بقلم: كاديل لاست
ترجمة: حسن مازن
كَتبتُ سابقاً عن السبب وراء شيوع التكاثر الجنسي لدى حقيقيات النواة من نباتات وحيوانات وفطريات وحتى الأوليات. السبب الجوهري هو أن التكاثر الجنسي يُزيد من التباين الوراثي، مما يوفر للإنتخاب الطبيعي خيارات أكثر ليختار من بينها ما يناسب ظروف البيئة المتغيرة، وهذه الخيارات الكثيرة تستحق (من وجهة نظر تطورية) إنفاق الوقت والجهد في البحث عن رفيق لمشاركته الجينيوم. المؤسف في الأمر أن الحب والألفة هي مجرد عوارض لهذه العملية التطورية لا أكثر.
التكاثر الجنسي هي عملية معقدة، ففي النهاية لايمكنك مشاركة جينيومك مع أي شخص من نوعك، إنما مع نصف عدد نوعك تقريباً. أي إن عملية التكاثر الجنسي تُقسم النوع إلى ذكور وأناث. لكن لماذا هذه الثنائية في الجنس؟ هل نحتاجها فعلاً لعملية التكاثر؟ وإن لم نكن بحاجة لهذه الثنائية الجنسية، فلماذا تنقسم بعض الأنواع إلى جنسين عندما يتعلق الأمر بالتكاثر؟ بصياغة أكثر دقة للسؤال، لماذا توجد الذكور؟!
الإجابة على السؤال الأول هي “كلا” لانحتاج لثنائية الجنس لعملية التكار الجنسي فبعض أنواع الفطريات متكيفة تماماً مع عملية التكاثر الجنسي المتماثل (isogamous)، وهي عملية تبادل الخلايا الجنسية مع أي كائن من نفس النوع إذ ليس هناك ذكور وأناث. وهذا النظام يبدو أكثر عملية من نظام التكاثر الجنسي ثنائي الجنس (ذكور/أناث) حيث تكون الخيارات محدودة بنصف عدد الأفراد من النوع الواحد. لكن إن كان الأمر كذلك فلماذا هذا العدد الكبير من الحيوانات، النباتات، وحتى الأوليات. تتبع نظام الذكور/ أناث؟
قد يبدو صادماً للبعض معرفة إن وجود الذكور هو عملية انتهازية جنسية ليس إلا! لكن إن كان الأمر كذلك فلماذا يوجد ذكور أصلاً؟!
في وقت ما، ربما قبل مليار أو ملياري عام كانت هناك عملية تكاثر جنسي متماثلة عند حقيقيات النواة، حي يتم تشارك الجينوم مع أي عضو من نفس النوع، وهذا يؤدي لإعادة تشكيل الجينوم. في هذا العالم لم تكن هناك وظائف متمايزة لأعضاء النوع الواحد ولم يكن لزاماً على جنس معين دون أخر أن يوفر الطاقة اللازمة لعملية إنجاب أعضاء جُدد عن طريق التكاثر الجنسي. وبالتأكيد ليس هذا ما عليه الحال في الأنواع ثنائية الجنس، تمايز الأجناس إلى ذكور وأناث يعتمد على الأمشاج (خلايا التكاثر الجنسي) التي ينتجها كل جنس. تنتج الأناث أمشاجاً بحجم أكبر وعددها قليل نسبياً (البيوض على سبيل المثال)، بينما تُنتج الذكور أمشاجاً كثيرة وصغيرة نسبياً (النُطف). ونتيجة هذا الاختلاف تتحمل الأناث العبء الأكبر بعملية التكار الجنسي متمايز الأجناس، حيث يقع على عاتقها توفير التغذية البيولوجية اللازمة لهذه العملية. قد يبدو هذا غير منصف. لكن من قال بأن التطور البايولوجي له قيم عدالة وإنصاف؟!
نظام التكاثر الجنسي ثنائي الجنس هذا تطور نتيجة اختلاف عارض بحجم الأمشاج لدى الأنواع التي تتكاثر تكاثر جنسي متماثل، حيث كانت أمشاج قسم معين من النوع كبيرة قليلاً ومزودة بمادة غذائية غزيرة بينما لدى بعض أفراد النوع كانت الأمشاج صغيرة ولها انسيابية حركية، هذه العملية ربما بدأت بصورة عارضة لكن الانتخاب الطبيعي يبدو أنه فضّل هذا النوع من الانتهازية الجنسوية، مع تزايد التباين في الحجم أصبحت هناك تنافسية بين أمشاج نفس النوع بدل التعاونية التي كانت سائدة، وحيث إن الأمشاج الصغيرة (الذكورية) لا تمتلك مخزوناً غذائيا يساعدها على التكاثر، كان لابد لها لكي تنتج أفراداً جدد أن تُخصِب أمشاج كبيرة غنية بالغذاء (أنثوية)، وكون الأمشاج الأنثوية كبيرة الحجم مما يصعب حركتها ونتيجة ندرتها صار لزاماً عليها أن تنتظر من يأتيها من أمشاج ذكورية لتتم عملية التلاقح، هذا التمايز أدى لاستبعاد عملية التكاثر الجنسي متماثل الأجناس من الساحة لحساب الأجناس المتمايزة، كذلك فأن عملية التمايز هذه وغزارة الأمشاج الذكورية الفقيرة بالموارد الغذائية وندرة الأمشاج الأنثوية المهمة جداً للتكاثر الجنسي، ربما هو ما يفسّر تصارع الذكور للفوز بقلوب الأناث فـ”الأنثى هي الأصل”.
لنحاول أن ندعم ذلك بهذه التجربة الافتراضية: لنفترض إن هناك 20 فرداً من النياندرتال فقط عصفت بهم الظروف المحيطة وهجرات الإنسان الحديث فانعزلوا بكهف ما مطل على المحيط الأطلسي. والآن لنأخذ الاحتمالين الآتيين: الاحتمال الأول أن هناك 18 ذكر و2 أناث فقط، والاحتمال الثاني: هو هناك 18 أنثى و2 ذكور.
فيما يخص الاحتمال الأول لا يهم عدد النطف الكثيرة المتوفرة فالعدد المحدود للبيوض سيؤدي لا محالة لانقراض المجموعة نتيجة ما سيحصل من زواج أقارب يحد من التنوع الجيني. أما الحالة الثانية فإن إنتاج نسل من 18 فرداً متباينين جينياً سيمتلك فرصة لابأس بها للاستمرار، صحيح أن نصف هؤلاء الأفراد سينحدرون من نفس الأب، لكن بامتلاك الذكران جينيوم متمايز كفاية فإن المجموعة ستستمر وتمضي بتمرير مورثاتها.
قد يبدو هذا مثالاً متطرفاً لكن عندما يتعلق الأمر بالانقراض من عدمه فإن الأناث أكثر أهمية بكثير، فهن من لديهن الموارد الأكثر شحة على خلاف الذكور الذين يُعدون أفراداً مستهلكة بالدرجة الأولى.
كما هو مقالي الأخير حول الأساس التطوري للتكاثر الجنسي (why we have sex and why it is dichotomized) فإن معرفة الأساس التطوري لتطور الجنس تجعلنا في مواجهة أسئلة مثيرة للاهتمام حول مستقبل الجنس. فباكتشافنا للقوانين البيولوجية في القرن العشرين وبداية تلاعبنا بهذه القوانين خلال القرن الـ21. نحن أمام الأسئلة التالية: هل ستستمر الاناث بتحمل عبء الإنجاب وحدها؟ وهل من تقنيات بإمكانها أن تصحّح من نظام التكاثر الجنسي القائم على ثنائية ذكور/أناث أو نطف/بيوض؟ كيف نود أن تكون حياتنا الجنسية في المستقبل؟ ما هي رؤيتنا المستقبلية حول عملية الإنجاب؟ إلى أي حد نحن مرتاحون مع البرمجة التطورية التي حضينا بها؟ لو كان لنا أن نعيد تصميم طريقة تكاثرنا الجنسي فأي نوع من التكاثر سنختار؟
أطرح هذه الأسئلة، لأنها ستكون محور الاهتمام في العقود القادمة.
—————————————————————————————————-
*كاديل لاست، عالم بايلوجيا تطورية في معهد (Global Brain Institute) وكاتب علمي مهتم بما يمكن للتطور أن يعلمنا عن الماضي البشري ويوجهنا للتعامل مع الحاظر والمستقبل.
المقال الأصلي: http://goo.gl/LRSfr8
التكاثر الجنسي هي عملية معقدة، ففي النهاية لايمكنك مشاركة جينيومك مع أي شخص من نوعك، إنما مع نصف عدد نوعك تقريباً. أي إن عملية التكاثر الجنسي تُقسم النوع إلى ذكور وأناث. لكن لماذا هذه الثنائية في الجنس؟ هل نحتاجها فعلاً لعملية التكاثر؟ وإن لم نكن بحاجة لهذه الثنائية الجنسية، فلماذا تنقسم بعض الأنواع إلى جنسين عندما يتعلق الأمر بالتكاثر؟ بصياغة أكثر دقة للسؤال، لماذا توجد الذكور؟!
الإجابة على السؤال الأول هي “كلا” لانحتاج لثنائية الجنس لعملية التكار الجنسي فبعض أنواع الفطريات متكيفة تماماً مع عملية التكاثر الجنسي المتماثل (isogamous)، وهي عملية تبادل الخلايا الجنسية مع أي كائن من نفس النوع إذ ليس هناك ذكور وأناث. وهذا النظام يبدو أكثر عملية من نظام التكاثر الجنسي ثنائي الجنس (ذكور/أناث) حيث تكون الخيارات محدودة بنصف عدد الأفراد من النوع الواحد. لكن إن كان الأمر كذلك فلماذا هذا العدد الكبير من الحيوانات، النباتات، وحتى الأوليات. تتبع نظام الذكور/ أناث؟
قد يبدو صادماً للبعض معرفة إن وجود الذكور هو عملية انتهازية جنسية ليس إلا! لكن إن كان الأمر كذلك فلماذا يوجد ذكور أصلاً؟!
في وقت ما، ربما قبل مليار أو ملياري عام كانت هناك عملية تكاثر جنسي متماثلة عند حقيقيات النواة، حي يتم تشارك الجينوم مع أي عضو من نفس النوع، وهذا يؤدي لإعادة تشكيل الجينوم. في هذا العالم لم تكن هناك وظائف متمايزة لأعضاء النوع الواحد ولم يكن لزاماً على جنس معين دون أخر أن يوفر الطاقة اللازمة لعملية إنجاب أعضاء جُدد عن طريق التكاثر الجنسي. وبالتأكيد ليس هذا ما عليه الحال في الأنواع ثنائية الجنس، تمايز الأجناس إلى ذكور وأناث يعتمد على الأمشاج (خلايا التكاثر الجنسي) التي ينتجها كل جنس. تنتج الأناث أمشاجاً بحجم أكبر وعددها قليل نسبياً (البيوض على سبيل المثال)، بينما تُنتج الذكور أمشاجاً كثيرة وصغيرة نسبياً (النُطف). ونتيجة هذا الاختلاف تتحمل الأناث العبء الأكبر بعملية التكار الجنسي متمايز الأجناس، حيث يقع على عاتقها توفير التغذية البيولوجية اللازمة لهذه العملية. قد يبدو هذا غير منصف. لكن من قال بأن التطور البايولوجي له قيم عدالة وإنصاف؟!
نظام التكاثر الجنسي ثنائي الجنس هذا تطور نتيجة اختلاف عارض بحجم الأمشاج لدى الأنواع التي تتكاثر تكاثر جنسي متماثل، حيث كانت أمشاج قسم معين من النوع كبيرة قليلاً ومزودة بمادة غذائية غزيرة بينما لدى بعض أفراد النوع كانت الأمشاج صغيرة ولها انسيابية حركية، هذه العملية ربما بدأت بصورة عارضة لكن الانتخاب الطبيعي يبدو أنه فضّل هذا النوع من الانتهازية الجنسوية، مع تزايد التباين في الحجم أصبحت هناك تنافسية بين أمشاج نفس النوع بدل التعاونية التي كانت سائدة، وحيث إن الأمشاج الصغيرة (الذكورية) لا تمتلك مخزوناً غذائيا يساعدها على التكاثر، كان لابد لها لكي تنتج أفراداً جدد أن تُخصِب أمشاج كبيرة غنية بالغذاء (أنثوية)، وكون الأمشاج الأنثوية كبيرة الحجم مما يصعب حركتها ونتيجة ندرتها صار لزاماً عليها أن تنتظر من يأتيها من أمشاج ذكورية لتتم عملية التلاقح، هذا التمايز أدى لاستبعاد عملية التكاثر الجنسي متماثل الأجناس من الساحة لحساب الأجناس المتمايزة، كذلك فأن عملية التمايز هذه وغزارة الأمشاج الذكورية الفقيرة بالموارد الغذائية وندرة الأمشاج الأنثوية المهمة جداً للتكاثر الجنسي، ربما هو ما يفسّر تصارع الذكور للفوز بقلوب الأناث فـ”الأنثى هي الأصل”.
لنحاول أن ندعم ذلك بهذه التجربة الافتراضية: لنفترض إن هناك 20 فرداً من النياندرتال فقط عصفت بهم الظروف المحيطة وهجرات الإنسان الحديث فانعزلوا بكهف ما مطل على المحيط الأطلسي. والآن لنأخذ الاحتمالين الآتيين: الاحتمال الأول أن هناك 18 ذكر و2 أناث فقط، والاحتمال الثاني: هو هناك 18 أنثى و2 ذكور.
فيما يخص الاحتمال الأول لا يهم عدد النطف الكثيرة المتوفرة فالعدد المحدود للبيوض سيؤدي لا محالة لانقراض المجموعة نتيجة ما سيحصل من زواج أقارب يحد من التنوع الجيني. أما الحالة الثانية فإن إنتاج نسل من 18 فرداً متباينين جينياً سيمتلك فرصة لابأس بها للاستمرار، صحيح أن نصف هؤلاء الأفراد سينحدرون من نفس الأب، لكن بامتلاك الذكران جينيوم متمايز كفاية فإن المجموعة ستستمر وتمضي بتمرير مورثاتها.
قد يبدو هذا مثالاً متطرفاً لكن عندما يتعلق الأمر بالانقراض من عدمه فإن الأناث أكثر أهمية بكثير، فهن من لديهن الموارد الأكثر شحة على خلاف الذكور الذين يُعدون أفراداً مستهلكة بالدرجة الأولى.
كما هو مقالي الأخير حول الأساس التطوري للتكاثر الجنسي (why we have sex and why it is dichotomized) فإن معرفة الأساس التطوري لتطور الجنس تجعلنا في مواجهة أسئلة مثيرة للاهتمام حول مستقبل الجنس. فباكتشافنا للقوانين البيولوجية في القرن العشرين وبداية تلاعبنا بهذه القوانين خلال القرن الـ21. نحن أمام الأسئلة التالية: هل ستستمر الاناث بتحمل عبء الإنجاب وحدها؟ وهل من تقنيات بإمكانها أن تصحّح من نظام التكاثر الجنسي القائم على ثنائية ذكور/أناث أو نطف/بيوض؟ كيف نود أن تكون حياتنا الجنسية في المستقبل؟ ما هي رؤيتنا المستقبلية حول عملية الإنجاب؟ إلى أي حد نحن مرتاحون مع البرمجة التطورية التي حضينا بها؟ لو كان لنا أن نعيد تصميم طريقة تكاثرنا الجنسي فأي نوع من التكاثر سنختار؟
أطرح هذه الأسئلة، لأنها ستكون محور الاهتمام في العقود القادمة.
—————————————————————————————————-
*كاديل لاست، عالم بايلوجيا تطورية في معهد (Global Brain Institute) وكاتب علمي مهتم بما يمكن للتطور أن يعلمنا عن الماضي البشري ويوجهنا للتعامل مع الحاظر والمستقبل.
المقال الأصلي: http://goo.gl/LRSfr8