مثل اكتشافات كثيرة، يتغاضى الإعلام عن الطريق العلمي الطويل الذي قطعه آخرون لم ينالوا الشهرة، ويركز على ذروة حدث الاكتشاف. وهذا ما حصل مع صورة الثقب الأسود التي نُشرت مؤخراً. عرف العالم صورة عالمة البيانات ومختص آخر معها عملا على إنشاء الخوارزمية التي تجمع الصور المختلفة التي تم أخذها للثقب الأسود لتولد في النهاية صورة تقريبية عن الثقب الأسود. ما لم يلتفت إليه الإعلام هو المبدأ المذهل الذي تم إنشاؤه للوصول إلى الصور بذاتها، وهو مصفوفة التلسكوبات.
انجز المشروع بواسطة تلسكوب أفق الحدث (Event Horizon Telescope) والمتمثل بمصفوفة ضخمة من المقارب الراديوية والتي تجمع البيانات من خلال محطات لما يُعرف بقياس التداخل مديد القاعدة. وقد أنشأ المشروع بتعاون دولي بين 13 عشر مؤسسة بحثية من الولايات المتحدة، تايوان، ألمانيا، المكسيك، اليابان وهولندا. وبدأ المشروع عام 2009 لهدف محدد، وهو رصد ثقبين أسودين أحدهما في المجرة الإهليلجية والآخر في مجرتنا درب التبانة.
لم يتم إنشاء مشروع أفق الحدث إلا بعد جهود نظرية طويلة في حقل فيزياء الفضاء وتحديداً حول ما يُعرف بالقرص المزود (Accretion disk) والمتمثل بحزام من الغبار النجمي والغازات تحيط بالثقب الأسود أو الظواهر الفضائية الأخرى وهو يصدر موجات مختلفة من الأشعة بحسب طبيعة الظاهرة التي ينبعث منها، ففي حالة الثقب الأسود، ويكون الطيف المنبعث من الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية هو أشعة أكس. مهد لوضع الأساس النظري لتصوير الثقب الأسود علماء عدة أبرزهم العالم الفرنسي جان بيير لومينيه (Jean-Pierre Luminet) أثناء عمله في مرصد باريس (Observatoire de Paris)، فضلاً عن جهود آخرين مثل العالم كيب ثورن الذي عرفه العالم عن كثب عند اكتشاف موجات الجاذبية.
التلسكوب الراديوي
قد يبدو الأمر بعيداً نوعاً ما، لكن ما هو التلسكوب الذي تم استخدامه في رصد الثقب الأسود؟ إنه التلسكوب الراديوي، فما هو التلسكوب الراديوي؟
لقرون عديدة ونحن نسمع عن مراصد في الحضارات القديمة، مثل المراصد التي مول بناءها المغول في فرغانة بإيران الحالية، لكن ما الذي تغير فجأة حتى أصبحنا قادرين على رؤية الأجسام الأكثر بعداً؟ لماذا لم تكن تلك المراصد قادرة على رصد ما نراه اليوم؟
بخلاف مجالات كثيرة، فإن الجيل الأقدم من التلسكوبات وهي التلسكوبات البصرية ما زال قائمً ومستخدماً، مثلما أن أجيالها الأقدم محفوظة في المتاحف. جميع التلسكوبات او المقارب (جمع مقراب) القديمة تقوم في عملها على رصد الضوء المرئي، والذي يمثل مجموعة محدودة من ترددات الطيف الكهرومغناطيسي (Electromagnetic spectrum). بالتأكيد فقد تقدمت التلسكوبات البصرية الحديثة عن أسلافها، لكنها ما زالت محدودة بنطاق محدود من ترددات الطيف الكهرومغناطيسي وهو الطيف المرئي. يعتمد عمل التلسكوب البصري على المرايا والعدسات والمزج بينهما. وقد شهد آخر تطوير له في الثمانينات فيما يعرف بالبصريات النشطة (Active optics).
أما التلسكوبات الراديوية، فقد بدأ تطويرها منذ الثلاثينات، ويُعزى أول رصد للموجات الراديوية للعالم كارل جانسكي عام 1938 في الولايات المتحدة. وتكاد معظم اكتشافات الظواهر الحديثة التي يتم رصدها في الفضاء أن تعزى للتلسكوبات الراديوية القادرة على رصد نطاق أوسع من ترددات الطيف الكهرومغناطيسي. سيبدو التلسكوب البصري أشبه بالناظور (وبالتأكيد فإن التلسكوبات الاحدث ستكون ذات بنية معقدة جداً) فيما سيدو التلسكوب الراديوي شبيهاً بصحن استقبال البث من الأقمار الصناعية والموجود في أسطح المنازل.
لكن لماذا نحتاج المزيد من التطوير؟ هل هناك مشكلة؟ أو هل هناك قصور في عمل التلسكوب الراديوي؟ في الحقيقة، هي ليست مشكلة بقدر ما هي حاجة إلى المزيد من المعلومات. فالصور الناتجة سواء من التلسكوبات البصرية الحديثة أو من التلسكوبات الراديوية تكون صغيرة. نحن نعيش في نقطة متناهية الصغير في فضاء واسع، لكن مع ذلك، فلو كان نطاق الرؤية أوسع من نقطة رصد التلسكوب ذاته فمن الممكن أن نحصل على صورة أفضل، تخيل تصوير نقطة معينة بعدة كاميرات في نفس اللحظة ومن عدة نقاط، هل يُمكن مقارنتها بصورة من كاميرا واحدة؟ طبعاً التشبيه غير جائز بهذا الشكل، فكل الأرض هنا هي نقطة واحدة. لكن وباستخدام مبدأ قياس التداخل مديد القاعدة، صار من الممكن تشكيل صور أفضل وذات دقة أعلى من تلسكوبات راديوية تبعد عن بعضها آلاف الكيلومترات على سطح الأرض.
مصفوفة من التلسكوبات ومبدأ التداخل
تنطبق موجتان، إذا ما كانتا على طورٍ واحد فستشكلان تداخلاً بناءاً، أما إذا كانتا بطورٍ مختلف، فستشكلان تداخلاً هداماً. يشكل الأول موجة أكثر شدة، فيما يُضعف الآخر الموجة الناتجة أو يلغيها. هذا هو مبدأ التداخل. يُستخدم هذا المبدأ مع الأطياف الموجية المختلفة، المرئية وغير المرئية وتقوم تطبيقات قياس التداخل في علم الفضاء على تواجد نقطتين للملاحظة.
مع تطبيق هذا المبدأ على الموجات الراديوية القادمة من الفضاء يصبح من الممكن الحصول على صور عالية الدقة من تلسكوبات متباعدة على سطح الأرض ومع احتساب كافة المتغيرات المتعلقة بأنماط دوران الأرض والمسافة والفارق الزمني بين الموجات التي يتم رصدها من التلسكوبات المختلفة. كما يُمكن بالطريقة نفسها توفير حسابات بالغة الدقة حول دوران الأرض نسبة إلى أجسام أخرى تتم ملاحظتها في الفضاء.
يُعرف المبدأ المستخدم في توظيف قياس التداخل بالقياسات الفضائية بتركيب البؤرة أو تركيب الصور، وقد عمل على تطويره كل من السير مارتن رايل (Sir Martin Ryle) وأنطوني هيويش (Antony Hewish) وقد حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1974 لبحوثهما في هذا المجال. قدم كل من رايل وهيويش بؤرة توحد تلسكوبين يبعدان عن بعضهما 5 كيلومترات، وقد أثمرت الجهود التي قاما بها بتأسيس قياس التداخل مديد القاعدة لاحقاً.
من خلال قياس التداخل مديد القاعدة (Very-long-baseline interferometry)، صار من الممكن اعتبار مجموعة التلسكوبات المتباعدة أشبه بتلسكوب أو عدسة واحدة ضخمة تعادل بحجمها المسافة بين جميع التلسكوبات المستخدمة. وقد ساهم في الوصول إلى قياس التداخل مديد القاعدة العالم روجر جينيسون (Roger Jennison) وذلك عبر تقنية طور الإغلاق (closure phase) التي تعالج الأخطاء متعلقة بالأطوار الموجية المختلفة التي يتم رصدها اثر رصد اجسام مختلفة في نفس الوقت.
حتى الآن يبدو كل شيء متكاملاً لإنتاج صورة الثقب الأسود في سبعينات القرن الماضي، لماذا إذاً تأخر الأمر حتى سنة 2019؟ لم يكن تلسكوب أفق الحدث هو أول مصفوفة من التلسكوبات، فكما ذكرنا، في المنجز الذي قام به رايل وهيويش، وقد سبقهما في ذلك مورلي ومايكلسون فيما يعرف بالتجربة الفاشلة والتي فشلت بأثبات وجود الاثير المضئ الذي كان مفهوماً سائداً ضمن نظرية الاثير، حيث يرجع مقياس التداخل الذي قدماه إلى نهاية القرن التاسع عشر.
إن العقبات التقنية قد تكون هي الحاجز الأكبر الذي أخر توليد الصور وخزنها ونقلها كما ينبغي، فلم يعرف العالم استخدام مبدأ التداخل مع التلسكوبات الراديوية بشكل فاعل حتى مطلع الثمانينات، لاسيما عندما انتهى بناء مصفوفة كارل جانسكي بالغة الكبر (Karl G. Jansky Very Large Array) وقد سميت في عام 2012 بهذا الإسم تيمناً بجهود العالم كارل جانسكي. توالت السنوات والمشاريع مثل تلسكوب كامبرج للتركيب البؤري البصري (Cambridge Optical Aperture Synthesis Telescope) عام 1995 وهو قائم على التلسكوبات البصرية الحديثة لا على التلسكوبات الراديوية، ومرصد دبليو ام كيك في (W. M. Keck Observatory) هاواي في الولايات المتحدة عام 1996. إذاً التقنية والتعاون الدولي العلمي كانا العائق الوحيد الذي حال دون رؤيتنا لصورة الثقب الأسود مبكراً، نشوء مشاريع أصغر حجماً على مسافات قصيرة ووجود عوائق في تقنيات التصوير ونقل المعلومات وتحليلها كل ذلك جعلنا نتأخر حتى عام 2019.
ختاماً، فإننا نرى من العرفان للآباء المؤسسين للصورة التي رأيناها، أن نذكر الطريق المليء بالمصاعب الذي أدى لوصولنا للصورة، والتي لا تمثل بذاتها في ميزان العلم برهاناً كبيراً، بل تكاد تكون قيمتها رمزية في الفيزياء النظرية. ليس كما هو الحال مع وسائل الاعلام والجمهور المتحمس لرؤية الصور بدلاً من رؤية المعادلات والحسابات.
المصادر
تجربة مورلي ومايكلسون
Luminet, J-P. “Image of a spherical black hole with thin accretion disk.” Astronomy and Astrophysics 75 (1979): 228-235
مقال رائع ، يعطي كل ذي حق حقه .