حين مناقشة السبب الأساسي للسكري من النوع الثاني (سنسميه اختصاراً السكري 2 في هذا المقال) نجد أنه يرتبط إلى حد كبير بالسمنة، ببساطة تتراكم الدهون في الكبد والبنكرياس مما يتسبب بسوء استجابة الكبد للأنسولين في الكبد من جهة، حيث يقوم بزيادة إفراز السكر (راجع المقالات حول مصادر الطاقة في جسم الانسان البروتين والجلايكوجين، العلوم الحقيقية) أما خلايا بيتا في البنكرياس فتعاني من الإجهاد ويختل عملها أيضاً نتيجة تراكم الدهون أو أن اختلال عملها يكون هو بذاته المسبب للإصابة، وبمجرد فقدان تلك الدهون فقد تزول تلك الأعراض لدى الكثيرين[1]. لكن لماذا يحدث السكري 2 من الأساس؟ يبدو المنطق التطوري موافقاً جداً لفرضية أن السكري من النوع الثاني هو حالة مفيدة، يبدو وكأنه نمط مفيد من أنماط الطاقة، أو كما تسمى كثير من الحالات الموروثة ذات النفع في التأقلم مع البيئة: تكيفات. أما الاحتمال الثاني، فهو أن السكري 2 مرتبط إلى حد كبير بنمط الحياة اليومية البعيد عن أي معايير صحية مقبولة.

وبينما يعد الطعام السريع جزءاً من المشهد اليوم، ويعد متهماً في الكثير من المخاطر الصحية، يرى البعض أن المجاعات كانت جزء من المشهد في حياة الإنسان في الماضي، وإن لم تكن المجاعات فقط بمفهوم المجاعات التي تطول أشهراً وسنوات اليوم، فقد كانت بالمفهوم المعروف بالمجاعة والوليمة (famine and feast) وهي الطريقة التي تتغذى بها كثير من المفترسات اليوم، حيث يتناول الصيادون الطعام مرة أو مرتين كل بضعة أيام ويتخلل ذلك فترات من الجوع. فأي من الفرضيتين تتحمل المسؤولية الأكبر عن الإصابة بالسكري 2؟

سوء تغذية الجنين والسكري من النوع الثاني

عانت هولندا من المجاعة منذ نوفمبر 1944 وحتى مايو 1945 عندما تم تحريرها من النازيين. وقد تمت دراسة حالة المجاعة فيها بشكل مفصل. ومن ميزات المجاعة تلك أنها حدثت في فترة قصيرة بشكل يؤثر على الجنين الذي ولد تحديداً في تلك الحقبة أو بعدها بقليل. وعبر دراسة من ولدوا في تلك الحقبة لوحظ أن لديهم نسبة الجلوكوز في الدم ترتفع بمعدل أعلى من أقرانهم بعد ساعتين من تناول كمية من الكربوهيدرات مما يقترح وجود معدل احتمال ضعيف للجلوكوز يرجح أن سببه هو ارتفاع مقاومة الأنسولين. وهكذا فإن نتائج مشابهة ظهرت عند إجراء التجارب على الحيوانات مثل الجراء والفئران والجرذان وتعرف هذه الفرضية بفرضية النمط الظاهري.

تعزو فرضية النمط الظاهري للمجاعة (thrifty phenotype) بعضاً من الحالات المرضية التي تصيب الشخص عندما يكبر إلى تعرضه لسوء التغذية عندما كان جنيناً وعلى رأس تلك الحالات هي المتلازمة الأيضية والسكري من النوع الثاني. وبحسب هذه الفرضية فإن تغيرات مستديمة تحدث في أيض الجلوكوز وفي افراز الانسولين وإمكانية السمنة والنشاط الجسدي حينما يتعرض الجنين لأزمة مثل سوء التغذية في طور الجنين وحينما يولد ووزنه منخفض نسبياً. وتعرف هذه الفرضية ومثيلاتها بالنمط الظاهري لأنها لا تدخل في تفسيرات عميقة كالجينات بل تفسر الظاهرة وفق ما يمكن ملاحظته من تحورات، وخصائص بيوكيميائية وأطوار معينة في النمو.

أثناء بحوثه المتواصلة على إفراز الأنسولين، عثر العالم الإنجليزي تشارلز نيكولاس هيلز (Charles Nicholas Hales) على صلة بين وزن الطفل حين الولادة وإصابته بالسكري من النوع الثاني لاحقاً ويعزى لهيلز الفضل في إثبات هذه الفرضية. يرى هيلز أن سوء التغذية لدى الجنين يمكن أن يؤثر على عوامل عدة منها فعالية خلايا بيتا منذ الطفولة ثم تتضافر عوامل أخرى متأثرة أيضاً بسوء التغذية في الطفولة لتسبب مقاومة الأنسولين وبالتالي يجتمع عاملا السكري من النوع الثاني وهما قلة إفراز الأنسولين ومقاومة الأنسولين. وتتعدى فرضية هيلز ذلك ليفترض اجتماع عوامل أخرى ناتجة من سوء تغذية الجنين لتنتج ما يسميها بالمتلازمة س (Syndrome X) والتي يشترك فيها ارتفاع ضغط الدم والسكري واختلالات أخرى في الكبد دون أن يحدد هيلز ملامح تلك المتلازمة بدقة.

تشارلز نيكولاس هيلز

تشارلز نيكولاس هيلز

كان هيلز قد نشر دراسته الشهيرة عام 1992[2] على عينة من 407 شخص من الرجال بمحافظة هرتفوردشاير في إنجلترا، لكن بعد ذلك تتابعت الدراسات لتجد نتائج مشابهة على مختلف المجموعات العرقية. مع ذلك، فالمشكلة الأساسية في النمط الظاهري أنه لا يوجد شرح حقيقي للأسباب. نعم، هناك ترابط بين ضعف إفراز الأنسولين ووزن الجنين في الطفولة، لكن في نفس الوقت فإن الأنسولين بذاته هو هرمون لنمو الجنين، وهذا يوجب العودة إلى الفرضيات الأخرى البيئية والجينية.

أما حول دور الجينات في هذه الفرضية فإن الفكرة الأساسية لا تفترض أن هناك دور للجينات في الطريقة التي يفسر بها نشوء السكري 2، بل الأضرار الناتجة من سوء التغذية على الجنين والأم. يستشهد هيلز في دراسته الثانية عام 2001 بدراسة للتوائم اثبتت فرضيته لدى التوائم رغم تطابقهم جينياً في حال تعرض الأم لظروف سوء التغذية.[3] ومن بين البحوث القليلة التي تطرقت لفرضية النمط الظاهري بعد التسعينات، ناقش أحد المقالات الفرضية مرة أخرى عام 2014 في ظل الاكتشافات الحديثة في الجينات ليثبت استقلالية التفسير الذي تطرحه عن الجينات، حيث يذكر الباحث أن من أصل 45 جين ثبتت صلتهم في السكري 2، كان هناك اثنان فقط لهم صلة بوزن الجنين حين الولادة.[4]

جينات المجاعة

هناك مصادر متعددة تنبئنا عن وجود مسببات جينية للسكري من النوع الثاني وللسمنة، لو أردت القيام بجولة شخصية في حمضك النووي (لو كنت قد أجريت فحصاً) لمعرفة نسبة إصابتك بالسكري من النوع الثاني فإنك على الأغلب لن تتمكن من احتساب نسبة دقيقة، لكن ستجد ما لا يحصى من الأدلة على مستوى ما يعرف بالتعدد الشكلي للنيوكليوتيد (SNP) والذي يمثل تغيراً في موقع معين في جين معين، في موقع اس ان بيديا (snpedia) يمكن العثور على 47 تعدد شكلي ذو صلة بالسكري من النوع الثاني، بعضها ترتبط بالخطر مع السكري من النوع الثاني، وبعضها الآخر يرتبط بالحماية من السكري من النوع الثاني، لكل تعدد شكلي يمكن أن نجد عشرات الدراسات (صفحة Rs10010131 مثلاً). الدليل الجيني ببساطة لا يمكن التغاضي عنه.

لا تنحصر الآثار الجينية للسكري 2 بأدلة على مستوى جيني فقط، بل يتوفر أيضاً أحد أقوى أنواع الأدلة الجينية، دراسات التوائم. وإحدى أكبر دراسات التوائم التي أقيمت حول السكري من النوع الثاني (ربما هي الأكبر) كانت قد أجريت في عام 2015 وشملت 35 ألف زوج من التوائم من الدول الاسكندنافية وهولندا واسبانيا وبريطانيا. وجدت الدراسة أن بين 13970 توأم متطابق كان هناك 720 توأم أحدهما فقط مصاب بالسكري دون الآخر. تقدير قابلية الوراثة للسكري من النوع الثاني كان 72% وفق الدراسة.

يؤثر أحد الجينات التي تسهم في الإصابة بالسكري من النوع الثاني بشكل ما على قناة البوتاسيوم التي اكتشفها تشارلز هيلز والتي تتحسس السكر وتؤدي إلى اطلاق الانسولين من خلايا بيتا في البنكرياس. هناك حوالي 30-40 جين يساهم في حدوث السكري 2 اذا ما تغير تسلسل قاعدة نيتروجينية واحدة (ما يعرف بالتعدد الشكلي الذي ذكرناه أعلاه) لتنتج نوعاً مختلفاً من نفس الجين. ذلك الجين الذي يؤثر على قناة البوتاسيوم يمكن أن يتسبب أيضاً بحالة مرضية أخرى تؤدي إلى انخفاض مستوى السكر في الدم. بعض الجينات عامة لكن الخلل الذي يمكن أن يحدث لو جاءت مختلفة أفدح ضرراً، منها مثلاً مرض وولفرام (Wolfram disease) الذي يعد السكري من النوع الأول أحد أعراضه فقط، يؤثر هذا الجين على مستوى الكالسيوم في الخلايا. وهكذا فإن لكل جين قصة مختلفة، وكل جين يتسبب بالسكري من النوع الثاني أو الأول هو طرف في أحد أجزاء القصة: مقاومة الأنسولين أو إنتاج الأنسولين. [5] ومن بين المحاولات لجمع تلك القصص أو لطرح قصة شاملة ذات بعد تطوري كان هناك فرضية جينات المجاعة.

تقول فرضية جينات المجاعة بأننا ونتيجة الحياة في العصور السحيقة وللحقبة الأطول من تاريخ البشرية في بيئات معينة تمتاز بالجفاف وقلة الطعام واحتمالية حدوث المجاعات فإننا تم انتخابنا لكي نصنع المزيد من الدهون ونقوم بخزنها وهكذا ينال من يمتلكون هذه الصفة أفضلية في فترة المجاعة حيث يقومون بخزن الدهون بكثرة ويتسبب ذلك بمقاومة للأنسولين. تسبب وفرة الأنسولين استهلاك المزيد من السكر مما يوجب على الجسم إفراز المزيد منه وخسارة الطاقة وبالتالي فإن مقاومة الأنسولين ستكون مفيدة وستتعزز تخزين الدهون الذي هو بذاته مفيد في حالة المجاعة. تركز الفرضية أيضاً على النساء الحوامل. لا تقتصر فكرة جينات المجاعة على طرح تفسير للسكري 2 بل للسمنة أيضاً.

عثرت إحدى الدراسات الشهيرة في المجال على جين للمجاعة ينتخب السمنة ولكنه لا يصيب بالسكري من النوع الثاني. يعتقد أنه خضع لتأثير المؤسس، حيث انتشرت جينات مجموعة قليلة من الأفراد ونشأ منها التعداد السكاني الحالي وخضع هؤلاء الأفراد في البداية لانتخاب إيجابي لجين المجاعة ذاك تحت ظروف بيئية قاسية. [6] أجريت الدراسة في الولايات المتحدة والفئة التي تمتلك جين المجاعة هذا هم سكان جزر ساموا في المحيط الهادي حيث شارك في الدراسة ثلاثة آلاف منهم ولوحظ أن لديهم طفرة معينة. لو حاولنا شرح وفهم دور هذه الطفرة في السمنة فقد يبدو الأمر صعباً جداً، حيث لا يبدو أن لها أي علاقة مباشرة بأسباب السمنة التي نعهدها، لكن يلخص الباحثون حالة السمنة لدى سكان ساموا بأن أجسامهم تميل لصرف الطاقة بشكل أقل وخزن الدهون بشكل أكبر.

صاحب هذه الفرضية جيمس فان غونديا نيل (James Van Gundia Neel)[7] عاش ومارس مسيرته العلمية دون أن يكون لديه أو لدى المجتمع العلمي ما يكفي من البيانات في الحمض النووي لتجعلنا نقوم بالتحقق من فرضيته، كانت قريبة من أن تكون غير قابلة للتخطئة حتى. ثم وبعد صراع طويل مع المعترضين والاعتراضات المنطقية استسلم صاحبها لكنه أنذر أن مجاعات الأمس ما زالت ماثلة في المشهد![8] قدم نيل الكثير من الاكتشافات الجينية في مجال الطب لكن سبب السكري 2 لم يكن أحدها، كما أن الخوض في مجال الجينات في وقته فضلاً عن عدم توفر البيانات مثلما هو الحال اليوم فقد كانت محفوفة بالخطر الأيديولوجي أثر الأعمال المشينة التي قام بها النازيون والتي كانت قائمة على أساس اعتقادهم بالفروقات الجينية بين البشر. قال نيل عام 1989:

“لقد انهارت معظم البيانات التي بنيت عليها تلك الفرضية، غير أن جينات المجاعة تبقى فرضية صالحة للأحياء مثلما تقدمت يوماً ما”

لكن هل كان نيل وحيداً؟ ماذا وجدت الدراسات؟ ماذا قال خصومه؟

جيمس نيل

جيمس نيل

من جهة، علمنا أن قابلية وراثة النوع الثاني من السكري مرتفعة جداً، لكن في نفس الوقت فإن ما يمكن شرحه من حالات السكري بالعوامل الجينية ليس مرتفعاً ولا يتعدى 10% [9] أي، أن هناك من يمتلكون عوامل جينية للإصابة ويمكن أن يورثونها، لكن ماذا عمن لا يمتلكون عوامل جينية؟ لا يضرب هذا الأمر فرضية جينات المجاعة فحسب، بل التفسير الجيني بأكمله. ما يضاف لنقد فرضية جينات المجاعة بشكل خاص هو ما يثيره الخصوم حول واقع المجاعة، هل فعلاً سينجو الأكثر بدانة؟ هل حقاً سيتكاثر البشر في المجاعة لينجو المصابون بالسكري 2 مع تلك الأفضلية؟ هل هناك خارطة تاريخية للمجاعات تعطي لبعض الشعوب نسبة أعلى من الإصابة؟ لا يوجد جواب حاسم لأي من تلك الأسئلة فضلاً عن عدم ارجحية حدوث ما في السيناريو الأول والثاني.

 

 

التخلق والسكري من النوع الثاني: رسائل جينية من الأم

ألقى جزء من خصوم فرضية جينات المجاعة باللائمة كلياً على نظام آخر لصناعة اقدارنا، علم التخلق أو ما فوق الجينات لتفسير السمنة والسكري[9]، والذي يعتبر نظاماً متطوراً لو قورن بالأول حيث أن هذا النظام مرن، وعليه اثباتات ودلائل تجريبية سهلة الكشف، كما أنه أكثر سطوة وأكبر نفوذاً في التأثير على جيناتنا بشكل غير منظور. يلقي خصوم نيل هنا اللائمة على الأم بالدرجة الأساس، ثم الأب ثم كافة الأجداد لما حملوه لبنيهم من رسائل خفية مخزونة في الجينات تنبئهم عن العالم الذي سيأتون إليه، “هناك مجاعة”، “هناك عطش”، “العدو يطاردنا منذ 5 سنوات وقتل وامسك بالكثير من نسائنا واطفالنا وما زلنا نهرب”، “انا اشعر بالرعب” رسائل كهذه يمكن أن تمرر من الأم أو الأب للابن وهكذا ستتحور الجينات في المبايض أو النطف لتهب للابن رسائلها المشؤومة، سيجارة دخنتها الجدة تمتد نحو أحفادها تنبئهم برسالة خاطئة عن الضيق والاختناق والضغط الذي تتعرض إليه – رغم أنها تدخن فقط – ليصابوا بأمراض معينة تبعاً لذلك أو تتغير جيناتهم وأقدارهم كيفما كان.

أستاذ علم التخلق في جامعة نوتنغهام رينهارد شتوغر (Reinhard Stoger) هو رائد هذه الفرضية والذي يرى بأنه قادر على توحيد النمط الظاهري مع الجينات في فرضيته. يدافع شتوغر عن المبدأ بالحاجة إلى صفات تخدم الإنسان في أوقات المجاعة، لكن الحل لها هو بنظام أكثر مرونة مثل نظام التخلق، حيث تستجيب جينات الجنين تبعاً لظروف والديه وتتغير وتكون تلك التغييرات قابلة للوراثة ايضاً، ومع ذلك يبقى هناك مجال ضيق لما يمكن أن يحدث عن طريق الجينات لكن ليس بقدر تأثيرات التخلق.

يبدو علم التخلق مجالاً خصباً لشرح مسببات السكري من النوع الثاني بشكل مقبول، لكن المجال يعتبر حديث، فشتوغر مثلاً طرح مقاله عام 2008 والذي لم يكن سوى تأطير لفرضيته دون تقديم تجربة ما لذلك. السبب الرئيسي في ذلك هو صعوبة إيجاد الأدلة، مثلما تكلمنا عن القصص والخيوط الكثيرة من الحمض النووي والجينات فإن القصة هنا أكثر تعقيداً، يجب إيجاد العامل الوراثي وإيجاد الأدلة على مثيله ليكون مسبباً للسكري من النوع الثاني، وجدت احدى الدراسات مثلاً دليلاً من هذا النوع على احد العوامل الخلوية التي تعزز وظائف خلايا بيتا التي تنتج الانسولين في البنكرياس. [10]

الجينات المنحرفة

يرى جون سبيكمان (John Speakman) أن بناء الحجة على المجاعة لجميع الفرضيات السابقة فيه أمور لا تعزز فرضية السمنة في الجانب العلوي من الجسم والسكري من النوع الثاني. فمثلاً يرى سبيكمان أن السمنة قد لا تعطي أفضلية في المجاعة، وأن المجاعات ستقتل الجميع بلا هوادة لكن بالاخص الأكبر سناً والأصغر سناً بالاستناد على بيانات المجاعات التي نعرفها كما يرى أن المجاعات ليست أمراً يحدث بكثرة. يرى سبيكمان أن السمنة ناتجة من انحراف جيني لذا تسمى الفرضية بالجينات الطائشة أو المنحرفة (drifty genes) بالاستناد إلى الانحراف الجيني (genetic drift)، تتناول الفكرة الموضوع من الطرف الآخر، بدلاً من افتراض أن السمنة – وما يرتبط بها مثل السكري 2 – مفيدة، فإن الافتراض هو أن الانتقاء على أساس النحافة قد زال قبل مليوني سنة تقريباً نتيجة قضاء الإنسان أو الظروف بشكل عام على المفترسات الرئيسية، والتي كانت تشكل ضغطاً لانتقاء القادرين على الجري والحركة برشاقة، وبالتالي بزوال هذا ظهرت السمنة وما يرتبط بها.[11]

كانت المجاعة التي حصلت في الصين بسبب سياسات الحزب الشيوعي في منتصف القرن العشرين احدى الأدلة التي يستند إليها سبيكمان في دحض دور المجاعات في الانتقاء لاسيما في معدل الإماتة المرتفع للمجاعة وانخفاض نسبة التكاثر إلى حد كبير. وكذلك الحال في المجاعة الهولندية.

لا يستند سبيكمان على زوال الافتراس فقط بل على نقاط عديدة ساهمت في زوال الافتراس، مثل تطور السلوك الاجتماعي، اكتشاف النار، تطور الأسلحة، وفي نفس الوقت انقراض مجموعة من المفترسات الرئيسية. يعتمد سبيكمان في معظم ما يذكره بفرضيته من أدلة حول الافتراس على كتاب “الانسان: الذي يتم افتراسه” (Man the Hunted) وهو كتاب في الأنثروبولوجيا الاحيائية. يعتمد أيضاً على دراسة تجد علاقة بين كتلة الفأر والمسافة بينه وبين أقرب غطاء له يحميه من المفترسات حيث يقل استهلاكه للغذاء بظهور رائحة المفترس في نطاق قريب منه ولجوءه إلى الجحر البعيد نسبياً عنه[12].

لا يلغي سبيكمان الدليل الجيني بل يفترض عبثيته وعشوائيته منذ حوالي 1.8 مليون سنة. يعرف قوتين أو نقطتين، نقطة التدخل العليا والسفلى، السفلى هي القوة أو المؤثر الذي يجعلنا نكتسب الوزن عبر خزن الدهون خوفاً من التضور جوعاً، والنقطة العليا هي التي تجعلنا نخسر الوزن وبالنسبة لسبيكمان فالافتراس هو أبرز قوة من هذا النوع. أيضاً لا يفترض سبيكمان بالضرورة أننا صرنا نتجه نحو البدانة مع زوال الافتراس بل فقط هناك توجه عشوائي ليس مستمراً بالضرورة في الطفرات الوراثية المتعلقة بخزن الدهون. يتعامل سبيكمان مع الجينات والطفرات والسنوات والدرجات على مؤشر كتلة الجسم BMI  تعاملاً رياضياً وبافتراضات واسعة النطاق من قبيل مقارنة إمكانية تأثير كل جين على مؤشر BMI لفترة ما نتيجة طفرة ما.[13]

لكن ألا يمكن أن نحاكم الفرضية هذه بنفس الطريقة ونقول إن الافتراس ليس تحدياً كبيراً؟ أحد الأرقام التي يستشهد بها سبيكمان تقول أن 10% من البشر على الأقل ماتوا عبر الافتراس قبل مليوني عام. ألا يمكن أن نفترض أن سكان الغابات اليوم يجب ألا يمروا بنفس البدانة للسكان خارج الغابات لأنهم بقوا تحت نفس الضغط؟ ألا يمكن أن نفترض وجود شعوب مرت بالافتراس بشكل مختلف؟ بالفعل سبيكمان يستشهد بالصيادين الجامعين الحاليين كمجاميع لها مؤشر كتلة جسم منخفض ولا تعاني من البدانة وما زالت تعيش كما كنا نعيش قبل مليوني عام (كما يرى سبيمكان). مع ذلك، فإن حجة سبيكمان مختلفة تماماً، فهو يتكلم عن انقراض على نطاق واسع للمفترسات الرئيسية، إنه تغير كامل في المشهد بكامل الأرض ولا يقتصر على امكنة معينة وبضعة كائنات وكذلك فإن الكتاب الذي ذكرناه أعلاه والذي يعتمد عليه كمصدر للأدلة (وهو كتاب غير خاضع لمراجعة الأقران)، ينص على أن الافتراس ما زال جزءاً من حياة الإنسان في بعض مناطق أفريقيا، الكتاب هذا يتحدث عن نطاق واسع من المفترسات من الطيور والأسماك والزواحف واللبائن كلها كانت تتغذى على اشباه الانسان الذين كانوا أصغر حجماً وأقل حيلة بكثير من الانسان اليوم ولاسيما استرولوبيثسينس (Austrolopithecines). ويستشهد بأمثلة حديثة منها مجزرة تعرض 1000 جندي ياباني في الحرب العالمية الثانية إلى مجزرة على أيدي التماسيح لم تبق منهم سوى 20 على قيد الحياة خلال ليلة واحدة، طبعاً قصص كهذه تعد غير منطقية وفيها كثير من المبالغة ومرفوضة كدليل علمي[14].

من الجدير بالذكر أن فرضية سبيكمان تفتقر لأي تركيز على السكري بشكل خاص فهو يجده أمراً تابعاً للسمنة فقط، كما لا يوجد نقاش حول الجينات فهو يرى أن فرضية جينات المجاعة خاطئة من أساسها لذا فإن البحث عن الجينات بشكل منفصل هو مضيعة للوقت، أيضاً لا يوجد دليل قوي حول المفترسات وكثير من الكلام حول الافتراس، ويبقى رغم فكرة الانحراف الجيني وزوال الضغط الانتقائي على الجينات عدم وجود مانع على الأدلة الجينية حول السمنة أو النوع الثاني من السكري.

الحكم النهائي عن مقالات سبيكمان في المجتمع العلمي هو القبول، سواء من خلال الاستشهادات العالية أو من خلال تبني الفكرة وتفضيلها على الفكرة الجينية من قبل البعض. أيضاً، فلو نظرنا، لوجدنا أن فرضية سبيكمان هي الوحيدة التي تعطي دوراً لنمط الحياة ودور الحركة، صحيح أن بقية الفرضيات لا تنكر هذا الأمر، لكنها توجهها في إيجاد المسببات للسمنة يسلك منحى الأدلة الجينية أو الفسلجية التي تقع خارج قدرة الإنسان.

جون سبيكمان

جون سبيكمان

الحياة الحديثة والسكري من النوع الثاني

لو نظرنا إلى أشهر دراسة أجريت حول العلاقة بين السكري من النوع الثاني ونمط الحياة لوجدنا أن النقاش حول المسببات التاريخية للسمنة والنوع الثاني من السكري هو نقاش هامشي جداً. أشهر دراسة أجريت كانت قد شملت أكثر من 84 ألف امرأة بين الأعوام 1980 و1996. في بداية الدراسة لم تكن أي من النسوة تعاني من السكري أو الأمراض القلبية أو أي نوع من السرطان، ثم استمرت النساء بالإبلاغ عن نمط حياتهن ومعلوماتهن الصحية بشكل دوري. بعد 16 سنة، أصيبت 3300 امرأة بالسكري، وكان معدل الارتباط بين عدم القيام بالتمارين، الحمية السيئة، التدخين، عدم تناول الكحول كلها مرتبطة بالسكري 2 (بالفعل ذكرت الدراسة أن الامتناع عن الكحول كان عامل ارتباط مع السكري وليس تناول الكحول الذي صنفته الدراسة ضمن عوامل تقليل الخطر). وقد خلصت الدراسة إلى أن 91% ممن أصبن بالسكري 2 كان لتغير عاداتهن وأنماط سلوكهن دور واضح في ذلك بالإضافة إلى عدم إلتزامهن بعوامل تقليل الخطر التي ذكرتها الدراسة والتي قللت الإصابة بالسكري 2 بنسبة 90% عمن لم يلتزمن بتلك العوامل. عوامل تقليل الخطر التي ذكرتها الدراسة هي تناول كمية محدودة من الكحول يومياً، الامتناع عن التدخين، الالتزام بالرياضة لنصف ساعة يومياً على الأقل، تناول الدهون غير المشبعة المتعددة وعدم تناول الكثير من السكريات والدهون المشبعة، مع وجود الألياف في الحمية ومع مؤشر كتلة الجسم أقل من 25[15].

لا تقارن شهرة وأهمية هذه الدراسة في المجتمع العلمي بأي من الدراسات السابقة، فضلاً عن ارتباط حقائق كهذه بتعليمات مباشرة يمكن تقديمها إلى الناس لأخذ الحيطة من الإصابة بالسكري 2. لذا، فقد نستطيع عزو نسبة معينة من مسببات السكري 2 إلى العوامل الأخرى، لكن الأغلبية من المصابين لابد وأن لعنة الحياة الحديثة هي التي أصابتهم. مع ذلك، يبقى السؤال حول الدراسة السابقة مثلاً، ماذا عن النساء اللواتي لم يلتزمن بنمط الحياة الصحي ولم يكن من ضمن الـ 3300 اللواتي أصبن بالسكري 2؟ لابد أن أحد جينات المجاعة لنيل، أو أحد الجينات الطائشة لسبيكمان أو تأثير تخلقي أو مصاب ما لحق بالأم وكان أي من تلك سبباً في أن تكون احدى تلك النسوة ضمن مجموعة الإصابة المحدودة، لذا نجد بعض الدراسات تنصح بإمكانية أخذ الملف الجيني بنظر الاعتبار إلى جانب النظر إلى نمط الحياة. [16]

استنتاج

كانت فرضية النمط الظاهري للمجاعة والتي تربط بين وزن الوليد والاصابة بالسكري 2 لاحقاً أثناء الحياة احدى أقوى الفرضيات من حيث الأدلة، فرضية علم التخلق يمكن أن تعزز تلك الفرضية من خلال تقديم الأدلة لتغيير الجينات اثناء الحمل لكن الاتيان بالأدلة حول التخلق ليس بتلك السهولة. الجينات من الطرف الآخر تمثل جزءاً ثابتاً من المشهد، وقد ثبت أن لها تأثير أكبر في بعض الشعوب المنعزلة التي مرت بتأثير المؤسس سابقاً، لكن حجم الأدلة الجينية وحتى الأدلة من فرضية التخلق والنمط الظاهري لا يقارن بالأدلة القادمة من أثر نمط الحياة على الإصابة بالسكري 2، وهذا ما يمكن تفسيره وفق فرضية الجينات المنحرفة لجون سبيكمان الذي يرى أن الجينات فيها تأثيرات عشوائية تسبب أو تمنع الإصابة بالسمنة والسكري 2 وأن نمط الحياة له دور كبير فيما يحدث وهو ما تؤكده الدراسات حول تأثير نمط الحياة على الإصابة بالسكري 2.

المراجع

[1] Taylor, Roy, Ahmad Al-Mrabeh, and Naveed Sattar. “Understanding the mechanisms of reversal of type 2 diabetes.” The lancet Diabetes & endocrinology 7.9 (2019): 726-736.

[2] Hales, C. Nicholas, and David JP Barker. “Type 2 (non-insulin-dependent) diabetes mellitus: the thrifty phenotype hypothesis.” Diabetologia 35.7 (1992): 595-601.

[3] Poulsen P, Vaag AA, Kyvik KO, Moller Jensen D, Beck-Nielsen H. Low birth weight is associated with NIDDM in discordant monozygotic and dizygotic twin pairs. Diabetologia1997; 40: 439–46

[4] Vaag, A. A., et al. “The thrifty phenotype hypothesis revisited.” Diabetologia 55.8 (2012): 2085-2088.

[5] Herder, Christian, and Michael Roden. “Genetics of type 2 diabetes: pathophysiologic and clinical relevance.” European journal of clinical investigation 41.6 (2011): 679-692.

[6] Minster, Ryan L., et al. “A thrifty variant in CREBRF strongly influences body mass index in Samoans.” Nature genetics 48.9 (2016): 1049-1054.

[7] Weiss, K. M., and R. H. Ward. “James V. Neel, MD, Ph. D.(March 22, 1915–January 31, 2000): Founder Effect.” The American Journal of Human Genetics 66.3 (2000): 755-760.

[8] Hales, C. Nicholas, and David JP Barker. “The thrifty phenotype hypothesis: Type 2 diabetes.” British medical bulletin 60.1 (2001): 5-20.

[9] Stöger, Reinhard. “The thrifty epigenotype: an acquired and heritable predisposition for obesity and diabetes?.” Bioessays 30.2 (2008): 156-166.

[10] Liu, Jiangman, Guangping Lang, and Jingshan Shi. “Epigenetic regulation of PDX-1 in type 2 diabetes mellitus.” Diabetes, metabolic syndrome and obesity: targets and therapy 14 (2021): 431.

[11] Speakman, John R. “Thrifty genes for obesity, an attractive but flawed idea, and an alternative perspective: the ‘drifty gene’hypothesis.” International journal of obesity 32.11 (2008): 1611-1617.

[12] Carlsen, Michael, et al. “The effect of predation risk on body weight in the field vole, Microtus agrestis.” Oikos (1999): 277-285.

[13] Speakman, John R. “A nonadaptive scenario explaining the genetic predisposition to obesity: the “predation release” hypothesis.” Cell metabolism 6.1 (2007): 5-12.

[14] McGrew, William C. “Donna L. Hart, Robert W. Sussman: Man the hunted: primates, predators, and human evolution.” (2011): 91-92.

[15] Hu, Frank B., et al. “Diet, lifestyle, and the risk of type 2 diabetes mellitus in women.” New England journal of medicine 345.11 (2001): 790-797.

[16] Temelkova-Kurktschiev, T., and T. Stefanov. “Lifestyle and genetics in obesity and type 2 diabetes.” Experimental and clinical endocrinology & diabetes 120.01 (2012): 1-6.

راجعته: رغدة ابراهيم