في البدء نعرف اليرقان الولادي وهو اصفرار يصيب بشرة وعين الطفل, ناتج عن زيادة مستوى البيليروبين في الدم عن الحد الطبيعي, والبيليروبين هي مادة تُنتج عند تحلل خلايا الدم الحمراء وتكون سامة عند زيادة تركيزها في الدم, ولتجنب ذلك يقوم الكبد بالتخلص منها وطرحها في الدم, أو في الأمعاء لإخراجها مع البول والبراز, اما في الجنين يقوم كبد الأم الحامل بكل هذه الوظائف.
إن حديثي الولادة يميلون لأن يكون لديهم مستوى أعلى من البيليروين بسبب زيادة في كريات الدم الحمراء التي تحمل الأوكسجين وكون الكبد لا يستطيع استقلاب هذه الزيادة في كمية البيليروين.
ونتيجة لارتفاع نسبة البيليروين فوق الحد الطبيعي، فإن التصبغ اليرقاني يبدأ في الرأس ثم الرقبة ثم الصدر حتى يصل إلى القدمين وأطراف الأصابع، وهو ما يسمى اليرقان الفيزيولوجي وعادة فإن هذا الارتفاع لا يصل إلى الحد الذي يحدث في أمراض الكبد أو اضطرابات الدم الولادية.
وعادة لا يسبب أي ضرر في المواليد الذين يولدون في الوقت الطبيعي، وفي حالات نادرة جداً بأن اليرقان الولادي قد يسبب أذى في الجهاز العصبي للمولود وهذا لا يحدث الا في حالات ارتفاع نسبة البيليروين الى مستويات عالية جداً.
حيث تتحول حالة اليرقان الولادي الى اليرقان النووي هو من أخطر مضاعفات وصول مادة البيليروبين إلى مخ الطفل وقد تم اكتشافه عام 1875م, حيث يحدث تصبغ لنسيج المخ باللون الأصفر.
ويعد اليرقان الولادي احد اكثر الحالات التي اسئ فهمها ضمن مفاهيم الطب الحالية كما تعد احدى اكثر الحالات تعقيدا وقد درست بعناية شديدة ومع ذلك ما زالت من الحالات المحيرة وفي حالات كهذه يمكن القول انه كلما عرفنا اكثر كلما فهمنا بشكل اقل فاليرقان الولادي موضوع تعرضت له الاف الدراسات في الخمسين سنة الماضية ومع ذلك بقي موضع حيرة وغموض.
تتلخص رؤية الكتاب حيال اليرقان الولادي بالنظر الى زيادة مستوى البيليروبين على انها تكيف مفيد بدل كونها مادة سامة وكذلك الى اليرقان عموما على انه حالة مفيدة بدل النظر اليه على انه مرض. وينطلق هذا التفسير من البيانات الموجودة حول البيليروبين والتي نرى فيها حقيقة كون البيليروبين مادة مضادة للاكسدة..
ولعل المفتاح الاول للربط هو العلاقة بين زيادة البيليروبين وبين الموت نتيجة اليرقان النووي (kernicterus) او الضرر العصبي (neurological damage) إذ لاحظ الباحثون ان ارتفاع مستوى البيليروبين الى 20 ملغم/لتر يزيد من حدة المضاعفات العصبية (neurological sequellae) التي تؤدي الى تعوق او توقف للسمع. وبتحقق العلاقة بين اليرقان النووي (kernicterus) والبيليروبين نرى ان البيليروبين لم يعد مجرد فضلات ايضية بل هو مادة لها تأثير خطير في الجسم. فالمادة ذات التأثير الكبير بهذا الشكل لا يمكن ان تكون مجرد ناتج عرضي او فضلات.
إن نظرة الطب الحالية تعتبر البيليروبين ناتجا عرضيا وليس مادة اساسية لها فوائد وخلفية تطورية في الكائنات الحية بخلاف ما ينظر اليه الطب الدارويني.
الاسس التطورية لليرقان الولادي
تعتمد ادلة التطور على نقطتين هامتين:
- ان البيليروبين موجود لدى جميع الاطفال حديثي الولادة بمستويات اكبر مما لدى البالغين
- وجود ادلة تطورية تدل على ان الانتقاء الطبيعي سبب في افراز وتمثيل وايض البيليروبين.
وستناول النقطتين بالتفصيل ادناه.
1. شيوع حالة زيادة البيليروبين الولادية (Neonatal Hyperbilirubinemia)
ان جميع الاطفال حديثي الولادة يمتلكون معدلا اعلى من البيليروبين عن البالغين (يبلغ معدل الزيادة ضعف ما موجود لدى البالغين), كما ان (50-65%) من الاطفال يعانون من اليرقان الولادي حتى اسبوعين – ثلاثة اسابيع بعد الولادة ليتحول معدل البيليروبين في الجسم الى نسبته الطبيعية كما عند البالغين (2 ملغم/لتر).
والسبب الاساسي لوجود البيليروبين هو تحول جزء الهيم (heme) المحتوي على الحديد والموجود في كريات الدم الحمراء الى بيليروبين (الهيم مكون اساسي لكريات الدم الحمراء ويتكون من حلقات من المركب العضوي البروفين ولا تحتوي جميع البروفينات على حديد فالكلام هنا يشمل الهيم الذي يحتوي على حديد) ويؤدي تعرض الطفل الى الضوء الى تقليل البيليروبين كما يؤدي قطع الرضاعة الطبيعية الوظيفة نفسها وهما يستخدمان لتقليله في المستشفيات كنوع من العلاج.
2. الادلة التطورية على وجود البيليروبين
اما الاسباب التي تدعو للنظر الى اليرقان من منظور تطوري فهي:
- ان تحلل كريات الدم الحمراء الى بيليروبين عملية ايضية تكلف الجسم قدرا من الطاقة.
حيث ان اول ناتج لتحلل الهيم هو البيليفردين وهو موجود لدى انواع نباتية عدة ولدى جميع الحيوانات تقريبا. وهو مادة ذائبة في الماء. اما البيليروبين فهو موجود بأكثر من شكل لدى الثديات. إذ تقوم عملية الايض المعتمدة على الطاقة بتحويل البيليفردين الى بيليروبين ويدعو هذا التحويل المكلف من ناحية الطاقة الى النظر في العملية بمجملها كعملية مفيدة ناتجة من تكيف. وليست حالة مرضية كما يعتقد. - ان نمط اليرقان الولادي موجود لدى معظم الرئيسيات من البشر وغيرهم (الرئيسيات هي الانسان وبعض اصناف القرود مثل الشمبانزي) وهذا يشير لأهمية وجود البيليروبين لكونه موجودا لدى معظم الرئيسيات وكما ذكرنا في النقطة السابقة وجوده بأشكال اخرى لدى انواع اخرى.
- ان تحلل البيليروبين امر وراثي. حيث يتأثر اليرقان الولادي بالبيئة والعوامل الجينية ويستدل على ذلك بتغير نسبته بين الاجناس البشرية المختلفة فالظاهرة تحدث لدى الاسيويين والهنود الحمر بشكل اكثر من الافارقة والهنود. كما لوحظ ان الاطفال الذين يصاب اخوتهم الاكبر سنا باليرقان الولادي يكونون اكثر عرضة للاصابة من الاطفال الذين لم يصب اخوتهم الكبار باليرقان الولادي. ويزيد العامل الوراثي احتمالية ارتباط انتاج البيليروبين وتمثيله بالانتقاء الطبيعي.
بناء على ما تقدم نعود الى الاحتمالين اللذان يمكن مناقشتهما:
- ان ظهور البيليروبين هو جزء من العمليات التي ترافق تغير الحياة من داخل الرحم الى خارجه كعملية عرضية مرافقة للكثير من العمليات التي تحدث بعد خروج الجنين وتعطي هذه النظرية دورا غير فاعل للبيليروبين وهي النظرية الطبية الشائعة.
- ان ظهور البيليروبين ليس ناتج عرضي غير فعال بل له دور تكيفي رئيسي.
ونرجح وفقا للاسباب المذكورة الاحتمال الثاني بالنظر الى الاسباب الوراثية والى كون البيليروبين مادة فعالة مضادة للاكسدة ولها دور خطير في الجسم سلبا او ايجابا. وتستدعي هذه النظرة الجديدة الوقوف على الموضوع بالمزيد من الدراسات وايقاف الاجراءات العلاجية التي تستخدم لايقاف البيليروبين عندما يكون بمعدله الطبيعي والذي غالبا ما يكون ضعف المعدل الموجود لدى البالغين. وقد اقترح الكتاب مجموعة من النقاط في استنتاجه لم تخلص الى نتيجة حاسمة بل دعت الى ترجيح الاحتمالية الثانية في النظر الى اليرقان الولادي وزيادة البيليروبين والى القيام بمجموعة من الابحاث في مجالات عدة.
هذا المقال هو مجموعة من سلسلة مقالات تشكل قراءة في كتاب الطب التطوري الذي جمعته واندا تريفاثان والله ولي التوفيق
الشكر الجزيل لكاتب المقال وفقه الله .ونتمنى على اطبائنا ان يطوروا معلوماتهم الطبية باستمرار وان ينشروا الوعي الطبي للجمهور لا ان يتعالوا عليهم ويحقروهم ويفرغوا جيوبهم من غير فائدة….