قد يكون الجين الذي ينقذ حياتك هو الجين الذي يزعجك حتى الموت.

يبدو العنوان مثيرا للريبة، إذ من المتوقع ألا يعلم أحد بالحكمة وراء إصابتنا بالأمراض. لكن اطمئنوا، فعقود من البحث العلمي الدؤوب أسفرت عن بعض الإجابات المريحة.. نعم، ليست مريحة تماما. قد يحلو للشاب التطوري أن يضع رجلا على رجل ويتصور أن الانتخاب الطبيعي –هذه القوة العجيبة– لا بد أن تخلص العالم من كل الآفات يوما ما. لكن هذا التصور، للأسف، لن يتحقق! فالانتخاب الطبيعي لا يهتم بسعادة أفراد النوع ورفاهيتهم بقدر ما يهتم بنجاحهم التكاثري، أي قدرتهم على إنجاب الذرية وتنشئتها. لهذا السبب نرى الأمراض أينما وجهنا أبصارنا، ليس لأننا كائنات سيئة الحظ، بل العكس.
تتعدد أسباب مختلف الأمراض فبعضها يحدث بسبب عوامل بيئية أو بسبب عوامل وراثية وبعضها يحدث لعدة أسباب تجمع بين البيئة والوراثة. مجرد وجود أمراض وراثية يستحق التأمل، فكيف يمكن لجينات تسبب أمراضا كالأنيميا المنجلية والتليف الكيسي أن تورَّث إلى الأجيال القادمة بدون أن تقف قوة الانتخاب الطبيعي في طريقها وتقذفها خارج الجينوم البشري؟ التفسير الأبسط لهذا التناقض هو أن بعض الأمراض الوراثية لها منافع كما لها أضرار. في هذا المقال سألخص بعض المنافع التي طرحها الباحثون فيما يتعلق ببعض الأمراض الوراثية.

 

  • الأنيميا المنجلية (Sickl cell anemia): ضمان صحي ضد الملاريا

 

يتصف مرض الأنيميا المنجلية بآلام في العظام والعضلات وقصور في التنفس ونزيف وشباب حافل بالبقاء في المستشفى كل عدة أشهر. فرصة إصابتك بهذا المرض هي 100% إذا كنت ابنًا لأبوين مصابين، و 25% إذا كان أحدهما مصابًا. يعتقد الباحثون أن الجين المسؤول عن الإصابة بالأنيميا المنجلية يحمي ضد الإصابة بعدوى الملاريا لأنه يغير تركيب جزيء الهيموجلوبين مما يسرِّع التخلص من الخلايا المصابة وإخراجها من الدورة الدموية. يبدو هذا معقولا الآن، فجين الأنيميا المنجلية أكثر انتشارا في الأشخاص المتحدرين من أصل أفريقي الذين يعيشون في مناطق تسود فيها الملاريا، حيث ساعد أسلافهم على مقاومة الملاريا التي كانت شائعة في السافانا الأفريقية. يقل انتشار هذا الجين في المناطق التي تندر فيها الملاريا.

الأنيميا المنجلية

الأنيميا المنجلية

 

  • أنيميا الفول (G6PDD): ضمان آخر ضد الملاريا

 

يعاني المصابون بأنيميا الفول من تحلل خلايا الدم الحمراء نتيجة أكلهم للفول وتعرضهم لبعض المضادات الحيوية ومضادات الملاريا. عندما يدخل طفيل الملاريا إلى خلية الدم الحمراء ويستعمل الأكسجين الموجود فيها، يساعد نقص سداسي فوسفات الجلوكوز النازع للهيدروجين (G6PD) على تفجير الخلية ومن ثم عرقلة عملية تكاثر الطفيلي في الدورة الدموية.

خلية دم حمراء مصابة بالملاريا

خلية دم حمراء مصابة بالملاريا

 

  • مرض تاي-ساكس (Tay-Sachs disease): رعاية خاصة باليهود

 

يصيب هذا المرض 3-11% من يهود الأشكناز، العرق الذي ينتسب إليه ألبرت آينشتاين، ويقتل كل الأشخاص المصابين به قبل الوصول إلى سن التكاثر. تقترح بعض الدراسات التي قارنت بين معدلات انتشار تاي-ساكس وعدوى السُّل أن له تأثيرا مضادا للإصابة بالسُّل الذي شاع قديما بين أفراد هذا العرق.

نقطة حمراء تظهر في داء تاي ساكس

نقطة حمراء تظهر في داء تاي ساكس: تظهر النقرة المركزية بلون أحمر متميز لأنها محاطة بهاء حليبية اللون.

 

  • السُّكري-1 (Type-1 diabetes): آفة ضرورية

 

من منا لا يعرف السُّكري؟ من منا ليس مصاباً به أو له قريبٌ مصابٌ به؟! يرى الباحثون أن الجين الذي يمكن أن يتسبب في الإصابة بالسكري-1 (DR3) يقلل بشكل كبير من خطر الإجهاض، وتبقى آلية حدوث هذا غامضة.

 

  • فينايل كيتونيوريا (Phenylketonuria): مشاكل يمكن تجنبها

 

واحد من كل 100 شخص يحمل الجين المسؤول عن الإصابة هذا المرض. يعاني المصابون بالفينايل كيتونيوريا من التخلف العقلي نتيجة عجز أجسامهم عن معالجة الحمض الأميني فينايل ألانين الموجود في كثير من الأطعمة الأساسية اليومية كالسمك واللحم والدجاج والحليب. يمكن منع حدوث أعراض هذا المرض بتجنب الأطعمة التي تحتوي عليه. مهمة صعبة، صحيح؟ لكن للجين المسؤول عن هذا المرض دور في تقليل خطر الإجهاض.

 

المراجع:

Nesse, R. M., Williams, G. C., & Mysterud, I. (1995). Why we get sick. Trends in Ecology and Evolution10(7), 300-301.