يقول الفسلسوف الانجليزي كارل بوير عن العلم:(هو اعظم واجمل انجازات البشر)
بهذا المعنى يصبح الحديث عن داروين ونظريته ونتائجها العلمية ضرورة وواجبا لانها كانت ثورة في علم الاحياء الحديث
ومنذ صدوره قبل اكثر من 150 عاما احدث ويحدث كتاب دارون ضجة كبرى في الاوساط العلمية والدينية والفكرية بين مؤيد وعارض في جميع انحاء العالم,كان العنوان الاساسي لهذا الكتاب :”اصل الانواع بطريقة الانتقاء الطبيعي”والنظرية الثورية التي تضمنها هي الانتقاء الطبيعي والبقاء للاصلح من خلال الصراع من اجل الوجود ,ويدعى المؤلف تشارلز روبرت داروين الذي ولد في 12 شباط عام 1809 في بلدة شروزبري الانجليزية في اسرة اشتهرت بنزعتها العلمية ,سواء من جهة والده روبرت وارنج داروين الذي كان طبيبا موسرا او من ناحية جده ايراسموس داروين الذي كان طبيبا وفيزيائيا وشاعرا وعالم طبيعيات ,ومؤلف كتاب شهير عن حياة الحيوانات عنوانهzoonomia(1794)الذي تضمن بذور نظرية التطور التي طورها ووضع اسسها فيما بعد حفيده تشارلز
لم يعرف تشارلز حياة دراسية لامعة ,بل كان اقرب الى البلادة الذهنية منه الى الذكاء والنباهة .تلقى علومه الاولى والثانوية في مدرسة بلدته ,ثم التحق بجامعة ادنبرة لدراسة الطب بناء على رغبة والده وبعد حوالي 3سنوات بدا يتبرم من هذه الدراسة ويكرهها ,فانتقل الى جامعة كامبردج بعد ثلاث سنوات وحصل منها على اجازة في الاداب واللاهوت تخوله ان يكون راعيا في الكنيسة,وهي من المهن المحترمة في ذلك الوقت,الا انه نفر من هذه المهنة ايضا,مما اغضب والده الذي قال له:(انت لاتهتم بشيء سوى اللعب مع الكلاب واصطياد الفئران ,وستكون وبالا وعارا على نسلك واسرتك)
والواقع ان تشارلز كانت له هوايات متعددة منها:جمع الاصداف ,وانواع النباتات والمعادن وكل ما يختص بعلم الحشرات والطيور .
وعلى الرغم من هذا التخبط في الدراسة والانصراف الى حياة البذخ واللهو والشراب ,فان تشارلز اشتهر بناحية علمية مهمة ,وهي قوة الملاحظة التي اشار اليها بنفسه:(اعتقد انني متفوق على البشر العاديين من حيث ملاحظة الاشياء التي تحتاج ملاحظتها الى عناية وتدقيق وفراسة)
تلقى تشارلز من استاذيه في كامبردج ,جون هنسلو استاذ علم النبات ,وادم سدجويك استاذ الجيولوجيا ,عرضا بمشاركتهما في رحلة علمية عبر المحيطات ,كباحث متطوع في علم الطبيعة
الرحلة المثيرة
اعتبر داروين هذا العرض المفاجئ فرصة لاتعوض لاجراء ملاحظات مباشرة على جيولوجيا وبيولوجيا العالم الجديد ,وفي السابع والعشرين من ديسمبر 1831 ابحرت سفينة الابحاث الحكومية بيجل من احد الموانئ البريطانية وعلى متنها مجموعة من الباحثين من بينهم داروين ,مهمتهم مسح شامل لشواطئ امريكا الجنوبية وجزر جالاباغوس البريطانية النائية ,الغنية بشتى المناظر والتغيرات الغريبة التي تختلف فيما بينها بحيواناتها ونباتاتها وطيورها وحشراتها ,والتي تعتبر اجمل واهم مختبر طبيعي للتطور على سطح الارض ,وقد لعبت هذه الجزر دورا رئيسيا في تكوين نظرية التطور الداروينية .
استطاع داروين خلال ال السبعة والخمسين شهرا التي استغرقتها الرحلة المضنية (عادت في 12 اكتوبر 1836)ان يجمع كنزا من المعلومات والمشاهدات الحية عن الانسان في حالته البدائية وعن حياة الحيوانات والطيور والسحالي وطبقات الارض,وقد اكدت ودعمت صحة ملاحظاته الكثيرة والفحوص الدقيقة بان التطور حقيقة علمية ثابتة خضعت لها مخلوقات الارض جميعها منذ بدايات الخليقة وازمنتها السحيقة ,وبذلك كرس دارويبن نفسه نهائيا لعلم الطبيعيات وارتبط بصداقة عميقة بعالم الجيولوجيا الشهير شارل لييل بعدما قرا كتابه المهم “مبادئ الجيولوجيا”الصادر عام 1831 الذي استفاد منه كثيرا في اثبات نظريته عن التطور وبلورتها.
كتاب اصل الانواع
عاد داروين مريضا من تلك الرحلة العلمية,والتزم الصمت عن نتائج ابحاثه قرابة ال 22 عاما وانتقل للسكن في مقاطعة “كنت”الهادئة ,لكنه مع ذلك نشر في عام 1839 كتابه “رحلة عالم الطبيعيات”تحدث فيه عن ذكرياته ومشاهداته في تلك الرحلة ,ويقول البعض ان سبب ذلك الصمت هو جمع المزيد من الحقائق والقرائن والافكار ,بينما يرجع فريق اخر السبب الى رغبته في عدم المس بالمشاعر الايمانية لصديقه روبرت فيتزوري ,قبطان السفينة “بيجل”,الذي كان من المتدينين ,ويذهب فريق ثالث الى الاعتقاد بان السبب الحقيقي لصمت داروين هو المناخ المحافظ والجمود الديني اللذين كانا مسيطرين يومئذ ضد العلوم الطبيعية تحت تاثير مقولة التوراة عن الخلق .
وضع داروين الخطوط العريضة لنظرية التطور في عام 1848ولكنه لم ينشر كتابه الا بعد ان الح عليه صديقه (لييل)فنشره في ربيع عام 1858 ,وقد وضع فيه ماتوصل اليه من الفروض والملاحظات المؤيدة لنظرية التطور ,لكنه بقي على حذره ,الى ان وقع مالم يكن بالحسبان ,عندما تلقى في 18 يونيو عام 1858 بحثا مبتكرا من العالم الانجليزي الفرد راسل والاس (1823_1913)المقيم في امريكا (والذي جال ايضا برحلة حول العالم ),مصحوبا برجاء لداروين ان يقرا البحث ويعطي رايه الصريح في النظرية التي يتضمنها ,واذ هي نفس النظرية التي توصل اليها داروين عن حقيقة التطور ,امام هذا المازق استنجد داروين بصديقه “لييل”وكتب اليه رسالة قال فيها :”لم ار في حياتي تطابقا اكثر اثارة للدهشة من هذا التطابق في الافكار والنتائج مع بحث والاس ,ولو ان والاس اطلع على البحث الذي انتهيت اليه في عام 1842 لما استطاع تلخيصه بطريقة افضل مما عرضه في البحث …”
كاد داروين ان يتنازل ل”والاس”عن شرف اسبقيته في الوصول الى نظرية التطور قائلا لصديقه “لييل”:”افضل الف مرة ان احرق بحثي كله على ان يظن والاس وغيره انني قد تصرفت بحقارة”.
لكن “لييل”اصر على داروين ان ينشر افكاره فورا ,لان والاس سيتقبل هذا التصرف بروح عالية عندها يعرف ان داروين قد سبقه الى ذلك الكشف العلمي بعشرين عاما تقريبا.
وبالنهاية وافق داروين على ان تقدم نظرية التطور الى مجمع لينيوس على انه عمل مشترك بينه وبين والاس ,الا ان شهامة والاس دفعته الى اعتبار داروين سباقا الى الوصول الى نظرية التطور ,وبذلك اصبح داروين هو الاب الشرعي لتلك النظرية ,ثم اصدر كتابه “اصل الانواع”في 24 نوفمبر 1859 بالعنوان الذي اختاره الناشر واشتهر به ,فنفدت ال 250 نسخة المطبوعة منه فور صدورها.