ترافق العديد من تجارب الحياة الممتعة عواقب لا مفر منها، فتناول الكثير من الكحول أو الحلوى الشهية على سبيل المثال يسبب شعوراً غامراً بالبهجة واللذة العارمة ساعتها، لكن سرعان ما يعقبها آلامٌ في المعدة أو صداع في الرأس أو شعور بالاشمئزاز من الذات. لكن الأمر مختلف مع المحليات الصناعية، فهي مع مداعبتها لبراعم التذوق في ألسنتنا، إلا أنها لا تحتوي الكم الهائل من السعرات الحرارية المرافقة لتناول السكر “الحقيقي” كما في شاي محلى بالستيفيا، أليس كذلك؟!
للوهلة الأولى، تبدو المحليات الصناعية أروع من أن تكون حقيقة، ولنأخذ أشهر منتج محلى صناعياً، ألا وهو مشروبات الدايت الغازية. فعلى الرغم من شبهها الشديد بالمشروبات العادية، إلا أن الأخيرة تفوقها بـ 140سعرة و 40 غراماً من السكر للعلبة ذات سعة (330ml) مقارنة بعلبة دايت في الحجم ذاته، مسببة أذى شديداً للنشاط الأيضي. بينما تضيف المحليات الصناعية طعماً حلواً دون السعرات الحرارية والسكر، إلا أنها هوجمت بضراوة من الإعلام متهماً إياها بتسبيب مختلف أنواع المشاكل الصحية، كالسمنة والمتلازمة الأيضية، وحتى السرطان. وكما نعلم، لا توجد حمية بلا تبعات، فما هي تبعات تناول المحليات الصناعية، أهي الاستثناء للقاعدة؟ أم إنها تسبب السمنة والسقم سراً كما يشاع، تابعنا لتعرف الإجابة.
تبدأ قصة المحليات الصناعية في العام 1878 عندما إكتشف الباحث الألماني قسطنطين فالبيرغ (Constantin Fahlberg) بالصدفة طعماً حلواً في أصابعه بعد عمله في المختبر. عاود بعدها لكسر أولى قواعد العمل في المختبر، فقد قرر تذوق جميع القوارير والدوارق في مختبره في محاولة متطرفة وفعالة للوصول إلى مصدر النكهة. بعد هذا الخرق الصارخ لقواعد السلامة والنظافة في المختبر، توصل إلى مصدر المادة الكيمياء ذات النكهة الحلوة، تبع ذلك أول مادة محلية صناعية متوفرة تجارياً، ألا وهي السكرين (saccharin).
إن صناعة المحليات الصناعية قد توسعت بشكل هائل في أيامنا هذه، فالمحليات الخالية من السعرات الحرارية تدخل في صناعة جميع المنتجات الغذائية تقريباً، كما أن المنتجات المحلّى الخالية من السكر، بما فيها صلصة الشواء، العصائر المركزة، وحتى مسحوق السكر ذاته، متوفرة ومنتشرة بكثرة على رفوف المتاجر.
إن المحليات الصناعية وكما أشار فالبيرغ (Fahlberg) لها طعم شديد الشبه بالسكر، والسبب يعود إلى التشابه بينهما على المستوى الجزيئي (كيميائياً)، وأن أغلب أنواع المحليات الصناعية تقع تحت أحد هذه الأصناف الثلاث:-
1- المحليات الطبيعية غير المغذية: كالستيفيا وفاكهة الراهب (monk fruit).
2- المحليات الصناعية غير المغذية: كالسكرين، الأسبارتام، اسيسولفام البوتاسيوم والسكرالوز.
3- كحول السكر: إريثريتول، زيليتول وغيرها.
وعلى الرغم من التشابه على المستوى الجزيئي مع السكر، إلا إن طريقة هضمها داخل الجسم تختلف تماماً. فبينما تمر معظم المحليات الصناعية خالية السعرات في القناة الهضمية دون إضافة طاقة، فإن السعرات الحرارية في السكر “الحقيقي” تتحول إلى طاقة أو تخزن للإستهلاك لاحقاً بصيغة دهون في الجسم، أو كغلايكوجين في العضلات والكبد.
لقد كان السائد أن المحليات الصناعية ما هي إلا مواد مُنكّهة لها نفس حلاوة السكر لكن دون عواقبه، ثم ظهرت بعض الدراسات لتقول لنا ما هو عكس ذلك. كانت تلك المزاعم غالباً بأن المحليات الصناعية هي “مواد مسرطنة” أو “مواد تجعلك أكثر بدانة وتشجعك لأكل المزيد”. وإن أكثر التهم المقلقة الموجهة للمحليات الصناعية شملت تسببها بالتالي:-
- زيادة الوزن
- السكري
- إعاقة بكتيريا الأمعاء
- السرطان
إن الأعراض الجانبية المحتملة تبدو مروعة، وإن كانت هذه التهم صحيحة فعلاً، فلن يجرؤ أحد يهتم بصحته (فضلاً عن صحة عائلته) باستخدامها مطلقاً، ولكن قبل أن ترمي علبة الستيفيا (أو أي مادة محلية تستعملها) دعنا نراجع هذه التهم ونرى صمودها أمام التمحيص.
المحليات الصناعية والتسبب بزيادة الوزن
إن بحثت على Google عن “المحليات الصناعية والبدانة”، ستجد آلافاً من المواقع والمقالات بل وحتى الدراسات العلمية التي تدعي تسبب المحليات الصناعية للبدانة، وكما نعلم فإنّ الدكتور (Google) ليس مصدراً موثوقاً. هنالك سببان لانتشار هذه الخرافة بهذا الشكل الواسع، وهما إساءة فهم الدراسات العلمية والترويج الإعلامي، ويكون انتشار الخرافة كالتالي:-
- تظهر نتائج دراسة يقدمها أحد الباحثين وجود إرتباط ظاهريّ بين البدانة والمحليات الصناعية
- ثم يسيء أي صحفي تأويل نتائج هذا البحث، فيجزم بأن المحليات الصناعية تسبب البدانة
- وأخيراً؛ ولزيادة الطين بلّة، تقوم وسائل الإعلام، لا بإساءة تأويل النتائج فحسب، بل بتهويل النتائج بعناوين مثيرة مثل “الصلة بين المحليات الصناعية والبدانة ومرض السكري من النوع الثاني” أو “المحليات الصناعية التي تتناولها قد سبب لك مشاكل في الأمعاء”، وهذه عناوين حقيقية بالمناسبة، نشرت في صحف غربية، وعلى الأغلب لها نظير في الصحف العربية.
وكما سترى، فليس كل ما يذاع في نشرة أخبار المساء، مما يدير الرؤوس ويثير النفوس له أساس علمي صلب.
إن إجمالي البحوث المتعلقة بالمحليات الصناعية غير متفق في النتائج، فالكثير من الدراسات الوصفية (observational studies)، من ضمنها أول ما سيظهر لك من نتائج البحث على Google، تربط المحليات الصناعية بزيادة الوزن وتبعات صحية وخيمة. ورغم ما تحاول الاخبار تأويله من هذه الدراسات حول سلبيات المحليات الصناعية، فلا يوجد أي دراسة صريحة، حديثة، تجريبية، وصارمة المعايير تظهر إرتباطاً سببياً صريحاً بين المحليات الصناعية وزيادة الوزن، نعم توجد دراسات بعناوين تجذب لها أحداق القراء والنقرات في أجهزتهم، لكن لا تظهر أيّ منها ارتباطاً مباشراً، ولا حتى واحدة!
إن الاستنتاج من هذه الدراسات الوصفية بكون زيادة الوزن لها إرتباط باستهلاك المحليات الصناعية، شبيه باستنتاج أن تناول المثلجات يسبب الجرائم! إن زيادة إستهلاك المثلجات تكون في الصيف وكذلك يكون إرتفاع معدل الجريمة في الموسم ذاته، لا يعني وجود ارتباط بينهما مطلقاً.
بل أن غالبية الدراسات تشير إلى العكس، حيث تربط استهلاك المحليات الصناعية بالحفاظ على الوزن أو تقليله. حيث أن تناول المحليات الصناعية يقلل إجمالي إستهلاك السكر والسعرات الحرارية، مُسهّلاً بذلك الحفاظ على الوزن أو تقليله، كما تؤيد الدراسات المعتبرة ذلك. فعلى سبيل المثال أشار تحليل شموليّ (meta-analysis) للدراسات المنهجية التجريبية (RCT) التي تناولت إستهلاك الطاقة خلال اليوم الواحد – أشار التحليل إلى أن استهلاك المحليات الصناعية (وبالخصوص الأسبرتام) يقلل معدل تناول السعرات الحرارية بمقدار 10%.
دراسة تجريبية أخرى إنتهت إلى أن إستبدال المشروبات الغازية العادية بمشروبات الحمية الغازية (الدايت) مشابه لاستبدالها بالماء، أي أن تأثير مشروبات الحمية في زيادة الوزن مشابه لتأثير الماء مقارنة بالمشروبات الغازية العادية.
إضافة لذلك قارنت دراسة إستمرت لستة أشهر بين مجموعة من الأشخاص البدناء، تناولوا خلال فترة الدراسة ما يقارب اللتر أما من الماء أو الحليب أو مشروباً غازياً، أو مشروب دايت يومياً. لوحظ في نهاية الدراسة ان الأشخاص الذين تناولوا مشروبات الدايت فقدوا ما نسبته 17-21% من وزنهم و 24-31% من شحوم البطن وانخفض عندهم مستوى الكولسترول بنسبة 32% وقل ضغط دمهم بنسبة 10-15% في المتوسط، ذلك بالمقارنة مع من تناولوا المشروبات الغازية العادية.
وكما يلاحظ، فإن ما تنتهي إليه بعض الدراسات الوصفية من إستنتاج رابطة بين إستهلاك المحليات الصناعية زيادة الوزن (الأمر الذي تروج إليه وسائل الإعلام بإصرار)، ما هو إلا سوء فهم لملاحظة الترابط (correlation) وتفسيره كسببية (causation) متجاهلين إحتمالية السببية العكسية، أي أن يكون الثاني سبباً للأول، بصيغة أخرى، قد يكون استهلاك مشروبات الحمية سببه وجود الزيادة في الوزن وليس العكس.
الآن، وبعد بياننا لفشل الترابط المدعى بين تناول المحليات الصناعية وزيادة الوزن أو نقصانه، سنرد بالتفصيل على الأقوال الزاعمة بتسبب المحليات الصناعية بزيادة الوزن، وسنقسمها لقولين للتبسيط:
القول الأول: المحليات الصناعية تسبب زيادة الوزن بشكل مباشر (على المستوى الفسيولوجي)
بوضع قوانين الثرموداينمك بعين الإعتبار، فإن الطعام الخالي من السعرات الحرارية تماماً يستحيل منه زيادة الوزن، فلو افترضنا أن شخصاً أمسك عن تناول أي شيء عدا المحليات الصناعية والماء فإن شخصاً كهذا سيهلك من الجوع، وعليه؛ فإن المحليات الصناعية لا تملك القدرة على زيادة الوزن بهذه الطريقة (إلا في حال افترضنا خلق مادة بالشعوذة والسحر الأسود يمكنها تجاوز قوانين الفيزياء!).
القول الآخر: تسبب المحليات الصناعية زيادة الوزن بطرق غير مباشرة، كزيادة الشهية أو تقليل الحساسية للحلاوة مزيدة بذلك الرغبة في الطعام.
إن هذه الحجة أكثر إثارة للاهتمام وتتطلب تعمقاً أكثر في البحث، فالمحليات الصناعية لكونها ذات طعم حلو دون سعرات حرارية، فالمفترض أنها “تخدع” الدماغ للرغبة في السكر، والأطعمة عالية السعرات الحرارية لتعويض نقص الطاقة الذي تسببه هذه المحليات.
وبالفعل قد برهنت عدة دراسات (بعضها على البشر وأخريات على الفئران) على أن استهلاك المحليات الصناعية من شأنه زيادة الإحساس بالجوع. فعلى سبيل المثال؛ أُستنتج في إحدى الدراسات على أن تناول مشروب محلى بالسكر أو بالمحليات الصناعية بعد ممارسة الرياضة سوف يزيد استهلاك السعرات الحرارية في الوجبة التالية، بالمقارنة مع شرب الماء بعد الرياضة.
وهذا الاستنتاج غير مستغرب، فلو كنت مقبلاً على وجبة دسمة وأردت قبلها الشعور بالجوع سريعاً، فما عليك إلا تناول قطعة حلوى أو مشروب غازي. حيث أن اللذة الكبيرة الحاصلة من تناول هذه الأطعمة ستزيد الشهية، وقد يكون هذا هو سبب الزيادة الملحوظة في إستهلاك السعرات الحرارية بعد تناول المحليات الصناعية.
بالمحصلة، تدعم دراسات عديدة القول بكون المحليات الصناعية إما تنقص أو لا تأثر بشكل ملحوظ على زيادة إستهلاك السعرات والشعور بالجوع، بل إن إحدى الدراسات أشارت إلى أن تناول مشروب محلى بالستيفيا قبل وجبة طعام من شأنه تقليل الشهية والسعرات المستهلكة، دون التأثير على مستوى السكر في الدم أو المؤشرات الأيضية.
واحد من أفضل التفاسير المتعلقة بتأثير المحليات الصناعية إستهلاك الطعام هو الإقتباس التالي للباحث شينغ يانغ:
“وختاماً، فالمحليات الصناعية، وتحديداً لأنها حلوة، فهي تزيد الشهية والإقبال على تناول السكر. فالتعرض المتكرر لشيء يزيد الاشتهاء إليه. والإرتباط وثيق بين ما يتناوله الشخص من نكهة وشدة تفضيله لها. فالتقليل الشامل لتناول الملح أو الدهون في الحمية على مدى عدة أسابيع ودون أي بديل شهي، أدى تقليل الشهية لهاتين المادتين في إحد البحوث. وعلى ضوء هذه النتائج، يمكن توقع حصول نفس الشيء مع السكر، وتقليل تناول السكر قد يكون الحل لمشكلة البدانة حول العالم”.
لأن تناول الكثير من طعام ذي نكهة معينة سيزيد الاشتهاء لتلك النكهة، كذلك فإن المزيد من الأطعمة المحلاة بالمحليات الصناعية قد يزيد الرغبة في الأطعمة الحلوة، مؤدياً لزيادة استهلاك السعرات الحرارية، والخلاصة، فتأثير المحليات الصناعية على الشهية وتفضيلات الطعام معقد. ولا يسري على الجميع بنفس الطريقة. وعليه فلا يمكن القول بأن تناول المحليات الصناعية له تأثير مباشر على زيادة الوزن أو الشهية عند الأصحاء، فالتأثير يبدو نسبياً ويختلف من شخص لآخر.
المقال الأصلي:
John Solokas, Artificial Sweeteners – A Free Lunch, or an Obesogenic Carcinogen? What 80+ Studies Say (part 1 of 2), sciencebasedmedicine.org, May 21, 2021