لماذا يجب على اللوائح التَّمييز، كمـا يفعل بعضهـا حالِيًّا، بين المحاصيل المُنقَّحة جينيـاً والكائنـات المعدلة وراثياً؟

يبدو أنَّ الجدل العام حول الكائنـات المُعدَّلة وراثياً قد هدأت حِدَّته قليلاً، ولكني أعتقد أنَّ ذلك ما هو إلَّا نتاج للجائحة التي نَمرُّ بهـا حالياً (حيث تَتَعلَّق جميع الأخبار بفيروس كورونا هذه الأيام). ومع ذلك، فلا يزال القلق العام بشأن الآثار الصحية والسلامة العامة للكائنـات المعدلة وراثياً مرتفعـاً، وهي القضية الوحيدة التي يُوجَد فيهـا أكبر انفصال بين الرأي العام والإجماع العلمي.

في استطلاع أجراه مركز بيو للدراسات عام ٢٠٢٠، شَعَرَ ٣٨٪ من الأمريكيـين أنَّ الكائنـات المعدلة وراثياً غير آمنة، بينمـا رأى ٢٧٪ أنَّهـا آمنة، في حين لم يعرف ٣٣٪ من الأمريكيـين ما إذا كانت الكائنـات المعدلة وراثياً آمنة أم غير آمنة. اختلفت هذه الأرقام بشكلٍ كبيرٍ حسب البلد، وقد كان المتوسط ٤٨/١٣/٣٧ على  التوالي. وكانت أستراليا هى الدولة الوحيدة التي تساوت فيهـا النِّسب، حيث قـال ٣١٪ منهم أنهـا آمنة و٣١٪ بأنهـا غير آمنة، ولا تُوجَد دولة يعتقِد فيهـا أغلبية الجمهور بأنَّ الكائنـات المعدلة وراثياً آمنة.

في الوقت نفسه، فلدينـا إجماعٌ علميٌّ قويٌّ على أنَّ المحاصيل المعدلة وراثياً هى بالفعل آمنة للاستهلاك البشري والحيواني. فوفقـاً لدراسة أجرتهـا الأكاديميـات الوطنية للعلوم والهندسة والطب عام ٢٠١٦:

وبينمـا نَعتَرِف بالصعوبة المتأصِّلة في اكتشاف الآثار الدَّقيقـة أو طويلة المدى على الصحة أو البيئـة، فلم تَجِد لجنة الدراسة أيَّ دليل مؤكد على وجود اختلاف في المخاطر على صحة الإنسان بين المحاصيل المهندسة وراثياً والمتوفرة تجارياً في الوقت الحاضر والمحاصيل التقليدية، بل ولم تجد أيضاً دليلاً سببياً قاطعاً يربط المشاكل البيئيـة بالمحاصيل المهندسة وراثياً.

وفيمـا يتعلق بصحة الإنسان تحديداً:

وقد فحصت اللجنة بعناية جميع الدراسات البحثية المتاحة سعياً للعثور على أدلة مقنعـة تربط استهلاك الأطعمة المشتقة من المحاصيل المهندسة وراثياً بالآثار الصحية الضارة، ولكنهـا لم تجد أياً منهـا.

يُمكِن لأولئك الذين يرغبون في إشاعة الخوف والفزع بشأن الكائنـات المعدلة وراثياً (كمـا يفعلون باللقاحات، الهواتف المحمولة، أو غيرهـا من المخاطر المزعومة) المطالبة دائمـاً بمزيدٍ من الأدلة، أو التذرع بمخاطر استعصت على الأدلة الحالية. وبالطبع، فهذا ممكن دائمـاً، حيث أنَّـه من المستحيل إثبات خلو أيِّ شيءٍ من الخطر. وممـا لا شك فيه، فإنَّه من الضروري الانتبـاه إلى الأدلة المُتعلِّقة بالأضرار الدَّقيقة والخفيـة التي غابت عن الأبحاث السَّابقـة. ولكن عند نقطـة معينـة، تُصبِح الأدلة التي تُشير إلى عدم وجود مخاطر قويةً بما فيه الكفاية، بحيث نستطيع أنْ نكون واثقيـن نسبياً من أنَّ المخاطر المحتملة المتبقيـة هى صغيرة بما يكفي لتجاهلهـا بأمان.

باستطاعتنـا أيضاً أنْ نَتَّبِع المبادئ العلمية الأساسية، حيث لا يُوجَد أي سببٍ علميٍّ للشك في أنَّ الكائنـات المعدلة وراثياً غير آمنة للاستهلاك. فلا تُوجَد آلية معقولة لذلك، وتَستَنِد مخاوف العامَّة في الغالب إلى سوء فهم جسيم للأساسيات العلمية، على سبيل المثال لا الحصر المفاهيم الخاطئة بأنَّ الكائنـات المعدلة وراثياً فقط هى التي تمتلك حمضاً نووياً أو أنَّهـا تستطيع تغييـر جينات أولئك الذين يستهلكونهـا. ترتكز هذه المخاوف في الغالب على الإفراط في تطبيق المبدأ الوقائي، وعدم التحليل الملائم للمخاطر والفوائد، بالإضافة إلى تجاهل المقارنات مع البدائل المتاحة. فمن المنطقي القول أنَّ عدم استخدام التقنيـات الوراثية لتحسين الزراعة يمثل مخاطرةً أكبر من استخدامهـا. علاوة على ذلك، قد تُشكِّل تقينـات تطوير مُستنباتات جديدة غير مصنفة تهديداً أكبر لإدخال مواداً ضارة في السلسلة الغذائية.

هنالك أيضاً نقطة مفادها أنَّ الكائنـات المعدلة وراثياً هى فئة تعسفية نوعاً ما، حيث تستهدف تقنيـات معينة دون غيرهـا طبقاً، على ما يبدو، لعامل غامض مثير للاشمئزاز. فمثلاً، لا تُعدُّ الزراعة الطَّفرية، التي تُستخدم فيهـا الإشعـاع أو المواد الكيميـائية لزيادة معدل الطَّفرات على أمل أنْ تظهر إحدى الطَّفرات النَّادرة المفيدة، من النَّباتات المعدلة وراثياً. ويُعتبَر التَّهجين القسري مثال آخر، حيث تُجبَر الأنواع التي لا تَتَهجَّن عادة على القيام بذلك. كمـا أنَّ هناك خوفاً أكبر من الكائنـات المعدلة وراثياً التي يتم فيهـا إدخال جين من نوعٍ ذي قرابة بعيدة أو من نوعٍ وثيق الصلة. مرة أخرى، لا يُوجَد أي أساس علمي لهذا التَّمييز، فقط عوامل مثيرة للاشمئزاز تَنبع من فكرة إدخال جين سمكة إلى بندورة (طماطم). وبالرغم من ذلك، فإنَّ مثل هذه الفروق ليست مهمة جينيـاً (باستثنـاء بعض الجوانب التقنيـة التي لا تُؤثِّر على المنتج النهائي)، كمـا يتضح من حقيقـة أنَّ البشر والموز يشتركان بحوالي ٦٠٪ من جيناتهـم. باختصار، فلا يُوجد شيء يُدعى جين سمكة.

تميل الحدود الفاصلة بين التقنيـات المختلفة لتطوير المحاصيل إلى أنْ تُصبِح مشوشة وغير واضحة بمرور الوقت، جاعلةً فئة الكائنات المعدلة وراثياً تعسفية ومشكوك فيها علمياً على نحوٍ متزايد. وقد يكون لذلك تأثير جيد من الناحية التَّنظيميـة، حيث يُمكِن أنْ يسمح لتقنيـات معينة بالهروب من البيئة التَّنظيميـة القاسية المفروضة دون داعٍ على الكائنـات المعدلة وراثياً. ويمثِّل التَّنقيح الجينـي إحدى هذه الفئات النَّاشئة.

يتم الحصول على المحاصيل المُنقَّحة وراثياً عن طريق تغيـير الجينات الموجودة بالفعل داخل الجينوم، بدلاً من إدخال جين جديد تماماً. ويتزايد الاهتمـام بمثل هذه الفئة لأنَّ ابتكارات مثل كريسبر تجعل التَّنقيح الجينـي سريعاً، رخيصاً، وسهلاً نسبياً. في الواقع، أصبح التَّنقيح الجيني قوياً للغاية لدرجة أنَّـه قد يجعل، إلى حد مـا، فئة الكائنـات المعدلة وراثياً من الماضي العتيق.

تجري الآن معركة سياسية حول كيفيـة تنظيم المحاصيل المُنقَّحة جينيـاً. وقد كان هناك نجاح جزئي في بعض البلدان والنِّطاقات التَّنظيميـة، وفشل في أخرى.ومع ذلك، فالمشهد معقـد للغاية. حيث يقع تنظيم المحاصيل في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تحت إشراف هيئة الغذاء والدواء، ووكالة حماية البيئة، بالإضافة إلى وزارة الزراعة، ويُمكِن لهذه الوكالات أنْ تمتلك فئاتً وتنظيماتٍ متضاربةً. فحالياً:

تقوم الثلاث وكالات بتنظيم خصائص المنتجات في حد ذاتهـا وليس عملية تطويرهـا. حيث لا تخضع المحاصيل المُنقَّحة جينيـاً التي تفتقر إلى جينـات دخيلة (والتي تُؤدِّي إلى تنظيم الكائنـات المعدلة وراثياً) والتي لا تُشكِّل خطراً على النباتات الأخرى، إلى جانب الأغذية المنقحة جينيـاً التي لا تُظهر أي خصائص للسلامة تختلف عن تلك الموجودة في المحاصيل التقليدية، إلى تقيـيم تنظيمي قبل طرحها في الأسواق. ومع ذلك، فيظل المطوِّر مسئولاً عن ضمان أنَّ المنتجات المطروحة في السوق آمنة للاستخدام والاستهلاك.

يُعتبَر الاتحاد الأوروبي ونيوزيلندا حالياً الهيئات التَّشريعيـة الوحيدة التي تُنظِّم المحاصيل المنقحة جينيـاً باعتبارهـا كائنـات معدلة وراثياً. وقد قامت المملكة المتحدة مؤخراً بتخفيف القيود على المحاصيل المنقحة جينيـاً، ممـا يسمح بتطويرها واستخدامهـا في المملكة المتحدة (وذلك بفضل خروجهـا من الاتحاد الأوروبي). وقد اتبعت كندا واليابان والبرازيل والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي والباراغواي والأوروغواي أيضاً المملكة المتحدة مخففيـن القيود على المحاصيل المنقحة جينيـاً. في حين، لم تتخذ بقيـة دول العالم أي قرارٍ حتى الآن.

وهذا هو النِّقاش المهم الذي يجب أنْ يُثار. حيث أنَّ المواقف والمفاهيم المضادة للكائنـات المعدلة وراثياً هى واحدة من الموضوعات القليلة التي يكون فيهـا نموذج نقص المعرفة في التواصل العلمي فعالاً. بمعنى آخر، فإنَّ الأشخاص المعادين للكائنـات المعدلة وراثياً منفتحون إلى حد كبير لتغيـير آرائهـم إذا تم تزويدهم بمعلومات أكثر دقة من الناحية العلمية، حيث تستند المواقف المضادة للكائنـات المعدلة وراثياً غالباً على معلومات مغلوطة (بدلاً من شيءٍ يَصْعُب تغيـره مثل الانتمـاء القِبلي أو مذهب فكري). وتُعدُّ المخاطر هنا عالية أيضاً. وتُمثِّل تجربة الأرز الذهبي خير مثالٍ على ذلك، حيث باستطاعة هذا الأرز المعدل وراثياً أنْ ينقذ ملايـين الأطفال الفقراء من العمى أو الموت، ويتم إبطاء نشره وتوزيعـه بسبب المعارضات غير العلمية واللوائح التنظيميـة القاسية دون مبرر.

قد يكون الفوز بمعركة المحاصيل المنقحة جينيـاً سهلاً من الناحية السياسية، ولكنه يزداد أهميةً مع تحول التكنولوجيـا في هذا الاتجاه عَلَى أَيَّة حال.

المقال الأصلي:

 

Steven Novella, Gene Edited vs Genetically Modified, from: sciencebasedmedicine.org/gene-edited-vs-genetically-modified/, September 29, 2021