من مكان بسيط في إحدى البلدات في البنجاب بباكستان إلى جامعة كامبردج في المملكة المتحدة، انطلق محمد عبد السلام ليضفي على الفيزياء مع زملاء البحث العلمي لمسة جديدة غيرت ما نعرفه عن الجسيمات والقوى. وفي وقت كان محمد عبد السلام في أوج عطائه العلمي فلم يبخل على بلاده بالمشورة والدعم ليصل المزيد من العلماء من بلده إلى الجامعات الأهم في العالم ويقدموا المزيد للعلم وليساهم في تأسيس العديد من الصروح العلمية واتفاقيات التعاون مع المؤسسات العلمية في العالم.
ولد محمد عبد السلام لأسرة متواضعة في البنجاب بباكستان اليوم عام 1926 ودرس في المدارس المحلية هناك ثم ظهر نبوغه بعد الحصول على درجات عالية لينتقل إلى جامعة بومباي قبل استقلال الهند. ثم اتجه إلى لاهور ليعمل حسب رغبة والده في السكك الحديد، لكنه رفض لضعف بصره. في العام 1946 حصل محمد على شهادة في الرياضيات من الكلية الحكومية الجامعة هناك، ثم نجح بعدها بالحصول على زمالة إلى جامعة كامبريدج في نفس السنة ليحصل على البكالوريوس في الرياضيات عام 1949 من جامعة كامبريدج ثم الدكتوراه في الفيزياء النظرية من نفس الجامعة حول نظرية الكم عام 1951 ليعود إلى الكلية الحكومية الجامعة في لاهور للتدريس هناك.
عاد محمد عبد السلام إلى كامبريدج عام 1954 كأستاذ للرياضيات. ثم انضم إلى جامعة إمبريال في لندن عام 1957. في مطلع الستينات بدأ محمد عبد السلام بالعمل على التأثير الكهروضعيف والذي كان سبباً في نيله جائزة نوبل لاحقاً. واستمر عمله في ذلك طيلة الستينات مع كل من شيلدون غلاشو (Sheldon Glashow) وستيفين واينبيرغ (Steven Weinberg) حيث كان دور عبد السلام يتمحور حول نمذجة عملهم رياضياً وكان كل من غلاشو وواينبيرغ قد حصلوا على الجائزة مع عبد السلام.
في نشاط موازي عمل محمد عبد السلام بمطلع الستينات على تطوير دراسة الفيزياء في بلده باكستان بعد قبوله لمنصب عُرض عليه من رئيس باكستان في حينها أيوب خان عام 1960. وصار عبد السلام رئيس لجنة البحث في الفضاء وطبقات الجو العليا التي تأسست حينها. وساهم عبد السلام ايضاً بمساعدة العديد من العلماء في بلاده للدراسة في الخارج. كما كان عبد السلام عراباً للتعاون بين باكستان ووكالة ناسا الأمريكية ولتوقيع معاهدة للتعاون العلمي بين البلدين أثمرت عن إنشاء ناسا لمركز للتحليق في بلوشستان.
وللأسف فقد كان عبد السلام من المساهمين في النشاط النووي غير السلمي لباكستان في السبعينات حيث كان مستشاراً علمياً لرئيس البلاد وكان قد قدم الكثير من المعلومات التي ساعدت بلاده في خطواتها الأولى لإنتاج سلاح نووي. غير أن علاقة عبد السلام ببلاده انقطعت إلى حد كبير بعد مغادرته البلاد عام 1974 وذلك احتجاجاً منه على تصويت البرلمان الباكستاني على اعتبار طائفته الأحمدية غير إسلامية. وبالتالي فإن عبد السلام لم يكن ذو دور كبير في البرنامج الذي غادره بعد سنتين من شروعه ليأتي الاختبار الأول للقنبلة النووية الباكستانية بعد عقود من ذلك.
التآثر الكهروضعيف
بالاطلاع على النموذج المعياري (هناك الكثير من الشرح حوله في اللقاء مع آرثر مكدونالد في العلوم الحقيقية) يمكن أن نجد وصفاً لقوى متعددة ودقائق متعددة تمثل بنية الطبيعة من حولنا على المستوى الدقيق وتتوافق مع النظريات الأهم التي تصف ذلك المستوى من الوجود مثل نظرية الكم والنظرية النسبية الخاصة. تُعرف إحدى القوى في النموذج بالقوة الضعيفة أو التآثر الضعيف. والتآثر الضعيف هو واحد من أربعة قوى هي الكهرومغناطيسية، التآثر القوي، والجاذبية. ويؤثر التآثر الضعيف على الجسيمات دون الذرية وهو مسؤول عن اضمحلال النشاط الإشعاعي (radioactive decay) وتؤثر على الجسيمات في قطر صغير جداً أقل من قطر البروتون. بفهم هذا نستطيع الاقتراب ما فعله عبد السلام وزميليه.
قدم واينبيرغ وعبد السلام وغلاشو تعريفاً تم فيه توحيد القوة الكهرومغناطيسية مع القوة الضعيفة ليصبحا قوة واحدة تعرف اليوم بالقوة الكهروضعيفة. وعلى الرغم مما يبدو من تباين في القوتين ببعض الخصائص غير أن العلماء الثلاث قاموا بتقديم نموذج يعرضهما بصفتهما جانبين مختلفين من ذات القوة. وقد حصلوا على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979 لجهودهم في ذلك وعُرفت نظريتهم بنظرية واينبيرغ – سلام. ماذا يعني ذلك ولماذا مُنح العلماء جائزة نوبل على هذا العمل؟
اكتشفت القوة الضعيفة على يد العالمة الصينية تشين-شيونع وو (Chein Sheung Wu) عام 1956 عبر تجربة تعرف بتجربة وو حول مبدأ التكافؤ في فيزياء الكم وتحديداً ما يعرف بخرق التكافؤ (parity violation). وقد ساهم عمل كل من تشين-نينغ يانغ (Chen-Ning Yang) وتسونغ داو لي (Tsung-Dao Lee) أيضاً في اكتشاف القوة الضعيفة وحصل العالمان على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1959 لعملهم على نظرية التكافؤ وذكروا دور تشين شيونغ في اكتشافهم أيضاً. لكن في حسابات معقدة لاحقة وبعد اكتشاف المزيد من الجسيمات التي تشكل النموذج القياسي اليوم توصل عبد السلام وزملاءه إلى اكتشاف حالة معينة وحسابات جديدة أدت إلى إثبات القوة الكهروضعيفة.
أما حول نتائج هذا الاكتشاف، فهو قام بتصحيح نظرتنا إلى الجسيمات والقوى وعرضها بطريقة مختلفة. أدت الصورة الأكثر دقة التي وجدت أثر تلك الاكتشافات إلى اكتشاف جسيمين آخرين يسجل اكتشافهما لذات العلماء وهي جسيمات دبليو وزت (W and Z bosons)، وبالنتيجة فإن الاكتشاف لجسيم هيجز لاحقاً يُعزى فيه الفضل جزئياً لهذا الاكتشاف. باختصار فقد تغيرت الفيزياء بعد اكتشاف عبد السلام وزميليه.
تم نشر المقال في العدد 58 من مجلة العلوم الحقيقة وراجعته لغوياً ريام عيسى