ايدا الحلقة المفقودة ولماذا لا نجد ابا مباشرا في عملية التطور. يرفض الكثيرون نظرية التطور لكون التطور لا يحدث أمامهم، فهو يرغبون برؤية لوسي “حلقة بين الإنسان والقرد” تلد توأم (إنسان وقرد)، أو يرغبون برؤية ذئب يلد توأم (كلب وذئب)، لكن للأسف ما هكذا يعمل التطور. فلا يوجد سلف مباشر لأي من الكائنات بل تولد كائنات جديدة بتراكم التغيرات في الأجيال اللاحقة، فكل مولود لأحد الأنواع هو سلف لنوع أخر، حتى في يومنا هذا جميع الكائنات، ومن ضمنها نحن، أسلاف لكائنات أخرى سوف تأتي في المستقبل.
وصحيح إن التطور عملية رصدية، لكن الرصد يكون على مستوى التشابه الجيني حيث إن التغيرات الجينية من الممكن رصدها، إما المظاهر الخارجية وولادة أنواع جديدة فهذا لا يمكن حسب الأنواع الرئيسية الموجودة، فلا يمكن إن تحدث عدة تغيرات عضوية وجينية دفعة واحد بين كائن وسلفه، فتطور الكائنات بطيء جداً، وقد يصادفه ضغوط انتخابية تسرعه بعض الشيء. فمن الصعب الكشف عن جميع الأسلاف؛ لان من شبه المستحيل إن تحفظ جميع الهياكل العظمية في التربة. فعملية التحجر هي عملية نادرة الحدوث، كما إن اغلب المتحجرات هي من كائنات منتشرة بشكل كافي لتغطي مساحات كبيرة مما يجعل تحجرها ممكن، إما الأنواع الجديدة مثل الإنسان البدائي والطيور البدائية وغيرها فهي قليلة وفي أماكن محدودة. ونادرا ما نجد كائن متحجر كامل، فغالبا ما يقع في أيدينا أجزاء من الهيكل مثل الفك والأسنان.
وفي هذا المقال سوف نتكلم عن حفرية عاشت مع فترة انفصال الإنسان عن باقي الرئيسيات، وتعتبر أكثر حفرية كمالا، حفرية لأحد أسلاف القردة، سنتكلم عن دارونیوس ماسيلاي Darwinius masillae التي تم اكتشافها في عام 1983 ونقلت لجامعة اولسو في عام 2007. داروينيوس ماسيلاي كما يلقبها العلماء أو “ايدا” كما يدعوها عالم الحفريات (يورن هوروم) الذي ترأس فريق قام بدراستها وفحصها تيمنا بابنته.
ويعتقد إن ايدا عاشت بعد انقراض الديناصورات، أي قبل حوالي سبعة وأربعين مليون عام. ولهذه الحفرية صفات بين الإنسان (كما في ذراعيه والساقين والابهام) وكذلك له صفات مع احد قردة الليمور. وتعتبر ايدا من أكثر الحفريات اكتمالاً، حيث ساعدت البيئة التي ماتت فيها على حفظ رفاتها بشكل جيد جدا، حيث أنها مكتملة بنسبة 95%، سوف نخوض في الكلام عن ايدا وعن صفاتها وكذلك البيئة التي كانت تعيش فيها.
ايدا كائن ضئيل يبلغ من العمر اقل السنة، تعيش في غابة استوائية تختلف عن الغابات التي نعرفها اليوم، يبلغ طولها حوالي نصف متر، رأسها ممتد، عيناها محدقتين، لها ذيل يبلغ حوالي متر (ضعف طولها). إما الغابة التي كانت تعيش فيها ايدا “عمتنا” كما يصفها احد العلماء، فقد كانت معتدلة المناخ تتوسطها بحيرة تكونت نتيجة لثوران احد البراكين مخلف وراءه حفرة هائلة ممتدة على طول الكيلو ونصف الكيلو متر، ملئت بالمياه الجوفية ومياه الإمطار، ولم تكن البحيرة منبع أو مصب لأي نهر، هذا ما جعل طبقة المياه السفلى التي انعدم فيها الأوكسجين تنفصل عن طبقة المياه العليا التي كان يذوب فيها الأوكسجين من الجو. وفي قاع البحيرة طين كثيف نتج عن موت الطحالب والذي ساعد بالإضافة إلى غياب الأوكسجين على قتل جميع أنواع البكتيريا، وهذا بدوره أدى إلى حفظ ايدا وغيرها من الحيوانات النافقة فيه بشكل ممتاز.
وقد رسم العلماء سيناريو موت ايدا المتوقع، حيث يعتقدون إن هنالك فقاعة غازية كبيرة خرجت من القشرة الأرضية في نفس اللحظة التي كانت ايدا تشرب الماء من البحيرة مما أدى إلى إغماءها في الحال وسقوطها في البحيرة وبالنتيجة غرقها، لتحفظ لمدة 47 مليون عام تقريبا. وثم اكتشفت بالإضافة إلى كم هائل من الحفريات في حفرة سميت باسم “ميسيل” في ألمانيا.
وكما ذكرنا سابق إن ايدا تحمل صفات من قردة الليمور، الا إن الليمور في الوقت الحاضر أكثر استقلالا مما كانت عليه ايدا، وكذلك تحمل صفات قردة “إنسان الغابة” وهي كذلك ليست من ضمن قردة إنسان الغابة، ما يعطيها أهمية خاصة بالنسبة لعلماء الأحياء، وهي في الفترة الزمنية التي كان يتوقع العلماء إن تكون هنالك حلقة بين الصنفين. وتحتوي ايدا على واحد وثلاثين فقرة وبقياس عمرها (البالغ اقل السنة تقريبا) وهيكلها العظمي فقد بات من اليسير على العلماء رسم ملامح الكائنات الكاملة النمو من نوعها. حيث من الممكن إن يصل الفرد البالغ النمو من الوزن إلى حوالي 1.3 كيلو غرام، ولطول حوالي 60 سم. وتعتبر ايدا من الحيوانات الليلية، هذا ما يؤكده اتساع محجر العينين، كما إن لها جبهة بارزة جبهتها مستديرة وإذنيها قصيرتين، كل ما ذكر تم التعرف عليه من خلال جلدها الذي كان محفوظ بشكل ممتاز.
ومن خلال فحص أسنان ايدا عرف العلماء إن عمرها حوالي 6 أشهر، فأسنانها لبنية تشبه إلى حد ما أسنان إنسان الغابة، ولا تشبه أسنان الليمور، كما إن ضروسها لم تخرج بعد. وتخبرنا فتات أسنانها أنها كانت تعتمد على الفواكه والحشرات على حد سواء.
كما تمتلك ايدا ساقان طويلتان ويدين قصيرتين مما يتح لها عملية القفز والإمساك كما هو الحال في جميع القرد التي تعيش على الأشجار. لكنها تملك عقب إنسان الغابة الذي يعمل على الدوران بين القدم والساق. إما إبهامها فهو صغير ينفرج حتى راحة اليد على الجهة اليمنى، وهي بذلك تمتلك يدين قويتين، أقوى من أي مخلوق أخر عاش على الأشجار في نفس الفترة، وفي هذه الجزئية هي تشبه الليمور أكثر من إنسان الغابة، لكنها وعكس الليمور تمتلك أظافر لا مخالب. فهي تختلف عن الليمور في الكثير من الأشياء.
واختلاف ايدا عن الليمور وإنسان الغابة يثير في أذهاننا سؤال “إلى أي عائلة أو نوع تنتمي؟”، فهي تتشابه مع الكثير من الرئيسيات في العصر الذي عاشت فيه “العصر الإيوسيني”، كما إن شكل جمجمتها العام يشبه حفرية عثر عليها في تكساس يطلق عليها “mahgarita”، وبعد إخضاع ايدا للعديد من الفحوصات منها الأشعة المقطعية، تبين أنها تنتمي إلى عائلة “أدابيفورمز” والتي يطلق عليها “نوثاركتيدا” “notharctidae”، وبالتحديد إلى عائلة ثانوية “cercamoniinae”.
ونختم المقال في تبيان أهمية ايدا، فهي من الحفريات النادرة ليس فقط على مستوى سلامتها وتكامل أجزاءها فقط، بل على مستوى مرتبتها في العائلة التي تنتمي إليها، فهي حفرية تقليدية أصلية لها قيمة علنية ومادية عالية، بما تجمعه من صفات لنوعين متمايزين إي بين الأصل والنسل. فايدا ليست بحفرية انتقالية، لأنها تحفظ التوازن بين السعالي البدائية والسعالي.كل هذا دعا فريق العلماء والمختصين الذي اشرفوا على دراستها طوال سنوات باطلاق مختلف الالقاب عليها مثل الأعجوبة الثامنة في العالم”، و “الكأس المقدسة”، و “حجر رشيد”.
كتب المقال (ايدا الحلقة المفقودة ولماذا لا نجد ابا مباشرا في عملية التطور) بالاعتماد على:
- كتاب الحلقة المفقودة – كولين تادج
- ويكيبيديا الانكليزية، https://en.wikipedia.org/wiki/Darwinius
- http://www.scientificamerican.com/article/weak-link-fossil-darwinius/
- http://news.bbc.co.uk/2/hi/science/nature/8057465.stm