ستكون هناك هجرة تدريجية من اقصى الجنوب الى الحلة والكربلاء ومن ثم الى بغداد وهكذا. لا ادري ان كنا سنكون موجودين في ذلك الوقت ام لا، لكن حينما ننظر الى الامر من ناحية جيولوجية، هناك مناطق كثيرة جافة. استراليا بمعظمها جافة، شبه الجزيرة العربية جافة كلياً.

الدكتور جعفر الجوذري في احد المواقع

ما هو التسلسل التاريخي لاراضي مثل شبه الجزيرة العربية؟ نحن نعلم انها كانت بمناخ جيد في بداية الفترة الافريقية الرطبة

في الحقيقة ان العراق هو جزء من شبه الجزيرة العربية، فالذي واجهه واجه الجزيرة العربية ايضاً. الفارق الوحيد هو دجلة والفرات، ودونهما نحن لا نختلف عن صحراء شبه الجزيرة العربية وبفضل النهرين اصبح هناك السهل الأسود او الأخضر او ارض السواد. وبغياب النهرين ستصبح الأرض صحراء.

هل الارواء عبر الأنهر يعتبر دليل على زيادة الجفاف وتغير المناخ ليصبح أكثر جفافاً؟

هناك أنواع من وسائل الري، تستخدم وسائل الري ما موجود من مصادر المياه، في المناطق المطيرة من أوروبا والمناطق حول العالم وحين يتوفر ما يكفي من المطر فلن تكون هناك حاجة للري بالواسطة. اما في الحالة المعاكسة فسيتم استخدام المياه السطحية والري بالواسطة. وبغياب الاثنين يتجه الانسان للمياه الجوفية. فإذا نظرنا الى شمال افريقيا والشرق الأوسط فإن الاعتماد على المياه الجوفية او المياه السطحية. في مصر يتم الاعتماد على النيل، في المغرب العربي تستخدم المياه الجوفية ومياه العيون للسقي والزراعة. السعودية وأجزاء من سوريا تستخدم المياه الجوفية او العيون او غيرها. في شمال العراق يمكن ان يستخدم التساقط المطري احياناً. اما جنوب العراق فيعتمد كلياً على المياه السطحية. ليس هناك ربط بين المناخ واستخدام وسائل الري. لكن بشكل عام فإن منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط بحسب السجلات تتجه الى الجفاف. حتى المياه الجوفية المستخدمة في الجزائر وليبيا وأجزاء من مصر قد نضبت في بعض المناطق، بعض العيون نضبت. بعض ما كان يسقى عن طريق التساقط المطري اختفت منه الحياة، وبعض ما كان يسقى بالمياه الجوفية ايضاً، وهكذا الحال مع ما يروى بالمياه السطحية. هذا هو الجزء المظلم من المستقبل، لكن لو تم استخدام دخل النفط والتكنلوجيا الحديثة فمن الممكن أن نبقى في العراق وان نحافظ على سكان المناطق دون ان يتجهوا الى الهجرة الداخلية، ومن الممكن ان نوظف التكنلوجيا الحديثة والنفط لابقاء السكان في مواقعهم، وحتى ما يصلنا من مياه من ايران وتركيا وما موجود من مياه جوفية وما يمكن تحليته من الخليج العربي يكفينا لان نعيش ضمن تنمية مستدامة وأن نبقى في العراق.

مع ذلك فالامور تتجه للفوضى والخطط لمعالجة هذه المشاكل ليست من اجندات السياسيين، وانا الوم الاكاديميين لعدم إيصال هذه المشكلة باخطارها وواقعها للعراقيين. المشكلة أكبر مما ينقلها الاعلام. تلاشت الأرياف في الكثير من مدن جنوب العراق وهاجر الناس بشكل هائل واتجه الناس للمدن الكبيرة واختفت الكثير من الأنشطة الزراعية والرعي، لكن ليس هناك من يكترث لهذا وليس هناك موضوع سوى تركيا وايران وإعطاء عطلة فيما لو تجاوزت الحرارة 50 درجة مئوية. لكن هناك امل وهناك طرق للحل.

في نظرية البناء التخصصي (niche construction) والتي هي نظرية بيولوجية تخصصية نرى الإشارة للإنسان بعلاقته مع الأنهر في تشبيه بالقندس او الكائنات الدقيقة في الحيد المرجاني، كيف نتفاعل مع الأنهر؟ وهل تدخل هذه النظرية في أثرنا سلباً او ايجاباً على البيئة؟

هناك ما يعرف بدلتاولات البثوق والتي هي مواضع في الأنهر يمكن ان يفيض فيها النهر عبر اجراء كسر بسيط في الجانب. هذه المنطقة هي اول منطقة استطاع الانسان فيها ان يوجه النهر وان ينشأ حقلاً زراعياً في المنطقة. وهذا التوجيه لا يحتاج الى الكثير من المهارات او الافراد ويمكن لعائلة واحدة ان توجه النهر وتمارس الزراعة. وهكذا يزداد الاستيطان في مناطق كهذه، ثم يتعلم الانسان توجيه المياه بطرق اكثر تقدما كالقنوات، ثم يزداد عدد السكان وتبدأ القرى والمدن بالتشكل ثم تبدأ الزراعة والحيوانات، ثم يكون هناك صراعات وتوجه ديني وآلهة وقادة وحكومات ودويلات ثم الامبراطوريات. لكن يبدأ الامر من عائلة صغيرة تستطيع استخدام النهر لزراعة بعض المحاصيل ثم تتوسع لتصبح قرية ثم تجمع بدويلة ثم إقليم ثم تتكون الحضارة بأكملها. أيضاً تزداد الأراضي الزراعية ويزداد طول القنوات من بضعة امتار في الالف الخامس او السادس قبل الميلاد الى قناة النهروان التي تمتد من سامراء الى الكوت حوالي 300 الى 350 كيلومتر. ازداد الخبرة ايضاً في أدارة المياه.

 

مثلا حين نتكلم عن هذه القناة الطويلة، هل يمكن أن تسبب أي ضرر للبيئة؟

يمكن للإنسان ان يقوم بأنشطة ضارة للبيئة، او ان يعمل على ازدهار حياته، لكن مع خراب البيئة. تطور الانسان الرافديني ساهم بازدهار التمدن، وخراب البيئة. لو عدنا بآلة الزمن الى 8000 ق.م ونظرنا الى السهل الرسوبي لوجدنا تنوع بيئي حيواني ونباتي مختلف تماما عما بعد تطور الانسان. ربما العراق هو اول بلد تضرر بتطور الانسان، وأظن أنه أكثر بلد سيدفع ثمن التغير المناخي اليوم.

 

هل يمكن أن تستنزف ستراتيجيات الزراعة والسقي الأرض الزراعية؟

كثرة المواد الكيميائية والمكننة الزراعية قد يعطي نتائج سلبية على التنوع الاحيائي، فقد تتضرر الفطريات والحشرات. كلما كانت طرق الري طبيعية كلما كانت صحية أكثر. في آخر زيارة لباحثة اجنبية للعراق، كنت انتقد الطرق القديمة في الزراعة، لكنها خالفتني الرأي في كون الطرق القديمة صديقة للبيئة. الموضوع هذا معقد لكن الانسان بشكل عام يستنزف كل ما حوله ليبقى، ها هو يستخدم النفط والفحم الحجري والتربة وكل الموارد حوله. لهذا السبب فنحن بشكل عام نتجه نحو تخريب الكرة الأرضية. امنيتي كباحث هي أن اعود قبل توسع الانسان لأرى كيف كان الحال.

 

في رسالتكم للدكتوراه اثبتتم واكتشفتم تحولات تاريخية في مجرى دجلة والفرات وغيرتم فكرة كانت سائدة حول اجتماع النهرين بمنطقة قرب بغداد، لكن معظم الناس لا يعلمون أن الأنهر تغير مجراها، هل يمكن أن تشرحوا الأمر؟

السهل الرسوبي هو ملعب كرة قدم، ودجلة والفرات هم اللاعبون وليس هناك مسار ثابت لهم في هذا السهل. نهر دجلة كان قريباً جداً من الفلوجة، ونهر دجلة كان قريباً من بابل والوركاء والناصرية والبصرة، اما نهر الفرات فقد كان يوما قريبا من بغداد، من الكوت، الناصرية، العمارة، البصرة. السهل منطقة منفتحة منبسطة تسمح للنهر أن يتغير بكامل الحرية، لم يكن لدينا سدود ولم يكن لدينا انسان يسيطر على دجلة والفرات. لو رفعنا السدود اليوم فلن يبقى دجلة والفرات في مكانهما.

سطح الأرض في خور الزبير - العراق من الأعلى صورة التقطها جعفر الجوذري

سطح الأرض في خور الزبير – العراق من الأعلى صورة التقطها جعفر الجوذري

في أي نطاق زمني يمكن ان يحدث ذلك؟

آخر عشرة آلاف سنة وحتى الفترة العثمانية كان دجلة والفرات لهما حرية اكبر. تتقيد حرية الأنهر بتطور خبرة الانسان في التعامل مع النهر. حتى الفترة الساسانية كان لدجلة والفرات الحرية ثم انعدمت بعد انشاء السدود والنواظم.

آخر شكل لدجلة والفرات هو ما كان عليه في الفترة العثمانية. شط الحلة والكوفة تكونا في الفترة العثمانية. كان هناك نهر الفرات الذي يمتد من الفلوجة الى المسيب الى الحلة الى الديوانية. لم يكن هناك شط الكوفة ولم يكن يمر بالنجف وكربلاء اطلاقاً، لكن اليوم اكبر جزء هو شط الكوفة. وقد تم حفر شط الكوفة باليد في الفترة العثمانية. اذا ما رفعنا سدة الهندية حالياً سيجف نهر الحلة تماماً وسيتجه مجراه كلياً لشط الكوفة. محافظة الحلة والديوانية يعتمدان كلياً على سدة الهندية. لو عدنا لسدة الكوت سيختفي تماما نهر الغراف وستتحول المياه الى نهر العمارة. ما يثبت النهرين حالياً هي السدود ولو ازلناها لعادت الأنهر للحركة.

كيف تتم الحركة؟

الحركة سهلة جداً. في شمال سامراء وشمال ديالى وفي الرمادي والفلوجة ومناطق سوريا يكون النهر محصوراً بين مرتفعين. لكن في السهل الرسوبي يكون الامر مختلفاً، بمرور الزمن يكون النهر اكتافاً تجري المياه داخلها ثم تتجمع الترسبات داخل النهر فتصبح كمية المياه داخل النهر اكثر من استيعابه ثم ينكسر احد اكتاف النهر ويكون حينها يجري بمجرى اعلى من المنطقة المجاورة حتى يصبح كأنه نهر معلق، ثم حينما يحدث كسر ينزل الماء وتتحول المنطقة المجاورة الى اهوار بعد ان يفيض النهر ثم يستمر النهر بالجريان داخل الاهوار حتى يكون اكتافاً جديدة ويتكون نهر جديد داخل الاهوار ثم حينما تزداد قوة الاكتاف تجف الاهوار ويعود النهر للارتفاع ثم يعود لبناء الكتف الذي ينكسر مرة أخرى ثم يتكون الهور وهكذا مثلما ذكرت في البداية عن تعاقب تلك المراحل في السهل الرسوبي.