يُعدُّ ويليام لين كريج بلا شك أحد أبرز المدافعين عن الدين المسيحي في العالم. ولقد طَرَح هذه الحجة المشهورة في سعيه لإثبات وجود الإله:
- إذا لم يكنْ الإله موجوداً، فلا وجود للقيم الأخلاقية الموضوعية.
- ولكنْ القيم الأخلاقية الموضوعية موجودة بالفعل.
- وبالتَّالي، فإنَّ الإله موجود.
هل أقْنَعَتكَ الحجة؟ لم تُقنعني. تَستَنِد الحجة بالتأكيد إلى منطقٍ صحيحٍ يُسمَّى طريقة الإنكار (إذا كان «أ» صحيحاً، فلابد أنَّ «ب» صحيحة. إذا كانت «ب» خاطئة، فإنَّ «أ» كذلك). ولكنْ الفرضية (أي المُقدِّمة) الأولى خاطئة، وبالتَّالي فالاستنتاج خاطئٍ وباطلٍ. حيثُ سأُجادِل في هذا المقال بأنَّه حتَّى لو لم يكنْ الإله موجوداً، فإنَّ القواعِد الأخلاقية الموضوعية لا تزال موجودة؛ فالإله غير ضروري. لم يُقدِّم كريج تعريفاً واضِحاً ودقيقاً «للقيم الأخلاقية»، ولكنِّي سأعتبِر أنَّ هذه الفئة تشمل القواعِد الأخلاقية. تُعرَّف القاعدِة الأخلاقية على أنَّها أي فرضية، إدعاء، أو توكيد يُوجِّه أو يحكم تفاعلات الأشخاص إزاء غاية أو هدفٍ ما. يُمكِن التعبير عن القواعِد الأخلاقية بصورة صحيحة بثلاث طُرق مختلفة على الأقل:
- الطَّريقة المعيارية: «لا يجوز ولا ينبغي لأي شخص من الجنس «أ» اغتصاب أي شخص من الجنس «ب»».
- الطريقة الوصفية: «إنَّه أمرٌ منافٍ للأخلاق أنْ يغتصِب أي شخصٍ من الجنس «أ» أي شخص من الجنس «ب»».
- الطريقة الإلزامية أو الإجبارية: «لا تغتصِبْ شخصاً آخر».
سوف أعبر عن القواعِد الأخلاقية في طيَّات هذا المقال بالطَّريقة المعيارية، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ أي قاعِدة يتم صياغتها بهذه الطَّريقة يُمكِن التَّعبير عنها بنفس السُّهولة بالطَّريقتيْن الأخرييْن.
ما هي الأخلاق الموضوعية؟
يُمكننا النَّظر إلى القانون الأخلاقي ببساطة باعتباره مجموعة مترابِطة ومتماسِكة من القواعِد الأخلاقية. وقد وُجِدت القوانين الأخلاقية منذ حضارة بلاد الرافدين والحضارة المصرية القديمة، بل ويُرجَّح أنْ تعود إلى مجتمعات الصَّيد وجمع الثِّمار. ففي القبائل أو المجموعات التي ضَمَّت على الأرجح أقل من مائة فرد، كان لابد من وجود قواعِد لاقتسام المكافأة التي تم الحصول عليها بشق الأنفس سواء من خلال الصَّيد أو جمع الثمار. مما لا شكَّ فيه أنَّ هذه القواعِد شكَّلت قانوناً أخلاقياً بدائياً. حيث سرعان ما ستُصبِح أكثر تعقيداً، شمولاً، وتطوراً عندما يبدأ الإنسان في تدجين النباتات والحيوانات، وتجمُّع البشر في مدنٍ. أمَّا في عالمنا الحديث، فقد تمت صياغة القوانين الأخلاقية في المذاهِب الدينية، وفي قوانين الدول والأمم والمنظمات الدولية، وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يُمثِّل ذروة هذه القوانين.
يَعتقِد كريج أنَّ القواعِد الأخلاقية موضوعية أو على الأقل يُمكِن أنْ تكون موضوعية، ولكنْ ماذا يعني هذا؟ نظراً لأنَّ كلاً من «الموضوعية» و «الذَّاتية» تمتلكان معانٍ مختلفة تَبعاً للسِّياق، فسوف أحدِّد المعاني التي أعتقد أنها تمتلكها في المجال الأخلاقي. يُمكننا تعريف التَّوكيد الذَّاتي على أنَّه إدعاء لا يُمكِن التَّحقق من صدقه أو صحته إلَّا من قِبل الشَّخص الذي يُقدِّمه، على سبيل المثال، «أشعر بصداع»، أو على أنَّه إدعاء يطرحه شخص واحِد فقط، أو إدعاء لم يتم تقييمه بعد بواسطة أي شخصٍ آخر. في المقابل، يَتميَّز التَّوكيد الموضوعي بأنَّه يُمكِن التَّحقق من صحة أو صدق إدعاءاته ليس فقط عن طريق الشخص الذي يطرحه، ولكنْ أيضاً بواسطة الأشخاص الآخرين، مثلاً، «الأرض مستديرة وليست مُسطَّحة».
هل التَّوكيدات المُتعلِّقة بالقواعِد الأخلاقية ذاتية أم موضوعية؟ أعتقد أنَّها موضوعية، حيث أتَّفِق مع كريج في هذه النُّقطة. ولنأخذْ القاعدِة الأخلاقية المذكورة سلفاً، «لا ينبغي لأي شخص من الجنس «أ» اغتصاب أي شخص من الجنس «ب»». تبدو هذه القاعِدة صحيحة وبديهية، وربما يتفِق معظم الأشخاص على أنَّها صحيحة، ولكنْ ما هى عملية التَّفكير التي تُمكِّن الأشخاص المختلفين من الوصول إلى نفس النتيجة عَلَى نَحْوٍ مَوْثُوقٍ؟ للإجابة على هذا السُّؤال، نحتاج أولاً إلى التَّغلُّب على اعتراض دايفيد هيوم القائل بأنَّه لا يُمكِننا اشتقاق عبارة «يَجِب كذا» بالاستناد إلى عبارة «وصفية» للشيء كما هو قائم بالفعل.
أرى عبارة «ينبغي كذا» على أنَّها تنبؤ مشروط وتشجيع. إذا قلتُ، مثلاً، «يَجِب أنْ تَتَسوَّق من متجر البقالة اليوم»، فإنني أتوقَّع بأنك إذا تسوقت من متجر البقالة اليوم، فسوف يؤدي ذلك إلى نتيجة طيبة لك وربما للآخرين، ولذا فأنا أشجعك الآن على أنْ تذهب إلى هناك. يُقلِّل ذلك من «لغز الواجِب». فإذا تأملنا ملياً المُكوِّن الأول، أي التَّنبؤ المشروط، سوف نَجِد أنَّه يستنِد بالفعل على عبارتيْن «وصفيتيْن». «الحقيقة» الأولى أنَّه عندما تسوقت في الماضي من متجر البقالة، أدى ذلك دائماً وتقريباً إلى نتيجة طيبة لك، في حين أنك إذا لم تتسوَّق من متجر البقالة في ظروف مماثلة، فقد تَرتَّبَ على ذلك غالباً نتيجة سئية لك. يَتمثَّل المكون الثَّاني أيضاً في عبارة وصفية، أي «حقيقة» أنني أشجعك الآن على الذِّهاب إلى متجر البقالة اليوم. وبالتالي، فإنَّ عبارة «يَجِب كذا» الأصلية مُشتقة من ثلاث عبارات «وصفية»، تَتَعلَّق اثنتان منها بأحداث ماضية، وواحدة للتَّشجيع. يُمكننا استنباط عبارات «يَجِب وينبغي كذا» من عبارات «وصفية»، ولكنْ علينا فعل ذلك بحذر وبإستخدام العقل.
يُمكِن أيضاً تطبيق هذا النَّوع من التَّحليل على القواعِد الأخلاقية. ولنرى كيف سيعمل. «يجب عليك ألَّا تَغْتَصِب أي شخصٍ»، تَتضمَّن هذه العبارة تنبؤاً مشروطاً وتشجيعاً. فإذا اغتصبت أي شخصٍ، فسوف يقود ذلك إلى عواقِبَ سيئةٍ عليك وعلى الآخرين. ولكنْ إذا لم تغتصِب أحداً، فسوف يُؤدِّي ذلك إلى نتيجة طيبة لك وللآخرين. عندما قام بعض الأشخاص في الماضي باغتصاب أشخاصٍ آخرين، كانت العواقبَ وخيمة للجاني والضَّحية والمجتمع. ولكنْ عندما تمَّ تجنَّب الاغتصاب، كانت النَّتائج جيدة لكل فردٍ في المجتمع. ولذا فأشجعك على ألَّا تغتصِب أيَّ شخصٍ. في هذه الحالة، فقد استنبطنا عبارة «يجب كذا»، كما في السَّابِق، من ثلاث عباراتٍ «وصفية». يستنِد هذا التحليل الأخلاقي على إطار أخلاقي نفعي أو عواقبي. حيث أرى أنَّ جميع الأطر الأخلاقية الأخرى، على سبيل المثال الأخلاق الواجبة، أخلاقيات الفضيلة، نظرية الأمر الإلهي، وما إلى ذلك، جميعها قابلة للاختزال إلى الإطار النَّفعي ولكنْ يتجاوز الدفاع عن هذا الادعاء نطاق هذا المقال.
هل القواعِد الأخلاقية مُخترَعة أم مُكتشفة؟
دعونا نفحص بإيجاز الطَّبيعة الأنطولوجية (أي الوجودية) للقواعِد الأخلاقية. من وجهة نظري، تُعتبَر القواعِد الأخلاقية ابتكاراتٍ معرفية وليست اكتشافاتٍ. فهى تُوجَد لا في العالم المادي بل العقلي. فلا يُمكِنك رؤيتها، سماعها، أو لمسها، ولكنْ باستطاعتك أنْ ترى وتُدرِك نتائجها في سلوك الأشخاص سواء الذين يمتثلون أو لا يمتثلون لها. فالقاعِدة الأخلاقية تُشبه مجموعة من التَّعليمات. لا يُوجَد دليل جيد على وجود عالم أفلاطوني تَتَواجِد فيه القواعِد الأخلاقية بصورة مستقلة. وهى غير موجودة في الطَّبيعة بحد ذاتها. فبدون الأشخاص والبشر، فلن تَتَواجَد القواعِد الأخلاقية على الإطلاق! فهي تَتَواجَد فقط في أذهان الأشخاص. تبدأ كل قاعِدة أخلاقية برأي شخصٍ ما، سواء أكان ذلك الشخص بشرياً، فضائياً، آلياً، أو حتَّى إلهياً. يَتمثَّل الرأي في «أنَّ هذه القاعِدة الأخلاقية قد تكون صحيحة» أو «أنْ تلك القاعِدة الأخلاقية قد تقود إلى نتيجة أفضل من القاعِدة المنافسة أو أي قاعِدة منافسة مماثلة». يُمكِن تصنيف هذه الرؤية على أنَّها شكل من أشكال الواقعية الأخلاقية بقدر ما تُوجَد القواعِد الأخلاقية في أذهان المليارات من البشر، على الرغم من أنَّ الأذهان تعتمِد اعتماداً كاملاً على العقول.
إذا كانت القاعِدة الأخلاقية موضوعية، فيجِب أنْ تخضع صحتها أو صوابها للتَّحقُّق بواسطة العديد من الأشخاص، لا شخصٍ واحدٍ. كيف يُمكِن القيام بذلك؟ ليس أمراً هيناً، ولكنني أقترح أنْ نتَّبِع النَّهج العلمي أو شبه العلمي لعددٍ من المفكرين العاملين بهذا المجال، بما في ذلك الأخلاقيات التَّطوُّرية لعالِم الرئيسيات فرانس دي فال، نظرية انتقاء الجماعات لعالِم الأحياء التَّطوُّري دايفيد سلون ويلسون، واتخاذ القرارات الأخلاقية من وجهة نظر علم الأعصاب لجوشوا جرين، ونظرية الأسس النفسية والاجتماعية للأخلاق لجوناثان هايدت، وأنظمة الرَّفاهية الأخلاقية لسام هاريس، ستيفن بينكر، ومايكل شيرمر. يُمكِن أنْ يستنِد التَّحليل النَّفعي للأخلاق إمَّا على «رفاهية المخلوقات الواعية» (هاريس في كتابه المشهد الأخلاقي)، أو «المبادئ التي تُعظِّم من ازدهار البشر» (بينكر في التَّنوير الآن)، أو «بقاء وازدهار الكائنات الواعية» (شيرمر في القوس الأخلاقي).
لنبدأ بالفكرة التي تَطرَّقنا إليها سابقاً والمتمثِّلة في أنَّ كلمة «يَجبِ» أو «ينبغي» تَتَضمَّن تنبؤاً مشروطاً. فإذا قام «أ» باغتصاب «ب»، فسوف تكون النتيجة أسوأ بكثير مما لو لم يغتصب «أ» الشخص «ب»، وبالتَّالي فيجب علينا أنْ نُشجِّع «أ» على عدم الاغتصاب. ولكنْ ما هى النَّتائج؟ لدينا العديد منها ويُمكِن اختيارها للتقييم مثل السَّعادة (جيريمي بينثام) أو رفاهية الكائنات الواعية (هاريس، بينكر، وشيرمر). تمتلك هذه النتائج بلا شك ميزاتٍ، ولكنني أقترح أنْ نقوم بتقييم نتيجة مختلفة قليلاً، تلبية القيم البيولوجية الأساسية والمتمثِّلة في البقاء، التَّكاثر، الرَّفاهية، وازدهار جميع الأشخاص. يُقدِّر جميع الأشخاص تقريباً، سواء الذين نعلم أنَّهم موجودون أو حتَّى هؤلاء الذين قد يكونون موجودين في مكان آخر، هذه الأشياء الأربعة. وهذه الحقيقة المهمة يُمكِن التَّحقق منها بواسطة الاستطلاعات العلمية، دارسات الدِّماغ، والملاحظات السُّلوكية لعينات كبيرة من الأشخاص.
لنكون أكثر تحديداً، إذا لم يقم «أ» باغتصاب «ب»، فإنَّ النَّتيجة لجميع الأشخاص المعنيين سوف تكون أفضل مما لو اغتصب «أ» «ب»، وبخاصة من حيث الرَّفاهية، والتي تُمثِّل ثالث القيم البيولوجية الأربعة المذكورة. يَتَمثَّل جزء كبير من الرفاهية في كونك حراً من القيود، خالياً من الإصابات والآلام، وبالطبع قد يُضعِف الاغتصاب جميع هذه الأشياء. في استطاعتنا معرفة النتائج المختلفة لإتباع القواعِد الأخلاقية المتباينة عن طريق تأمل التَّاريخ والقصص الحياتية، إجراء تجارب علم النفس الاجتماعي، التَّجارب الفكرية، وأخيراً عبر المحاكاة الحاسوبية. ولكنْ هل يُمكِن لأي منا أنْ يُخطئ في توقعاته للنتائج؟ نعم، قد نُخطئ لأننا أولاً وأخيراً لسنا سوى بشراً غير معصومين. ومن هنا يأتي أهمية التَّحقق من قبل الآخرين. حيث تُعتبَر القاعِدة الأخلاقية موضوعية إذا كان من الممكن التَّحقق من صحتها وصوابها ليس فقط بواسطة الشخص الذي ابتكرها في الأصل، ولكنْ أيضاً من قبل أشخاص آخرين في موقعٍ ملائمٍ. فالصَّواب والموضوعية ليسا نفس الشيء.
فقد تكون القاعِدة الأخلاقية صائبة ولكنْ غير موضوعية، وقد تكون موضوعية ولكنَّها غير صحيحة. ولأنني استخدمت العقل والمنطق لابتكار القاعِدة الأخلاقية القائلة «أنَّه يجب على الشخص «أ» ألَّا يغتصِب الشخص «ب»»، فالقاعِدة قد تكون صحيحة. ولكنْ إذا لم يقم أي شخصٍ آخر بتقييم القاعِدة أو إذا خَلُص معظم النَّاس، باستخدام العقل والمنطق أيضاً، إلى أنَّ القاعِدة غير صحيحة، تُصبِح القاعِدة غير موضوعية. فالإجماع مطلب ضروري للموضوعية. لنفترض مثلاً أنَّ أحد العلماء أجرى بحثاً واستنتجَ أنَّ حرق الوقود الأحفوري قد تسبَّب بظاهرة الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض. فلن نَثِق بهذا التَّقرير بدون تَحقُّق. ولكنْ إذا أجرى تسعة علماء بحثاً مستقلاً باستخدام نفس الأساليب، وإذا خَلُص سبعة منهم على الأقل إلى تأييد الاستنتاج الأصلي، فعندئذ يكون لدينا تحقق ناتِج عن الإجماع وتوافق الآراء. يُمكِن، بل وينبغي، استخدام هذا المنهج عينه فيما يتعلق بالقواعِد الأخلاقية.
الأخلاق الموضوعية
تَختلِف فكرة ويليام لين كريج عن الموضوعية في الأخلاق عن فكرتي. حيث يقول «عندما أتحدث عن القيم الأخلاقية الموضوعية، فإنني أقصد تلك القيم الأخلاقية الصَّالِحة والمُلزمِة سواء آمن بها أي شخصٍ أم لا. وبالتَّالي، فإنَّ القول، على سبيل المثال، أنَّ المحرقة كانت خاطئةً من الناحية الموضوعية، يعني أنَّها كانت خاطئة حتَّى لو اعتقد النَّازيين الذين نفذوها بصحتها، وكانت لتظل خاطئة حتَّى لو انتصرَ النازيون في الحرب العالمية الثَّانية، ونجحوا في إبادة أو تضليل أو غسل أدمغة كل من اختلف معهم. الآن، إذا لم يكن الإله موجوداً، فلن تكون القيم الأخلاقية موضوعية بهذه الطريقة». وفقاً لرواية كريج، فإنَّ القاعِدة الأخلاقية «لا يجب على المجموعة س أنْ تُبيد المجموعة ص» صائبة وصحيحة سواء اعتقدَ أي شخصٍ بصحتها أو لا. ولكنْ هذا لا يُمكِن أنْ يكون صحيحاً! حيث يجب على شخص ما أنْ يعتقِد بصحة القاعِدة الأخلاقية. فلا تُوجَد القواعِد الأخلاقية بمعزلٍ عن أذهان الأشخاص. يُراوغ ويتحايل كريج في تحليله. فعندما يقول «سواء آمن بها أي شخصٍ أم لا»، فإنَّ «أي شخص» يقصد بها أي إنسان. فهو يضع الإيمان بالقواعِد الأخلاقية، أو معرفتها، في ذهن الإله فقط، وبالتَّالي مُحوِّلاً موضوعية القواعِد الأخلاقية من العالم الطَّبيعي إلى فوق الطَّبيعي.
ومع ذلك، فإنَّ القاعِدة الأخلاقية التي نناقشها هنا صائبة وموضوعية على حدٍ سواءٍ، حيث يُؤكِّد صحة ذلك إجماع المفكرين القائم على العقل والمنطق. آمن النَّازيون، أو على الأقل بعضاً من قادتهم، أنَّ القاعِدة الأخلاقية المقابِلة كانت هى الصحيحة، أي «يجب على المجموعة س أنْ تُبيد المجموعة ص». تستنِد هذه القاعِدة، بالرغم من ذلك، على افتراضيْن خاطئيْن، يَتمثَّل الأول في أنَّ المجموعة ص كانت أدنى وأحطُّ وراثياً من المجموعة س، والثَّاني في أنَّها مسئولة عن معظم أو كل المشاكل بالعالم. لم يكنْ القادة النَّازيون في وضعٍ ملائم للحكم على صحة قاعِدتهم الأخلاقية الغريبة؛ لم يستخدموا العقل والمنطق. فقد كانوا مخطئين، وكان لابد من هزيمتهم بالقوة.
سواء أكان الإله موجوداً أم لا، فإنَّ القاعِدة الأخلاقية «لا ينبغي لأي مجموعة أنْ تُبيد مجموعة أخرى» صحيحة وموضوعية. فالإله غير ضروري على الإطلاق لوضع القواعِد الأخلاقية على أسسٍ سليمةٍ. في الواقع، إذا كان الإله موجوداً بالفعل وقام بابتكار قاعِدة أخلاقية من تلقاء نفسه، فلن تكون القاعِدة موضوعية بدون التَّحقق منها بواسطة العقول الأخرى. إذا أمرَ أي إله بأنْ نتبِع قاعِدة أخلاقية معينة، على سبيل المثال، أمر الإله لإبراهيم بأنْ يقتل ابنه إسحاق، فحينئذٍ سيكون من واجبنا تقييم صحتها. فلا ينبغي أنْ نُسلِّم بها بدافع الإيمان فقط، كما يُوحي كريج بذلك.
الأخلاق العالمية الصَّحيحة
تَتَفاوت القواعِد الأخلاقية بمختلف دول وثقافات العالم تفاوتاً كبيراً. ففي بعض الأماكن، يتبع بعض البشر بأمانة وإخلاص قاعِدة أخلاقية مفادها «أنَّه يَجِب أنْ يأذن الآباء بقص أو قطع الأعضاء التَّناسلية لبناتهن». بينما في أماكن أخرى، تقوم الحكومات بفرض قاعِدة أخلاقية مفادها «أنَّ أي شخصٍ يُدان بارتكاب جريمة قتل ينبغي أنْ يُعدَم». تُعتبَر بعض القواعِد الأخلاقية غير صحيحة، لاعقلانية، نسبية، وحتَّى غير موضوعية. يَنجُم عن هذا الوضع ضررٌ غير ضروريٍّ للأشخاص في كل ساعة يومياً. ما هو مستقبل الأخلاق؟ أقترِح أنْ نَهدِف إلى تأسيس أخلاقيات عالمية صحيحة.
سوف تُمثِّل الأخلاقيات العالمية الصَّحيحة قانوناً أخلاقياً شاملاً لجميع البشر، يتم إنشاؤها من الألف إلى الياء بواسطة لجنة مؤهلة من الأشخاص.تشمل الصَّفات المرغوبة الواجب توافرها في الأخلاقيات العالمية الصَّحيحة على الوضوح بدلاً من البَلاَدَة، التَّخصيص لا التَّعميم، البساطة لا التَّعقيد، الموضوعية لا الذَّاتية، العقلانية بدلاً من اللاعقلانية، سِعة النَّظر لا ضيقه، الاستقرار والثَّبات بدلاً من المِطواعية، العالمية بدلاً من النسبية أو محدودية التَّفكير، وأخيراً الظرفية بدلاً من المطلق. فربما يُمكِن للجنة «الشَّريط الأزرق» أنْ تُقيِّم القوانين والقواعِد الأخلاقية وتُصدِر كتاباً أبيض يهدِف إلى تقديم النُّصح والمشورة للحكومات والأنظمة القانونية. لدينا العديد من الوسائل المختلفة والمتاحة التي يُمكِن أنْ تستخدمها هذه اللجنة. حيث يُمكِن للجنة أنْ تستخدِم، مثلاً، مجموعة متنوعة من أدوات التَّفكير الأخلاقي مثل «حجاب الجهل» لجون راول، «الضرورة الحتمية» لإيمانويل كانط، «الدَّائرة المُوسَّعة» لبيتر سينجر، وأخيراً «مبدأ وجهات النَّظر المُتغيرة والمُتبادلة» لبينكر وشيرمر. وأقترح أيضاً أنْ تستخدم اللجنة تجربة فكرية سأُطِلق عليها «جزيرة الثُّنائي». لنتخيلْ شخصيْن، احدهما «أ» والآخر «ب»، تحطمت سفينتهما وتقطعت بهما السُّبل على جزيرة بمفردهم، ولا يعلمان ما إنْ كان سيتم إنقاذهما.
وبالتَّالي، فقد أُجبرا على العيش معاً. وهم الآن بحاجة إلى بعض القواعِد الأخلاقية التي تحكم سلوكهما وتعاملاتهما. إذا استخدموا العقل والمنطق، فما القواعِد التي سيبتكرونها؟ لنفترضْ أنَّهم عقدوا العزم على وضع قاعِدة للقتل. هناك أربعة خيارات متاحة:
- يجب على الشخص «أ» أنْ يقتل الشخص «ب».
- يجب على الشخص «ب» أنْ يقتل الشخص «أ».
- يجب على الشخص «أ» أن يقتل الشخص «ب»، والشخص «ب» يجب أنْ يقتل الشخص «أ». (قد يحدث ذلك إذا جرحوا وأصابوا بعضهم البعض، ثم مات كلاهما لاحقاً).
- يجب على الشخص «أ» ألَّا يقتل الشخص «ب»، وينبغي على الشخص «ب» ألَّا يقتل الشخص «أ».
إذا استخدم كلا الشخصيْن العقل والمنطق لاستنباط قاعِدة القتل، فأي الخيارات الأربعة سيتبنونها؟ القاعِدة الأخلاقية رقم ٤ بالطبع! حيث سوف يؤدي اختيار هذه القاعِدة إلى تعظيم البقاء، التَّكاثر، الرفاهية، وتعزيز مصالح الثُّنائي، مقارنة بالبدائل الثَّلاثة الأخرى. وبالمثل أيضاً، فباستطاعتنا وضع قاعِدة بشأن محاولة القتل. يُمكِن تعميم هذا النَّوع من الاستدلال الأخلاقي على الثمانية مليارات شخص الذين يعيشون على وجه البسيطة، دون الحاجة إلى وجود آلهة.
وبالتَّالي، لا ينبغي لأي شخص أنْ يقتل شخصاً آخر، إلَّا في ظل ظروف خاصة وقليلة، على سبيل المثال، عندما يكون ذلك ضرورياً كملاذٍ أخير لحماية نفس المرء، أو شخص ثالث من الوفاة أو إصابة خطيرة.
مجتمع من المفكرين العقلانيين
زَعَمَ وليام لين كريج أنَّه على الرغم من أنَّ الملحدين قد يتصرفون أحياناً بطرق أخلاقية، إلا أنهم لا يملكون أساساً لأخلاقهم. فلا تُوجَد لديهم سلطة أخلاقية تُجبرهم على اتباع القواعِد الأخلاقية. وبالتأكيد، يعتقِد كريج أنَّ السُّلطة الأخلاقية المُلزِمة تكمن في الإله نفسه. ولكنْ كما سَبَقَ وذكرت، فإنَّ وجود الإله ليس ضرورياً. نحن فقط بحاجة إلى سلطة نبني عليها أخلاقنا. وأقترح ببساطة أنْ تَتَمثَّل هذه السُّلطة في مجتمعٍ من الأشخاص ذوي التَّفكير العقلاني.
لقد أوضحت في هذا المقال أنَّ ويليام لين كريج مخطئ بشأن الأخلاق، كيفية حل مشكلة اشتقاق واستنباط عبارة إلزامية «ينبغي كذا ويجب كذا» من عبارة وصفية، وكيفية توفير أساس متين لإقامة أخلاق عالمية صحيحة تتوافق مع الإنسانية العلمانية. أعتقد أنَّ لدينا الآن أخلاقيات فوقية صحيحة وملائمة للقرن الواحِد والعشرين.
المقال الأصلي:
GARY J. WHITTENBERGER, Skeptic.com » Reading Room » Meta Ethics: Toward a Universal Ethics — How Science & Reason Can Give Us Objective Moral Truths Without God
راجعت المقال لغويا ريام عيسى وتم نشره في مجلة العلوم الحقيقية العدد 52 شهري نوفمبر-ديسمبر 2022