أصبح لقاح جارداسيل أحد اللقاحات الروتينية ضد سرطان عنق الرحم بعد ان اقرته منظمة الغذاء والدواء في سنة 2006. فعالية هذا اللقاح هي 100% ضد بعض سلالات فيروس الورم الحليمي (بابيلومافايروس).

تكمن وراء هذا اللقاح قصة طويلة من الاصرار والمثابرة. حتى ستينيات القرن الماضي اعتبر العلماء فكرة وجود ترابط بين السرطان والفيروسات فكرة مضحكة ومنافية للعقل. حتى مجيء العام 1976 حيث اكتشف العالم الالماني هارالد تسور هاوزن سلالات فيروس الورم الحميدي التي تصيب الانسان. هذه الفيروسات تعتبر من اول الفيروسات المكتشفة التي تسبب السرطان.

ظهور هذا النوع من اللقاحات يعتبر نقلة نوعية في كيفية رؤية الباحثين لتطور السرطان. ففي الخمسينيات كانت عالمة البكتيريولوجي سارة ستيوارت هي اول من اسس لفكرة امكانية وجود علاقة بين بعض انواع الفيروسات والسرطان. وكانت على وشك الابعاد عن المجتمع العلمي بسبب تلك الفكرة الغريبة انذاك. وقد اثبتت عام 1957 ان الفيروس التورمي (بولي اوما) يسبب اوراماً سرطانية في الفئران، لقد غير هذا البحث فكرة العلماء عن السرطان الى الابد.

ولدت سارة ستيورات عام 1906، في المكسيك. وفي بداية الثورة المكسيكية سنة 1911، أمرت الحكومة المكسيكية بترحيلهم الى امريكا. انتقلت العائلة الى نيو ميكسيكو عندما كانت ستيورات في المدرسة الثانوية، ثم التحقت بجامعة ولاية نيو ميكسيكو، حيث درست هناك الاقتصاد المنزلي والذي يعتبر اعلى قسم يمكن للنساء الالتحاق به في ذلك الوقت. وعند تخرجها في1927 كانت تملك شهادتين واحدة في الاقتصاد المنزلي والثانية العلوم العامة. ثم في عام 1930 حصلت على شهادة الماجستير في علم الاحياء المجهرية من جامعة ماساتشوستس، وفي نفس السنة حصلت على منصب في محطة كولورادو للبحوث كأول عالمة بكتيريا هناك، عملت هناك لثلاث سنوات حتى قررت الحصول على شهادة الدكتوراه. اثناء عملها على شهادة الدكتوراه اخذت وظيفة غير مدفوعة كمساعد باحث مع العالمة ايدا بينتغسون، وهي اول امرأة تعمل في خدمة الصحة العامة، كان عملهما يركز على البكتريا اللاهوائية (التي تستطيع العيش بدون اوكسجين)، والتي تسبب بعض انواعها الغرغرينا الشائعة في جروح الحرب، استطاعت ستيوارت تطوير لقاح وعلاج للغرغرينا تم استعماله لاحقا في الحرب العالمية الثانية. حصلت ستيورات على شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو في1939، في مرحلة ما فقدت اهتمامها في دراسة البكتريا الاهوائية وتركت عملها في مؤسسة الصحة الوطنية ( NIH) في 1944. (كان لدي شعور قوي بأن هناك بعض انواع السرطانات تسببها الفيروسات) كما قالت ستيورات في احدى المقابلات. وهذا الشعور بالذات هو الذي جعلها تتوجه للبحوث السرطانية، لكنها قوبلت بالكثير من الرفض لان فكرتها كانت غريبة وغير مرحب بها في المجتمع العلمي. كما تم رفض طلبها من قبل مؤسسة الصحة الوطنية لعمل دراسة حول فكرتها، لكونها لا تملك الخبرة الكافية لعمل بحوث بشرية، مما جعلها تقرر دراسة الطب للحصول على الخبرة اللازمة للقيام بهكذا بحث. لكن وحتى عام 1947 لم يكن يسمح للنساء بدراسة الطب. وفي عام 1949في عمر الثالثة والاربعين كانت ستيوارت اول امرأة تحصل على شهادة الطب من جامعة جورجتاون. حتى بعد ان عادت الى مؤسسة الصحة الوطنية بعد تخرجها، لم تستطع القيام بالبحث، حتى تم تعيينها كمديرة طبية في خدمة الصحة العامة في بالتيمور حيث كانت تملك المصادر والمعرفة الكافية لبدء بحثها.

لم يكن علماء الاورام على استعداد لاعتبار بعض انواع الفيروسات قد تسبب السرطان وذلك لسببين: الاول هو ان معظم الناس يعتقدون بان سبب السرطان بيئي او كيميائي والسبب الاخر هو انه اذا كان السرطان ذا سبب فيروسي فلماذا لا ينتقل السرطان من شخص لأخر كما تنتقل العدوى الفيروسية؟

لم يكن بحث ستيورات عن اساس فيروسي للسرطان امرغير مسبوق. حيث انه في 1911 اكتشف عالم الفيروسات بايتون راوس فيروس (راوس ساركوما) والذي يسبب السرطان في الدجاج. وفي عام1933 اكتشف الطبيب وعالم الفيروسات ريتشارد شوب فيروس (شوب بابيلوما) والذي يسبب سرطان القرنية في الارانب. وبعد ثلاث سنوات عرض البايولوجي جون بتنر ان فيروسات تسبب السرطان في الفئران تنتقل من الام الى صغيرها عبر الحليب. لكن البحث الذي حقق طفرة في الرابط بين السرطان والفيروسات هو بحث العالم لودفيغ غروس حول سرطان الدم (لوكيميا)في الفئران في الخمسينيات. خلال عمل غروس على بحثه في قبو احد المستشفيات في برونكس في عام 1951، اكتشف فيروس يسبب اللوكيميا للفئران (والذي تم تسميته باسمه لاحقا) حيث حقن فئران حديثة الولادة بخليط من اعضاء معصورة لفئران كان مصابة باللوكيميا وبعد فترة اصيبت الفئران حديثة الولادة باللوكيميا !. جربت ستيورات هذه التجربة بالتعاون مع العالمة بيرنيس ايدي ولمفاجئتهما لم تتكرر النتائج بل نمت في الفئران انواع جديدة من الاورام في الغدد النكفية وليست اللوكيميا، ولم يتم ملاحظة هذا النوع من الاورام في الفئران سابقا.

نشرت ستيوارت وايدي عام 1957 ورقة بحثية بعنوان( اورام في فئران ملقحة بعامل سرطاني محمول في زرع نسيجي) واوضحت لاحقا ان افضل تفسير لذلك هو ان العامل السرطاني هو فيروس، وكانت هذه اول مرة يؤكد فيها عالم ان هناك سبب فيروسي للسرطان. هذه الورقة البحثية استندت على تجربة قامت بيها العالمتان، حيث حقنت ستيورات خلايا قرد واجنة فئران بمستخلص سرطاني معزول. وكانت السوائل المستخلصة من اجنة الفئران تحتوي على كمية كبيرة من الفيروسات المسببة للسرطان.

تبين لاحقا ان الفيروس الذي اكتشفتاه يسبب 20 نوع اخر من السرطان، بالإضافة الى سرطان الغدة النكفية. لذلك اقترحت ايدي ان يتم تسميته( بولي اوما )، والتي تعني حرفيا (سرطانات متعددة). وفي عام 1958 استطاعت العالمتان زرع الفيروس في حقل نسيجي للمرة الاولى. وتمت تسميته لاحقا فيروس (SE polyoma (Steward-Eddy تكريما لهما.

نشرت ستيورات اخر ورقة بحثية لها عام 1972 والتي تشير فيها الى وجود اثار لفيروسات تسبب سرطانات بشرية. وفي اثناء عملها المستمر لفهم السرطان، واجهت هي السرطان شخصيا والذي انهى حياتها في عام 1976.

ابحاث ستيورات وايدي في مجال السرطان قد غيره الى الابد، حيث تم اختراع لقاح جاردسيل اعتمادا على ابحاثهما، والذي يحتمل انه في المستقبل سيقلل من الاصاببة بسرطان عنق الرحم بنسبة 90% والكثير من الاكتشافات التي لولا اصرار ستيورات وايدي ومثابرتهما لما تم اكتشافها.

المقال الأصلي:

Leila McNeill, “The Woman Who Revealed the Missing Link Between Viruses and Cancer“, SMITHSONIAN.COM, JUNE 17, 2019