الاسترونيزية ليست بالضبط هوية قومية بل هي عائلة لغات كما أن لدى المتكلمين بتلك اللغات الكثير من المشتركات في الجينات أيضاً. بينما تباهي بعض الشعوب بأسلافها الذين اخترعوا الكتابة أو روضوا الخيول واجتاحوا البر الاوراسي أو عبروا للعالم الجديد، فإن عدداً كبيراً من الهويات المنضوية تحت اللغات الاسترونيزية كان لهم نوع آخر من التوسع في الأرض في آخر 10 آلاف سنة، اجتياح المحيطات من بر الهند وجنوب شرق آسيا وتايوان وحتى جزيرة عيد الفصح في أقاصي المحيط الهادي جابت قوارب أقوام أجادوا الملاحة ولم نتمكن من رسم حدود هجرتهم وانتماءهم بوضوح لولا الأدلة الجينية واللغوية والأثرية.
في الصورة أعلاه: احد القوارب المعروفة ببانغالاي التي استخدمها الاسترونيزيون
من المعروف في اللغويات أن عائلة اللغات الاسترونيزية (Astronesian) لا تغطي إندونيسيا وماليزيا والفلبين فحسب بل تمتد إلى جزر المحيط الهادئ ومدغشقر ونيوزيلندا ايضاً حيث يتكلم شعب الماوري في نيوزيلندا لغة استرونيزية ايضاً وكذلك الحال مع سكان هاواي وميكرونيزيا وغيرها من جزر المحيط الهادئ. لم تكتب تلك اللغات حتى فترة متأخرة جداً فكتبت لأول مرة لغة التشام بعد 300 ميلادية أو نصوص جاوة في القرن الرابع الميلادي ثم كتبت لاحقاً لغات أخرى. لذا لا يمكن التعويل على الدليل المكتوب في توثيق تاريخ الهجرات الاسترونيزية. في الحقيقة إن هناك خيوط من الحمض النووي ترافق ذلك الانتشار ولاسيما المجموعة الفردانية O للذكور. يعتقد أن مجاميعاً من البشر هاجروا من تايوان قبل حوالي 6 الاف سنة نحو الفلبين وإندونيسيا وجزر المحيط الهادئ مثل ميلانيسيا وميكرونيزيا وغيرها.[1] فضلاً عن الدليل الجيني من الحمض النووي للميتوكوندريا.
مثل الكثير من أجزاء العالم كانت جزر المحيط الهادئ غير مأهولة قبل هجرة الاسترونيزيين. فيما تشير بعض الأدلة الاثارية على وجود بعض تقنيات العصر الحجري منذ 35 الف سنة أو أكثر[2] في الجزر التي تقع ضمن إندونيسيا الحالية اليوم. يعتقد أن هؤلاء السكان ينتمون إلى مجاميع تشبه سكان جزيرة بابوا وسكان استراليا الأصليين. لكن لم تكن لدى هؤلاء تقنيات متقدمة لصناعة قوارب للإبحار لذا فإن وجودهم في تلك الجزر كان محدوداً وخصوصاً بعد انتهاء العصر الجليدي (اقرأ. عن جينات سكان زاوية العالم).
تقترح بعض الدراسات[3] أن الاسترونيزيين بدأوا هجرتهم من تايوان قبل حوالي 6000 سنة منطلقين من مجموعة أخرى تسبق التقسيم الحالي للشعوب (صينية-تبتية، استرونيزية..الخ). يقدر الوقت الذي عاش فيه اسلاف الاسترونيزيون في البر الآسيوي بحوالي 13 الف إلى 8000 سنة قبل الآن. ثم يقدر موعد زحفهم جنوباً قبل حوالي 4200 سنة. ترى بعض الدراسات أن هناك مسارا اخر محتمل للهجرة يمتد عبر جزيرة الملايو بدلاً من الهجرة من الصين فتايوان فالفلبين. بحلول فترة تتراوح بين 3500 إلى 4000 سنة قبل الآن انتشر الاسترونيزيون فيما يعرف اليوم بإندونيسيا وماليزيا والفلبين. وقبل 3000 سنة تقريباً استوطنوا ميكرونيزيا وميلانيزيا الأقرب لتلك الجزر. ثم وصلوا مدغشقر قبل 1500 سنة تقريباً. وضمن آخر الف سنة استوطنوا نيوزيلندا وبقية جزر المحيط الهادئ البعيدة مثل هاواي وجزر عيد الفصح.

يستدل على هذه الهجرات من خلال الأنماط الزراعية والثمار التي ادخلوها للجزر في أوقات مختلفة وكذلك الفخاريات والصناعات الأخرى التي نقلوها معهم والتي تشكل بصمات لثقافتهم الواسعة.[4] تصف باحثة كتبت عن التوسع الاسترونيزي بأنها إحدى أعظم الهجرات البشرية في التاريخ حيث قام الاسترونيزيون باستيطان أي جزيرة صالحة للحياة في المحيط الهادي فضلا عن انتشارهم في المحيط الهندي.[5]
يتميز الاسترونيزيون بعدة سلالات للحمض النووي للميتوكوندريا (سلالات للأمهات) أولها المجموعة B والتي يشتركون فيها مع بر الصين ويعتقد أن هذه الهجرة ناتجة من انتقال البشر من الصين إلى الجزر المختلفة بالتزامن مع انتشار الاسترونيزيين في آخر 10 الاف سنة. وجدت إحدى الدراسات[6] أن 76% من عينات الحمض النووي للميتوكوندريا تنتمي للمجموعة B. الدراسة حاولت مقارنة إن كان هناك أثر لسكان بابوا الذين جاؤوا قبل فترة أبعد لتلك الجزر لكن الدراسة وجدت أن الأغلبية الساحقة من سكان جزر المحيط الهادئ سواء القريب أو البعيد منها هم من الاسترونيزيين.
فيما عدا المجموعة B تنتشر أيضاً المجموعة الفردانية E للحمض النووي للميتوكوندريا وهي مجموعة يعتقد انها تفرعت من الأصل M في شبه جزيرة الملايو. بالإضافة لذلك تنتشر تفرعات أخرى من المجموعة M ضمن الاسترونيزيين.
أما بخصوص الحمض النووي للكروموسوم Y للاسترونيزيين ففيما عدا اقلية تنتمي للمجموعة C وبعض من نواتج مخالطة سكان بابوا من المجموعة S، فإن الغالبية الساحقة من الاسترونيزيين ينتمون إلى المجموعة الفردانية O2a للكروموسوم واي.
[1] Stoneking, Mark, and Frederick Delfin. “The human genetic history of East Asia: weaving a complex tapestry.” Current Biology 20.4 (2010): R188-R193.
[2] O’Connor, Sue, et al. “Terminal Pleistocene emergence of maritime interaction networks across Wallacea.” World Archaeology 54.2 (2022): 244-263.
[3] Ko AM, Chen CY, Fu Q, Delfin F, Li M, Chiu HL, Stoneking M, Ko YC (March 2014). “Early Austronesians: Into and Out Of Taiwan”. The American Journal of Human Genetics. 94 (3): 426–436. doi:10.1016/j.ajhg.2014.02.003
[4] Bellwood, Peter. “Holocene population history in the Pacific region as a model for worldwide food producer dispersals.” Current Anthropology 52.S4 (2011): S363-S378.
[5] Wellen, Kathryn. “Austronesian Expansion.” Oxford Research Encyclopedia of Asian History. 2025.
[6] Duggan, Ana T., et al. “Maternal history of Oceania from complete mtDNA genomes: contrasting ancient diversity with recent homogenization due to the Austronesian expansion.” The American Journal of Human Genetics 94.5 (2014): 721-733.
