هل تحتاج الرياضيات الى الكلمات واللغة ؟ في القرن التاسع عشر تحدث كارل “فريدريك غوس” مازحا بأنه يستطيع الحساب قبل ان يتكلم. لكن ربما لم تكن مزحة! فمجموعة من الأبحاث الجديدة قد طرحت الشك حول الفكرة القائلة بأن اللغة هي الأساس الذي يقوم عليه التفكير الرياضي، أو ربما جميع أشكال التفكير المجرد.
قام علماء من جامعة شفيلد بإنكلترا بوصف مدى روعة القدرات الرياضية عند ثلاثة اشخاص ذوو اعمار متوسطة مصابون بضرر بالغ على مستوى المراكز اللغوية للدماغ. تقول احدى المكلفات بالدراسة روزماري فارلي “قمنا بدراسة حالة شخص فاقد للقدرة على الكلام ولكنه يستطيع الحساب. تحدينا الأول كان إيجاد مقاربة بين الرياضيات والعمليات اللغوية”.
فارلي وزملاءها وجدوا ان الأشخاص المعنيين وبالرغم من عدم قدرتهم على إدراك الفروقات النحوية مثال “الكلب ينهش الفتي” أو ” الفتى ينهش الكلب” فهم قادرون على إدراك الفروقات في البنيات الرياضية مثل “15-3” و “3-15”.
وقد قام الباحثون بإيجاد طرق لطرح أسئلة أكثر تجردا قدر الإمكان، حاليا هم يحاولون التحقق من تصور الأشخاص الذين أجريت عليهم الدراسة لمفهوم اللانهائية، بمجموعة من حركات اليد وغمزات العين (اليدين للإشارة الى أكبر او أصغر الغمزة للإشارة الى الاستدراك “لكن”) طلب من هؤلاء الأشخاص في كل مرة إيجاد عدد أكبر من 1 وأصغر من 2. اجاب هؤلاء الأشخاص بطرق مختلفة منها إضافة رتبة عشرية على سبيل المثال: 1.5 1.55 1.555 …
بالرغم من ان الأشخاص الذين خضعوا للدراسة قد أجابوا بسهولة على الأسئلة الرياضية التي كانت ممثلة بترميز رياضي الا ان الكلمات تمثل عائقا كبيرا بالنسبة لهم لدرجة انهم لا يدركون معنى الجملة “سبعة طرح اثنان”، اذن نتائج الدراسة أظهرت بوضوح ان فاعلية اللغة لا تهم الرياضيين (ربما هي مهمة كجهاز للتذكر) فهي ليست ضرورية للحساب الذي يجري في مناطق عديدة من الدماغ.
الفكرة القائلة بأن اللغة هي التي تشكل التفكير البحت طرحت بقوة قبل 50 سنة في دراسات نشرت بشكل متأخر من طرف العالم اللغوي بنجامين لي وورف، وجداله كان حول أمور أخرى؛ المثال الذي أورده هذا العالم هو “اللغة الشوشونية Hopi language” فهو يرى بأن بنيتها تسمح لمستخدميها بفهم الزمن بشكل شامل ومختلف عن بقية الأوروبيين.
رغم ان لي وورف استمر بالدفاع عن أفكاره الا ان طرحه السابق لم يعد يؤخذ به، فالفكرة التي لاقت قبولا واسعا هي التي قدمها اللغوي نعوم تشومسكي من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا والتي مفادها بأن اللغة، الرياضيات او ربما بقية الادراكات تتم بكيفية أعمق سماها هذا العالم اللغوي”mentalese” .
يقول تشومسكي ان مفتاح هذه الكيفية العميقة قد يكون بسيطا وفي نفس الوقت الطاقة الإنسانية الوحيدة للحساب الذاتي.
تشومسكي وزملاءه يرون ان الذاتية هي التي يمكن ان تفسر كيف يمكن للعقل ان ينشأ انطلاقا من عدد قليل من الكلمات والعبارات عدد لانهائي من الجمل والتي قد تكون معقدة، كقولنا “الشخص الذي اعرفه باسم جو اكل فاكهة شجرة التفاح الخاصة بي”، كما ان الذاتية تسمح للعقل بتوليد عبارات رياضية مثل 5(67-4/5)6.
نظرية شومسكي قد تتوافق مع الدليل الجديد، بعض الدارسين يرون أن العقل يمكن ان يبني ادراكه الرياضي عن طريق اللغة وهذه البنية التي تقف وراء ترسيخ هذه المفاهيم يتم محوها، قد نجزم بصحة هذا الأمر فأحد الأشخاص من المجموعة التي أجريت عليها الدراسة لديه دكتوراه في علوم الرياضيات لم يكن مستواه في الحساب مختلفا عن بقية اشخاص المجموعة لكنه كان متفوقا عليهم في الجبر.
روتشل غالمان أحد رؤساء مركز جامعة روتجيرز للعلوم الادراكية، تعتقد بأن جراحة الدماغ يمكن ان تعطي ادلة أكثر وضوحا مما يمكن للمسح الدماغي ان يفعله، تقول في هذا الصدد “ان تضع أحدهم في الماسح وتسأله بعض الأسئلة قد يعطيك نشاطا في الكثير من المناطق اللغوية” وتضيف “هذه النشاطات قد تكون فقط لأن الشخص المعني بالدراسة يتحدث من خلال المشكلة –يعني انه يستدعي اللغة-بالرغم انها قد لا تكون عنصرا حاسما”.
الابحاث الحديثة والدراسات التي أجريت على الحيوانات والأطفال تجزم بقوة استقلالية الرياضيات عن اللغة تقول غالمان “هناك أطفال جيدون مع الكلمات سيئون مع الأرقام وآخرون جيدون مع الأرقام سيئون مع الكلمات وهذه ميزة مزدوجة تزودنا بدليل متقارب نحو الطرح السابق”.