علاء الدين أبو الحسن الدمشقي المعروف بإبن النفيس، ربما يُعد أبرز من يباهي به المسلمون عامة والعرب خاصةً (كونه عربي النسب والنشأة بخلاف كثيرين من علماء الحضارة الاسلامية)، معروف عالمياً بصفته أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى (Pulmonary circulation). وعلى غرار ابن سينا كان ابن النفيس طبيباً على منهج جالينوس وأبقراط، وقد تميز بتقديمه وصفاً للدورة الدموية في كتابه شرح القانون الذي كان هامشاً على كتاب القانون لإبن سينا، ولاحقاً قدم الكازروني هامشاً آخر على شرح إبن النفيس[1].
الشيخ والتلميذ
ولد ابن النفيس في قرية ببلاد ما وراء النهر[2]، ونشأ في دمشق التي تعلم فيها الطب وتوفي في القاهرة حيث كان يخدم في بلاط المماليك. ولم يتكلم بين أطباء العرب أو المسلمين عموماً من بعده أحد بالدورة الدموية كما لم يتم التوسع بدراستها وبمفهومها أو بالتشريح،نستثني من ذلك ما قام به تلميذ ابن النفيس، أبو الفرج الكركي المعروف بإبن القف، الذي يعزى له إكتشاف الدورة الدموية في الأوعية الشعرية (Microcirculation). غير أن معظم نشاط إبن القف كان متركزاً على التخدير، والذي كان يفتقر في كتبه الى أهم شئ، وهو الوصفات، التي تمكن الباحثين من بعده من الاطلاع على خلطاته ونواتج عمله[3].
مع إبن القف تكاد تنتهي قصة الدورة الدموية في بلاد المسلمين الى الإهمال التام. الشواخص التي يُمكنك من خلالها أن تتابع تاريخ اكتشاف علمي معين في الحضارة الاسلامية ترتكز على الأشخاص الذين يتصلون بحلقات من الشيخ والتلميذ تماماً كالفقه والحديث وتلاوة القرآن. على سبيل المثال موسوعات الحديث النبوي الحديثة صارت تتضمن هيكليات منظمة حاسوبياً للسلاسل الطويلة للشيوخ وتلاميذهم للفهم التام لكيفية انتقال المعلومات. لكن لا وجود لمؤسسات أو سجلات يندرج تحتها هؤلاء الأشخاص، حتى المؤسسات الناشئة مثل الأزهر لدى أهل السنة أو الحوزة لدى الشيعة، فهي ليست سوى مظلة أو مكان للتجمع، وما زال كثير من مشايخ السنة والشيعة عندما يذكرون سيرتهم فإنهم لا يذكرونها مشيدين بالمؤسسة التي درسوا فيها بل بمشايخهم. ليس ذكر العلوم الدينية سوى للتوضيح، فالحديث النبوي والفقه مثلاً هما من أكثر التخصصات التي بذل المسلمون فيها من أذكياءهم ومختصيهم.
علماء عصر النهضة
كان الطبيب الايطالي العربي التوجه اندريا الاباغو (Andrea Alapago) قد عاد بعد ثلاثين سنة من الخدمة كممثل دبلوماسي في دمشق ومعه نصوص تتضمن بعضاً من كتاب ابن النفيس، وبذلك يعد أول أوربي يطلع على كتابات ابن النفيس، لكن النقل لم يكن كاملاً ولا تعرف كمية الفصول التي نقلت. بينما كان لوسيان لوكلير (Lucien Leclerc) الطبيب العسكري الفرنسي من اوائل من كتبوا عن إبن النفيس واكتشافه في موسوعته تاريخ الطب العربي (Histoire de la médecine arabe) المنشور عام 1876. يليه ويلهيم بيرتش (Wilhelm Pertsch) المستشرق والموسوعي الألماني الذي جمع المخطوطات العربية الطبية في مكتبة مدينته في جوتا. ثم تبعهم آخرون في دائرة المعارف الاسلامية وغيرها من المؤسسات والباحثين.
بينما كان أول من تكلم عن الدورة الدموية في العالم الغربي هو ميغيل سيرفيتوس (Michael Servetus) (1511-1553م) العالم الموسوعي الاسباني الذي له مساهمات في تخصصات عديدة والذي كان أبرز سمة في حياته هو توجهاته المسيحية اللاثالوثية التي أودت به الى الموت حرقاً في جنيف[4]. لم تكن الدورة الدموية هي المساهمة الوحيدة لسيرفيتوس كما أن طرحه لم يكن وفق نفس المنهج السائد لدى المسلمين.
أول ما يميز ميغيل سيرفيتوس وأقرانه من الأطباء الأوربيين في تلك الحقبة هي خلعهم لمنهج جالينوس البائد[5] وكان ذلك من أسباب إثارة الحنق عليه من قبل المؤسسة الدينية التي خرج من صلبها. إذ هاجم سيرفيتوس الطب العربي الجالينوسي والابقراطي وكان من اوائل الباحثين عن بديل، وذلك في وسط بيئة متأثرة طبياً بالعرب والاغريق.
من أسباب عدم بروز اكتشاف سيرفيتوس للدورة الدموية كان أن كتاباته الطبية القيمة كانت منشورة ضمن كتاب ديني، وكانت كتبه الدينية عرضة للحرق ولم تبق منها سوى نسخ قليلة للتداول. ولم تكن الدورة الدموية هي الإنجاز المفرد لمغيل سيرفيتوس، إذ أن له الكثير من الأوصاف لتشريح الدماغ نشرها في كتابه “البعث المسيحي” أو (Christianismi Restitutio) حيث كان يناقش بأن الروح تجري في الدم بدلاً من الأفتراض الموجود في وقته بأن هناك جزء في الدماغ يمثل يكون بمثابة العرش للروح في جسم الإنسان. لاحظ سيرفيتوس كيف أن الدم يدخل للرئة وكيف يخرج وهو “أكثر نقاوة” على حد وصفه[6]. ويقول في وصفه للدماغ:
“في بطيني الدماغ [جزئان يصفهما في الدماغ] هناك قوة لتلقي الانطباعات من الأجسام الخارجية؛ وفي الثالث هناك المنطق؛ وفي الرابع تقع الذاكرة؛ وعبر الثقب في العظم الغربالي يستقبل البطينان شيئاً من الهواء الخارجي لإنعاش الروح وبث الحركة فيها من جديد، فإذا تنفس هذين البطينان هواءاً ساماً، يكون الصرع عندئذ، أما إذا مس سائلٌ الضفيرة المشيمية فتحدث السكتة الدماغية عندئذ. وأياً كان ما يصيب أي جزءٍ آخر من الدماغ فإن ذلك يسبب فقدان القدرة العقلية”. ويعد هذا الكلام عن الدماغ ودور الدماغ تطوراً كبيراً مقارنة بعهد سيرفيتوس.
تميز اكتشاف سيرفيتوس للدورة الدموية بملاحظات أدق من ملاحظات ابن النفيس اذ لاحظ سيرفيتوس تغير لون الدم في الرئة وعظم حجم الشريان الرئوي الذي يغذي الرئة. سيرفيتوس الذين كان معارضاً لمناهج الطب العربية كان اسبانياً درس في فرنسا وتنقل وقضى فترة هامة من حياته في فيينا، وقد كان معاصراً للوقت الذي نقلت فيه اجزاء من كتابات لابن النفيس وقد كانت عربية غير مترجمة وما تترجم حتى وقت لاحق[7].
تبع سيرفيتوس وعاصره الجراح الايطالي ريالدو كولومبو (Realdo Colomo) (1515-1559) الذي عارض هو الآخر منهج جالينوس وأبوقراط ونقدهما علناً. نشأ كولومبو كتشريحي لامع في جامعة بادوا ودرس التشريح في أربعينات القرن السابع عشر وحاول التواصل مع مايكل أنجلو الرسام من أجل إعداد أطلس تشريحي مرسوم. نلاحظ أن الجامعة والتدريس الجامعي والأطلس التشريحي كلها مفردات أجنبية بالنسبة للتعليم في العالم الاسلامي وقتها.
يقال أن جميع الكتابات العربية التي كانت موجودة في إيطاليا في وقت ريالدو كولومبو لم تكن قد تمت ترجمتها الى اللاتينية في وقت كولومبو وقتها، كما أن كتابات سيرفيتوس كانت قد أحرقت، لذا فإن أغلب الظن أن اكتشاف كولومبو كان مستقلاً ونابعاً من اهتمامه العميق بالتشريح[7]. بعد كولومبو وسيرفيتوس تبرز الأعمال الرائعة والمرفقة بالتخطيطات للطبيب والتشريحي الهولندي اندرياس فيساليوس (Andreas Vesalius) ومن ثم ويليام هارفي صاحب العمل الأكثر إجمالاً وتفصيلاً ودقة في شرح الدورة الدموية.
اشكاليات المجتمع العلمي في الحضارة الاسلامية
يبقى الأمر الذي يهم الكثيرين هو الشخص الذي يجب أن يعزى له الاكتشاف، والأهم تفكير البعض بالمؤامرة والمقولة السائدة بأن العلم قد “أخذ من العرب” أو “من المسلمين”. وهنا لابد أن نثير عدة نقاط ستكون حاسمة في مناقشة الاسئلة حول مدی أهمیة عزو لهذا أو لذاك، وما هو أكثر أهمية من ذلك، وحول تناقل العلوم بين الحضارات وفضل حضارة على أخرى، يمكننا أن ندرج قائمة باشكاليات المجتمع العلمي في الحضارة الاسلامية:
- التواصل العلمي كان ضعيفاً جداً: إن المسلمين لم يمتلكوا آلية جيدة لنقل العلوم تتناسب مع العلوم الدنيوية – وفق وصفهم – فآلية الشيخ والتلميذ وتعظيم الروايات والاسانيد التي كانت آلية مثلى لتناقل النصوص الدينية لم يكن لها القيمة ذاتها مع العلوم.
- شيوخ بدلاً من المؤسسات: افتقر المسلمون لمفهوم المؤسسة، فالمؤسسة لم تكن سوى مظلة للشيوخ، والعلوم بدورها تحتاج الى آلية للتوثيق والى ارتباطات بمؤسسة تضمن توثيق وارتباط الأعمال المختلفة بها وليس فقط بالأشخاص الذين يموتون أو يتعرضون لمختلف الظروف التي تقصيهم وتقصي نتاجاتهم معهم.
- إكتشافات مهمشة: لم يعط المسلمون أهمية لإكتشاف الدورة الدموية الصغرى على أي مستوى، فعلى مستوى ابن النفيس لم تكن الدورة الدموية سوى وصف مضمن مع هامش على كتاب لإبن سينا. وعلى مستوى نقل المعرفة وتطويرها فإن الأمر يبدو أنه أحدث أثراً على مستوى نقلة واحدة مع إبن القف تلميذ ابن النفيس، لكن لم نسمع بعدها أن المزيد من التطوير والنقل قد حدث، ولو كان هناك نقل وتطوير حدث ولم نسمع به فإن سوء آليات التوثيق وانعدام المؤسساتية ستعيدنا الى النقطة ذاتها لاسيما وأن تقدماً بهذا المستوى قد حدث لكنه لم يصل إلينا.
- إكتشافات لا تساهم في إحداث ثورة علمية: اكتشاف الدورة الدموية الصغرى لم يكن سوى هامشاً كما أسلفنا، ولم يكن نابعاً من اشخاص غيروا المنهج أو حققوا أي ثورةٍ عليه، لم يسهم الاكتشاف في تغيير مسار العلم رغم أهمية ذلك الاكتشاف.
- إكتشافات تحتاج لمن يكتشفها: يشبه الاكتشاف الذي يحتاج الى من يكتشفه شرطياً يحتاج الى مواطن ليحميه، أو استاذاً جامعياً يحتاج من يعلمه من الطلاب. ليس دور الاكتشاف أن يظل قابعاً في كتابٍ ما الى أن يأتي شخص سواء اندريا الاباغو أو لوسيان لوكلير ليبلغ العالم بأن هذا الشخص اكتشف هذا الاكتشاف. يا من تظنون أنكم تنافسون رجال عصر النهضة ألا يجدر بكم الخجل بأنهم هم الذين جاؤوا ليكتشفوا ما اكتشفه أسلافكم؟ برأيي هذا الأمر لوحده لإيقاف كل نقاشات المؤامرة والكلام عن سرقة العلوم أو امناء الغرب فضلاً بما قدم المسلمون من علوم. يكفينا أننا عندما نريد أن نقرأ معلوماتٍ موثقة عن علماءنا اليوم فإننا بحاجة لمراجعة موسوعة مكتوبة باللغة الانجليزية وجميع مصادر مقالاتها تقريباً مكتوبة من مستشرقين أو باحثين غربيين.
- منجزات الطرف الآخر أكبر: يُمكن القول بأن ميغيل سيرفيتوس أو ريالدو كولومبو أو ويليام هارفي قد “سرقوا” المنجزات الاسلامية أو العربية ولكن مع الملاحظات الآتية سيبدو الاحتمال ضعيفاً:
- كل من هؤلاء الاطباء كان قد اكتشف بذاته اكتشافات أخرى وكانت له أعمال تشريحية أغزر مما كان لإبن النفيس وإبن القف، يمكن ملاحظة ذلك من تنوع الملاحظات التشريحية لسيرفيتوس مثلاً.
- عارض اطباء الغرب المساهمين في اكتشاف الدورة الدموية مجمل المنهج الذين كان المسلمون يسيرون عليه وخرجوا بطريق آخر متحدين الرؤية التقليدية ومعرضين أنفسهم للخطر.
- لم يكن نقل الكتابات العربية مكتملاً من حيث المحتوى أو من حيث الترجمة ومنها ما نقله اندريا الاباغو.
- لا توجد أي أدلة على حدوث شئ من هذا النقل، هي فقط افتراضات.
إن كتاب سيرفيتوس كان قد أحرق معه بشكل فعلي، وعلى مستوى عام فإن جميع النسخ تقريباً كانت قد أحرقت، لكن اتقاد شعلة العلم كان مختلفاً في ذلك العصر وبين هؤلاء الرجال، فلم تنته حلقة الشيخ والتلميذ بتلك النهاية. نتفق مع كثير من الباحثين والمؤرخين الذين يعزون الاكتشاف الأول للدورة الدموية لإبن النفيس[8]. لكننا نشكك بشدة في دور ذلك الاكتشاف في بناء عجلة العلم في العالم كغيره من اكتشافات الحضارة الاسلامية، ونرجع ذلك لعدد من الأسباب التي تتمثل في اشكاليات في التواصل العلمي والمؤسساتية العلمية في العالم الاسلامي. في نهاية الأمر ما أهمية اكتشاف سيحتاج في النهاية الى من يكتشفه؟
المصادر
[1] West, John B. "Ibn al-Nafis, the pulmonary circulation, and the Islamic Golden Age." Journal of Applied Physiology 105.6 (2008): 1877-1880. [2] "Ibn Al-Nafīs," Complete Dictionary of Scientific Biography. . Encyclopedia.com. 9 Jun. 2017 [3] Takrouri, Mohamad Said Maani. "Historical essay: An Arabic surgeon, Ibn al Quff's (1232-1286) account on surgical pain relief." Anesthesia: Essays and Researches 4.1 (2010): 4. [4] The Editors of Encyclopædia Britannica. "Michael Servetus." Encyclopædia Britannica. Encyclopædia Britannica, Inc., n.d. Web. 09 June 2017. [5] Stefanadis, Christodoulos, Marianna Karamanou, and George Androutsos. "Michael Servetus (1511–1553) and the discovery of pulmonary circulation." Hellenic J Cardiol 50.5 (2009): 373-378. [6] Cattermole, G. N. "Michael Servetus: physician, Socinian and victim." Journal of the Royal Society of Medicine 90.11 (1997): 640. [7] Bruce Fye, W. "Realdo Colombo" Clinical Cardiology 19.1 (1996): 77-78. [8] Akmal, Mohd, M. Zulkifle, and A. H. Ansari. "Ibn nafis-a forgotten genius in the discovery of pulmonary blood circulation." Heart Views 11.1 (2010): 26.
رااائع
ماالذي يريد ان يصل اليه الكاتب … ارجو من مجلتكم الموقرة الكف عن حشر الاسلام والتلميح في كثير من مقالاتكم على لسان صبيانكم من الكتاب على ان الاسلام لم يأتي الا مخالف لكل ماهو علمي .
أعتقد أن هذا الموقف السلبي غير منصف، فالحق أن العرب ساهموا كما ساهم غيرهم بما يستطيعون في سياق ظروفهم الحضارية، وليس صحيحا أنه لم يكن لديهم مدارس طبية بل كان هنالك مدارس مختصة، وأي ضير في أن الأوربيين قد استفادوا من العرب كما استفاد العرب ممن سبقهم لا سيما وأن المعرفة تراكمية وتطوير مؤسساتها تراكمي أيضا؟ ثم أن القطع بأن أطباء عصر النهضة لم يقفوا على ما ذكره ابن النفيس مجازفة وعدم وجود أدلة تكفي على تأكيد ذلك لا يؤكد نفيه بل لا بد للنفي من دليل مستقل. نحن الآن بحاجة إلى بناء الثقة بشخصيتنا كما نحن بحاجة إلى تقدير إسهامات الآخر والمساهمة معه ولسنا بحاجة لتدمير أنفسنا وجلد ذواتنا وإسقاط الحاضر على الماضي، كمن يرى في صلاح الدين أنه كان مستبدا لأنه لم يأت باستحقاق انتخابي! هذه العقلية التدميرية السطحية لن تدفع بنا إلى الأمام، ونحن في النهاية عرب ولسنا أوربيين ولا الأوربيون سيرحبون بنا إذا نزعنا جلدنا وانخرطنا في صفوفهم بدعوى الوحدة الإنسانية ففي النهاية نحن أمة وهم أمة وإذا نسينا هذا فهم لن ينسوه أبدا.
رد اكثر عظمة من المقال الذي حشى السم في العسل