كثيرون نحن في هذا العالم من لا نمتلك الانامل الإبداعية الفنية وخصوصا في الرسم، وربما كثيرٌ منا قد عانى في أيام الدراسة المتوسطة مع طريقة التدريس التقليدية لعلم الأحياء وسهرَ الليالي محاولاً التدرب على كيفية رسم شكل الميتوكوندريا، لأنه كان من الاسئلة المفضلة لدى كثير من الاساتذة.

لم اتصور يوماً ان نفس مقدار المعاناة مع الشكل هو مقدار اهتمامي للبحث في هذا المجال، هذا التحول في الاهتمام صار بعد معرفتي أن هذه العضية التي صدع رأسنا بها المنهج التلقيني على أنها مصدر الطاقة في الخلية، تملك حمضاً نوويا خاصا بها، مختلفاً عن حمض الخلية النووي كونه دائري مشابه لجينوم البكتريا.  وهي سبب لكثير من الأمراض التي لا نملك حتى اليوم علاجاً لها.

الفعاليات الحيوية المختلفة التي تقوم بها خلايا أجسامنا تحتاج إلى الطاقة، كما تحتاج هواتفنا النقالة اليوم إلى الطاقة، ولكن بعيدا عن الشاحنات الكهربائية فإن خلايانا تمتلك الميتوكوندريا التي تقوم بتزويد الخلايا بالطاقة الضرورية للعمل عن طريق عملية الفسفرة المؤكسدة (Oxidative phosphorylation)، ولن نتطرق لهذه العملية بتفاصيلها ولكن من الضروري ان نتذكر ان الهاتف لا يمكن شحنه دون وجود مصدر الطاقة فلذا من الطبيعي والمنطقي  أن الخلل في عملية تزويد الطاقة عن طريق الميتوكوندريا سيؤدي إلى خلل في الخلية.

أمراض الميتوكوندريا تضم طيفاً واسعاً من الأمراض التي تحدث نتيجة الطفرات الوراثية، مع الاسف الى اليوم لا توجد إحصائية حول هذه الأمراض في العالم العربي، ولكن في أوروبا فإن هذه الأمراض تكون نسبتها مريض واحد بين كل 5000 شخص.

 

تحتاج الميتوكوندريا إلى 1500 بروتين للقيام بعملها، يقوم الحمض النووي لنواة الخلية بتشفير وصناعة الغالبية العظمى  من هذه البروتينات، فيما عدا 15 بروتين يقوم حمض الميتوكوندريا النووي بصناعتها، فيما تقوم شبكة أخرى من البروتينات بنقل المواد من والى الميتوكوندريا، وأي طفرة وراثية او خلل في صناعة أي من هذه البروتينات من الممكن أن يؤدي الى المشكلة خصوصا في ظل غياب آلية إصلاح الخلل بعد حدوثه لعدم وجود بروتينات تعمل على إصلاح الميتوكوندريا، ولكن في هذا النظام هناك أيضاً آليات معينة لتخفيض نسبة الخطأ، فالخلية الواحدة تمتلك أكثر من ميتوكوندريا واحدة، وكذلك نسخ كثيرة من الحامض النووي الخاص بالميتوكوندريا، حتى في حالة وجود عطب معين في نسخة ما، فإن الخلية تلجأ إلى استخدام النسخ الصحيحة الأخرى.

 

الطفرات الوراثية في الحمض النووي الخاص في الميتوكوندريا هي طفرات سريعة وتحدث دائماً وتقوم الخلية باستخدام النسخ الصحيحة، ولكن عندما تتجاوز هذه الطفرات نسبة 50% من النسخ فإن أعراض الأمراض تبدأ بالظهور، ولأن الميتوكوندريا موجودة في جميع خلايا الجسم، فهذه الاعراض تكون مختلفة وكثيرة في وقت واحد، ولكن أكثر الأماكن تضررا في الجسم تكون العضلات التي تحتاج الكثير من الطاقة وكذلك الدماغ، هذه الاعراض ممكن تكون ضعف عام او داء السكري او خلل في الحركة او على شكل نوبات صرع وخلل في القدرة التعليمية، وتشابه الأعراض مع أمراض أخرى يجعل من الصعب تشخيص المرض دون عمل تحليل للمادة الوراثية.

 

تظهر هذه الأمراض في مراحل عمرية مختلفة، فبعض المرضى تبدأ أعراضهم في مراحل سنية مبكرة  من الطفولة، فيما يظهر آخرون هذه الأعراض بعد سن الأربعين.

 

إلى اليوم لا يوجد علاج لهذه الأمراض، اضافة الى صعوبة تشخيصها، بذل العلماء الكثير من الجهد لإيجاد العلاج ولكن نظرا لامتلاك الميتوكوندريا حمضها النووي الخاص فإن الوصول إلى علاج دون فهم الآلية الجزيئية لاستنساخ الجينات هو أمرٌ مستحيل،

ولكن العلماء لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فعملوا على إيقاف الخلل قبل حدوثه عن طريقة تقنية زرع الميتوكوندريا او ما عرفها الاعلام الأجنة ثلاثية الاباء.

استغل العلماء حقيقة أن الحمض النووي للمايتوكوندريا يتم توريثه عن طريق الام حصرا، فبالتالي الخلل في هذه العملية يتم توريثه عن طريق الأم ايضاً، فقاموا باستبدال الحمض النووي للميتوكوندريا المصابة في بويضة الأم بحمض نووي لميتوكوندريا سليمة من ام اخرى.

بهذا يمتلك الجنين الناتج الحمض النووي الخاص بالام والاب الأصليين، ولكن الحمض النووي للمايتوكوندريا هو من المرأة المتبرعة السليمة.

لاقت هذه التقنية الكثير من الاعتراضات السياسية والدينية ولكن في عام 2016 تمت الموافقة على قانونية هذه العملية، ولكن هذه الطريقة تتيح ايقاف انتقال الامراض التي سببها واحد من ال15 جين التي تنتجها الميتوكوندريا، فكيف بالأمراض التي يكون سببها أحد الجينات التي تنظم عمل الميتوكوندريا ؟

لا زالت الكثير من الأسرار غير مكتشفة، ولا زلنا في بداية الطريق نحو العلاج، ولا زلنا ننتظر الكثير من الدراسات التي تبين كيف ان هذه العضية المهمة في الخلايا ممكن ان تلعب دور في أمراض مختلفة، وهذا ما التفت اليه الباحثون  والممولون للبحوث في السنوات الاخيرة.

اما في عالمنا العربي، فهذه الأمراض لا زالت منسية ومجهولة، لكثير من الأخصائيين قبل العامة، ومن خلال هذا المقال نحاول ان نترك القارئ مع سؤال مهم هو كيف لنا ان نعرف وجود هذه الأمراض في عالمنا دون البحث العلمي، ودون وجود الدعم للباحثين ؟

 

المصادر :

Lightowlers, R. N., et al. (2015). “Mutations causing mitochondrial disease: What is new and what challenges remain?” Science 349(6255): 1494-1499.

 Duchen, M. R. Mitochondria in health and disease: perspectives on a new mitochondrial biology. Mol. Aspects Med. 25, 365–451 (2004)

Gustafsson, C. M., et al. (2016). “Maintenance and Expression of Mammalian Mitochondrial DNA.” Annual Review of Biochemistry 85(1): 133-160.