“بفعل متغيرات ثقافية وتحولات حضارية جديدة وعميقة اقترنت بها نشأة العصر الحديث، انبثق من ركام العلم القديم عملاق هو العلم الحديث، انبثق في صورة نسقية، أي مهيأة للاستقلال، بحيث تحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانيات تناميها وفاعلية عوامل تقدمها ذي المعالم الواضحة. إن النسقية موطن لتميز العلم الحديث عن العلم القديم، ويُمكن أن تتمثل نقطة التحول في أن العلم في العصر الحديث أو العلم الحديث قد أصبح نسقاً (أي ارتكازه في شتى ممارساته على أصوليات منهجية صارمة ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، تكفل للعلم تخوماً واضحةً، مما يكفل تآزر الجهود العلمية.)”

د. يُمنى طريف الخولي (فلسفة العلم في القرن العشرين)

بعد سيادة القياس الأرسطي العقيم للعصور الوسطى وتفرده بحلبة البحث، باعتباره المنهج الأوحد الملائم للبحث عن الحقائق الكلية الإلهية الموجودة في الكتب المقدسة، ساهمت عوامل عديدة كالكشوفات الجغرافية في استعادة الطبيعة مكانتها السابقة، التي تبوأتها في عصر الأيونين، كموضعٍ للبحث والسؤال. وأضحى شغل الفلاسفة الشاغل هو البحث عن منهج جديد ملائم للبحث عن الحقائق الجزئية للخروج منها بنتائج كلية، على عكس منهج أرسطو. وهو مجهود ساهم فيه العديد من المفكرين والفلاسفة أمثال ديكارت، نيقولا مالبرانش، باروخ سبينوزا، لبيـنتز، وبالطبع فرانسيس بيكون. ساهم هؤلاء الرجال جميعاً في وضع الأسس الضرورية للمنهج التجريبي (الاستقرائي) باعتماده منهج العلم الحديث وشريعته وناموسه. تجمعت عناصر العلم الحديث لأول مرة (الملاحظة، التحليل، قوانين علمية مستمدة من التجارب، التعبير عن الأفكار باستخدام الرياضيات، والاستخلاص النظري لنموذج تجريبي قابل للإثبات)، على يد ستة أفراد هم: كوبرنيكوس، تايكو براهي، جاليليو، كبلر، ديكارت، ونيوتن.

قدم نيكولاس كوبرنيكس نموذج علمي قابل للإثبات عن طريق الملاحظة (مركزية الشمس)، بينما قام براهي بملاحظات دقيقة لإثبات هذا النموذج. بعد ذلك، جاء يوهانس كبلر ليقوم بالتحليل النظري للبيانات التي جمعها براهي عن حركة الأجرام السماوية، واستخلص منها قوانينـه الثلاثة في حركة الكواكب، ممهداً الطريق لنيوتن في تصور حتمي ميكانيكي للكون. وأنهى كيبلر الاعتقاد الإغريقي القديم والذي ساد في العصور الوسطى، بأن الأجرام السماوية مقدسة، وبالتالي لابد أن تدور في شكل مقدس وهو الدائرة الكاملة. حطم كبلر هذا الاعتقاد بقانونه الأول، الذي نص على أن الكواكب تدور حول الشمس في مدرارات بيضاوية (إهليليجية) لا دائرية.

ثم جاء جاليليو ليقدم لأول مرة للمنهج العلمي، عملية القيام بتجارب كمية يُمكن تعميم نتائجها باستخدام تعبيرات رياضية، حيث كان مبدأ العلم عنده أن ما يُمكن معرفته هو ما يُمكن قياسه كمياً. بالإضافة، فقد أكد جاليليو أن الطبيعة غير عاقلة، بل هي آلة وأن تغيراتها وعملياتها ما هي إلا نتاج العلل الكيفية المؤدية للحوادث، وليس بسبب علل غائية أو نهائية. وقد ساهم ديكارت للمنهج العلمي بابتكاره الهندسة التحليلية عن طريق دمجه علم الجبر والهندسة الإقليدية، متيحاً تمثيل المكان بنظام إحداثي ثلاثي الأبعاد، حيث أي نقطة في المكان يُمكن وصفها كأبعاد مرسومة ومسقطة على طول كل إحداثي ديكارتي.

أتاح جمع ديكارت للهندسة الإقليدية وعلم الجبر، الوصف الكمي للمكان. هذا الوصف كان ضرورياً لتمثيل حركة وموضع الجسيمات في المكان، وهو ما سمح لنيوتن بدمج أعمال جاليليو في الفيزياء وديكارت في الهندسة، بالإضافة إلى قوانين كبلر لحركة الأجرام السماوية، لخلق نموذج حركي (ديناميكي) للنظام الشمسي. فبعد كل هذا الوقت، بداية من أرسطو وأفلاطون، ومروراً بأوجستين وبيكون، ثم بكوبرنيكوس، كيبلر، براهي، جاليليو، وديكارت، وصولاً إلى المرحلة النهائية المتمثلة بنشأة المنهج العلمي التي تم إعدادها من نيوتن، ولابتكاره التركيب الآلي للكون (التركيب الكينماتيكي).

ولُد إسحاق نيوتن (1643-1727) بإنجلترا، والتحق بجامعة كمبريدج في عمر التاسعة عشر. كان مخطوباً لآن ستوري، ولكنها تزوجت شخصاً آخر، ولم يتزوجْ نيوتن أبداً. كانت معظم الدراسات بكلية الثالوث (ترينيـتي) تقوم على تعاليم أرسطو، ولكن قرأ نيوتن لديكارت، جاليليو، كبلر، وكوبرنيكوس. في عام 1665، بدأ نيوتن بالتفكير بشأن الكميات متناهية الصِغر، بالإضافة إلى التغيرات في السرعة، وكيفية حسابهم باستخدام الإحداثيات الديكارتية. ولقد كانت هذه بداية تطويره لعلم التفاضل والتكامل، والذي لم يُطلق عليه نيوتن هذا الاسم، بل أسماه طريقة الدفق. حصل على درجته من جامعة كمبريدج في عام 1665، ولكن أُغلقت بعدها الجامعة نتيجة للطاعون العظيم الذي ضرب إنجلترا، الذي قتل حوالي خمس سكانها. انكب نيوتن في منزله على دراسة الجاذبية وحساب التفاضل والتكامل لعام ونصف. لم ينشر نيوتن أعماله في التفاضل والتكامل حتى عام 1693، ولكنه بلا شك اعتمد على أعمال سابقيه المشتتة والمبعثرة، جمعها نيوتن في علم رياضي دقيق، يُشاركه في هذا الشرف جوتفريد فيلهلم ليبنتز (1646-1716) الذي نشر أعماله بشكل مستقل في عام 1684. تناول نيوتن حساب التفاضل والتكامل باستخدام التفاضل (والذي أسماه الدفق)، بينما تناوله ليبينتز باستخدام التكامل (وكلاهما ضروري لعلم حساب المتغيرات).

نیوتن

نيوتن

من عام 1670 لعام 1672، أعطى نيوتن محاضرات في علم البصريات. حيث أعتقد أن الضوء يتكون من جسيمات، ولكنه أيضاً ربطه بالموجات لتفسير ظاهرة الحيود. وفي عام 1675، اقترح نيوتن وجود الأثير (وسط يملأ الفراغ لنقل موجات الضوء مثلما يفعل الماء مع الموجات) لتفسير انتقال القوى بين الجسيمات. ثم في عام 1679، عاد نيوتن إلى أعماله في علم الميكانيكا، وفي عام 1687 نشر كتابه العظيم الذي يحتوي على الهيكل المتكامل للفيزياء الكلاسيكية وللعلم الحديث قاطباً: الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية. لقد كان هذا العمل، هو الذي وضع الفيزياء على أساس كمي، والذي نطلق عليه الآن الميكانيكا النيوتونيـة. احتوى الكتاب على ثلاثة قوانين للحركة:

كل جسم يظل على حاله سكوناً أو حركة في خط مستقيم، ما لم يُجبره مؤثر خارجي على تغير حالته، أو باختصار قانون القصور الذاتي (القصور الذاتي يعني أن الجسم عاجز عن تغيـير حالته بنفسه، ويحتاج لمؤثر خارجي هو القوة).

قانون القوة، معدل التغير في العزم (كمية الحركة) يتناسب مع القوة المؤثرة على الجسم، ويكون اتجاه العزم في نفس اتجاه القوة المؤثرة.

قانون الفعل، لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس في الاتجاه.

في حساب التفاضل والتكامل، يُطلق على معادلة نيوتن للقوة والحركة حيث (القوة تساوي الكتلة مضروبة في العجلة) معادلة تفاضلية، بمعنى أنها تحتوي على تفاضلات في صورة تعابير رياضية. يُوجد الآن العديد من الطرق القياسية في التفاضل والتكامل لحل العديد من المعادلات التفاضلية، عن طريق إيجاد أنواع الحلول الجبرية التي تناسب المعادلة التفاضلية، لم يكنْ نيوتن أول من طرح معادلة تفاضلية فقط، بل أيضاً أول من قام بحلها. فعلم التفاضل والتكامل الحديث، يتكون من صيغ نيوتن للتفاضلات وللمعادلات التفاضلية، وحلولها.

المشكلة الأخرى التي عمل عليها نيوتن من أجل وضعه الإطار المتكامل للفيزياء الكلاسيكية هي التعبير الكمي عن قوة الجاذبية، مُثبتاً قانون التربيع العكسي حيث تتناقص قوة التجاذب بين جسمين تبعاً لمربع البعد بينهما. صاغ نيوتن قوة الجاذبية كـ (أ) متناسبة لكتل الأجرام السماوية (الكواكب) المنجذبة فيما بينها بقوة الجاذبية؛ (ب) تنقص الجاذبية تبعاً لمربع البعد بينهما طبقاً للقانون الذي وضعه: القوة تساوي حاصل ضرب كتلتي الجرميـْن السماوييـن في ثابت الجاذبية، مقسوميـن على مربع نصف قطر المدار).

ق = ثابت الجاذبية × كتلة الجرم (أ) ×   كتلة الجرم (ب) \ مربع نصف قطر المدار بينهما

وضع نيوتن معادلته التفاضلية للقوة (ق= الكتلة x   العجلة) مع معادلته لقوة الجاذبية المذكورة أعلاه، لحصول على حركة المعادلة التفاضلية لحركة الكواكب حول الشمس:

الكتلة x العجلة = ثابت الجاذبية × كتلة الجرم (أ) x كتلة الجرم (ب) \ مربع نصف القطر بينهما

قام نيوتن بحل هذه المعادلة التفاضلية، مستخدماً طريقته الرياضية الجديدة في حساب التفاضل والتكامل (الدفق) للحصول على الإجابات الخاصة بهذه المعادلة في شكل هندسي تحليلي، وقد وجد أن حركة الكواكب حول الشمس يُمكن وصفها باستخدام شكل بيضوي أو قطع مكافئ (مُثبتاً قانون كبلر الأول). وأخيراً، تم تمثيل النظام الشمسي باستخدام ميكانيكا الجاذبية الكونية. مُستخدماً فيزياء جاليليو، فإن نموذج نيوتن الكمي اُشتق من نموذج كوبرنيكوس للشمس، والذي اتفق مع قياسات براهي الفلكية، وقوانين كبلر في مدارات الكواكب الإهليجية. وقد اجتمعت كل هذه الأفكار معاً في معادلة تفاضلية تصف حركة الكواكب حول الشمس مقيديـن بالجاذبية.

الشمس

الشمس

الجسم الأزرق يُمثل كوكب يدور حول الشمس، وتتناسب قوة الجاذبية بينهما طبقاً لقانون نيوتن المذكور أعلاه. والخط الموجود على اليسار، يمثل نصف القطر للمدار المستخدم في المعادلة. ويمثل الخط البرتقالي، المدار الأهليجي.

من منظور تاريخي، يُمكن النظر لنشأة العلم كنوع من المشاكل المنهجية كـ (أ) تجميع كل قطع المشكلة في عصر؛ (ب) تنسيق وتوحيد جميع القطع. وهذا ما فعله نيوتن. فقد وضع جميع القطع معاً، وأنشأ النموذج النظري للميكانيكا النيوتونية. بعد التركيب الميكانيكي لنيوتن، ظهر في القرن الثامن عشر، الفروع العلمية الحديثة للفيزياء، الكيمياء، والرياضيات.

كملحوظة أخيرة في تاريخ العلم، كان هناك نزاع بين نيوتن وتوماس هوك، حول أياً منهما اكتشف قانون الجاذبية أولاً. في كتابه: محاولات لإثبات الحركة السنوية للأرض، والذي نشره عام 1674، قدم هوك ثلاثة فروض رآها لازمة لبناء نظرية كونية عامة، تحمل في مضمونها قوانين نيوتن الثلاثة. لكن للأسف، لم يمتلك هوك القدرات الرياضية الكافية لوضع فروضه على أساس رياضي.

 

 

المصدر:

د. يمنى طريف الخولي ِ(2009)، فلسفة العلم في القرن العشرين، الطبعة الثانية، الهيئة العامة المصرية للكتاب.

Betz, F. (2011).Managing Science Methodology and Organization of Research. New York, NY: Springer New York.