ينبغي على البشر معرفة أنّ السعادة والسرور لا تأتي من شيء سوى الدماغ، ومنه يأتي الضحك، السلوك، الحزن والسخط، واليأس والرثاء. ومن خلاله، بطريقة خاصة، نكتسب الحكمة والمعرفة، ونرى ونسمع، ونعرف ما هو خطأ وما هو صحيح، وما هو جيد وما هو سيئ، وما هو لذيذ وما هو بغيض. وبنفس العضو، نصبح مجانين ومخبولين، وتهاجمنا المخاوف والذعر، بالإضافة إلى الأشياء الأخرى التي نقاسيها من الدماغ عند اعتلاله. وبهذه الطرق، فإنني مناصر للرأي القائل، بأن المخ يشغل أعظم قوى الإنسان. ❝
أبقراط، في المرض المقدس (القرن الرابع قبل الميلاد)
❞تخيل أنه بمقدرة كتلة تشبه الهلام (الجيلي)، حجمها 3 أرطال وبإمكانك حملها بين راحتي يديك، أنْ تتفكر في اتساع الفضاء بين النجوم، ومعنى اللانهاية، وأن تتفكر في ذاتها التي تتفكر في معنى اللانهاية. ❝
ف. إس. راماشاندران
يدفعنا الفضول أحياناً إلى طرح أسئلة مثل: كيف نرى، وكيف نسمع، لماذا تجعلنا بعض الأشياء نشعر بشعور جيد وأخرى تؤلمنا، كيف نتحرك، وكيف نفكر، بل ونتعلم ونتذكر، وكيف ننسى، وما هي طبيعة الغضب والجنون. يناقش علم الأعصاب هذه الأسئلة، وبرغم أنه لم يقدم إجابات محددة وواضحة لكثير من هذه الأسئلة، فإننا سوف نحاول في هذه السلسلة أن نكشف بعض الغموض عن هذه الأحجيات.
يعتبر علم الأعصاب حديث نسبياً، حيث تأسست جمعية علم الأعصاب عام 1970 (اتحاد لعلماء الأعصاب)، وبرغم فذلك فإن دراسة الدماغ قديمة قدم العلم نفسه. تاريخياً، أتى العلماء الذين كرسوا أنفسهم لفهم الجهاز العصبي من فروع علمية مختلفة: الطب، علم الأحياء، علم النفس، الفيزياء، الرياضيات، والكيمياء. ولقد حدثت ثورة علم الأعصاب، عندما أدرك العلماء أن أفضل أمل لفهم آليات الدماغ قد تأتي باتباع طريقة تجمع بين تخصصات مختلفة (بمعنى مزيج من الطرق التقليدية، لإنتاج طريقة ورؤية جديدة).
لفهم كيف يعمل الدماغ، فإننا سنحتاج لفهم ومعرفة العديد من الأشياء، بداية من تركيب جزئ الماء، مروراً بالخواص الكهربية والكيميائية للمخ، وصولاً لسبب إفراز كلاب بافلوف للعاب عند سماعها صوت الجرس. وهو ما سنحاول أن نغطيه في هذه السلسلة.
نشأة علم الأعصاب
يعلم معظمنا، إن لم يكن جميعنا، أن الجهاز العصبي (الذي يتكون من الدماغ، الحبل الشوكي، والأعصاب) مهم للغاية للحياة، فبه نشعر، نتحرك، ونفكر. ولكن كيف نشأت هذه الرؤية بشأن أهمية الجهاز العصبي؟
طبقاً للسجل الأحفوري، فإنّ أسلافنا في حقبة ما قبل التاريخ قد أدركوا أهمية الدماغ للحياة، حيث تحتوي جماجم أشباه البشر، التي يبلغ عمرها مليون سنة أو أكثر، على علامات لأضرار مميتة بالجمجمة، تسبب بها على الأغلب أشباه البشر الآخرين. وقبل حوالي 7000 سنة، قام البشر بعمل حفر وثقوب في جماجم بعضهم، لا بغرض القتل بل الشفاء. حيث تحتوي هذه الجماجم على علامات الشفاء بعد العملية، مما يشير إلى أنّ هذه العمليات قد تم إجراؤها على أشخاص أحياء، وليس مجرد طقس روحي أو ديني تم بعد موت الشخص. وتشير الأدلة إلى أن بعض الأشخاص قد عاشوا بعد أن خضعوا لجراحات متعددة. لا نمتلك دليل لسبب قيام الجراحين الأوائل بمثل هذه العمليات، ولكن يعتقد العلماء أن السبب من ورائها هو علاج الصداع أو الأمراض العقلية، عن طريق منح الأرواح الشيطانية مخرجاً للهروب.
وتشير كتابات الأطباء بمصر القديمة، والتي تعود لحوالي 5000 سنة، بأنهم كانوا على معرفة تامة بكثير من الأعراض الناتجة عن تلف الدماغ. وبرغم ذلك، فقد اعتقدوا أن القلب، لا الدماغ، هو مكان الروح ومستودع الذكريات. ولذلك، فبينما كان يتم حفظ الجسد جيداً للحياة بعد الموت، فإنه تم التخلص من المخ. إن رؤية القلب على أنه محل الروح والوعي لم يتم انتقادها جدياً حتى مجيء أبقراط.
رؤية اليونان القديمة للمخ
أعتقد العديد من الإغريق الذين عاشوا بالقرن الرابع قبل الميلاد، وعلى رأسهم أبقراط (460- 379 ق. م.)، بأن الدماغ هو عضو الحس، بالإضافة فقد أعتقد أبقراط بأنه أيضاً مكان الذكاء. ولكن لم يتم الإجماع على هذه الرؤية للمخ، فقد مال أرسطو (384- 322 ق. م.) إلى الاعتقاد بأن القلب محل الفكر، بينما لم تكن وظيفة المخ في نظره سوى قيامه بتبريد الدم، الذي ترتفع حرارته بشدة بواسطة القلب.
رؤية الإمبراطورية الرومانية للمخ
يعتبر جالينوس (200 – 130 ب. م.) أهم كاتب وأحد أكثر الشخصيات تأثيراً في الطب الروماني، والذي أعتنق رؤية أبقراط لوظيفة الدماغ. برغم أن جالينوس، شهد العديد من الإصابات للدماغ والحبل الشوكي بصفته طبيباً للمصارعين، إلا أنّ أراءه قد تأثرت كثيراً بتشريحاته العديدة للحيوانات، أحدها كان لدماغ الخروف. بالنظر إلى للرسمة التالية لدماغ الخروف، فإننا سوف نلاحظ جزأين أساسين: المخ (في الأمام) والمخيخ (في الخلف). حاول جالينوس استنتاج وظيفتهما من تركيبهما، وذلك كاستنتاج وظيفة اليدين والقدمين من تركيبهما.
بوغز مخ مشرح حديثاً بإصبعه، لاحظ جالينوس أن المخيخ أجمد من المخ والذي بدوره يكون رخواً وطرياً. ومن هذه الملاحظة، اقترح جالينوس أن وظيفة المخ هى استقبال الأحاسيس، بينما وظيفة المخيخ تكمن في التحكم بالعضلات. ولكن لماذا لا تكون وظيفة الدماغ بأكمله استقبال ومعالجة الأحاسيس، قام جالينوس بهذا التقسيم بين المخ والمخيخ، من إدراكه أنه لتكوين ذكريات يلزم أولاً أن تنطبع الأحاسيس في المخ، ورأى جالينوس أن مثل هذه العملية لابد وأن تحدث في المخ. برغم أن استدلالات جالينوس عن وظيفة المخ والمخيخ قد تكون غير محتملة، إلا أن استنتاجاته كانت قريبة من الصواب، فإننا نعلم الآن أن وظيفة المخ هي معالجة الأحاسيس، بالإضافة إلى الإدراك، وهو مستودع الذكريات. بينما المخيخ يعتبر مركزاً للتحكم بالحركة.
ولكن ما هي الآلية التي يستقبل بها المخ الأحاسيس ويقوم بالحركة في نظر جالينوس؟ قام جالينوس بقطع المخ، ووجد أنه مجوف. في هذه الأماكن المجوفة، وتسمى البطينات، يوجد سائل. ساعد اكتشاف جالينوس للبطينات والسائل الذي بداخلها على تدعيم اعتقاده بنظرية شائعة حينها، بأن وظيفة الجسم تتم طبقاً لتوازن بين أربعة سوائل حيوية. لذا، فبمجرد دخول الأحاسيس إلى المخ، تحدث الحركة بتحرك هذه السوائل من وإلى بطينات المخ عبر الخلايا العصبية (التي أُعتقد أنها مجرد أنابيب مجوفة مثل الأوعية الدموية).
رؤية عصر النهضة للمخ
سادت رؤية جالينوس لحوالي 1500 عام. وفي خلال عصر النهضة، قام عالم التشريح العظيم أندرياس فيساليس (1514-1564) بإضافة العديد من التفاصيل لتركيب الدماغ. ولم يتم تقديم أي بديل أو تحدي النظرية البطينية لوظيفة الدماغ خلال هذا الوقت. وقد توطت دعائم هذه النظرية عندما قام مخترعون فرنسيون في بدايات القرن السابع عشر، باختراع أجهزة هيدروليكية التحكم، والتي دعمت مفهوم أن الدماغ مشابه للآلة في وظيفته: حيث أن إجبار السائل على الخروج من البطينات عبر الخلايا العصبية قد يتسبب بحركة الأطراف.
وقد كان الفيلسوف والرياضي الفرنسي رينيه ديكارت (1596- 1650) أحد الداعمين لهذه النظرية. وبرغم أن ديكارت أعتقد أن هذه النظرية يمكنها تفسير دماغ وسلوك الحيوانات، إلا أنها لا تستطيع تفسير كامل سلوك الإنسان. حيث استدل بأن البشر، على عكس الحيوانات، يمتلكون عقل وروح إلهية. ولذلك، فقد اقترح أن الآليات الدماغية تحكم فقط السلوك البشري المشابه للحيوان، بينما القدرات البشرية الفريدة فتتواجد خارج الدماغ في “العقل”. حيث أعتقد ديكارت أن العقل عبارة عن كيان روحي يستقبل الأحاسيس ويتحكم بالحركة، عن طريق التواصل مع الدماغ بواسطة الغدة النخامية. وبرغم أن العديد من الناس حتى اليوم يعتقدون بالتشعب الديكارتي بين الروح والجسد، فإن الأبحاث العصبية قد توصلت لاستنتاج مختلف وهو: العقل له أساس مادي طبيعي، ألا وهو الدماغ.
ولحسن الحظ، قام علماء آخرين بالقرن السابع والثامن عشر بكسر التركيز التقليدي على بطينات المخ، وبدأوا بفحص مواد المخ عن كثب. ولاحظوا نوعان من الأنسجة المخية: المادة البيضاء، والمادة الرمادية. وقد خمنوا بنجاح وظيفة المادة البيضاء باحتوائها على الألياف التي تحضر المعلومات من وإلى المادة الرمادية.
بنهاية القرن الثامن عشر، تم تشريح ووصف الجهاز عصبي كاملاً وبالتفصيل، وأدرك العلماء أن الجهاز العصبي يمتلك جزءاً مركزيا يتكون من المخ والحبل الشوكي، وجزءاً محيطياً (أو طرفياً) يتكون من شبكات الأعصاب التي تتواجد بجميع أنحاء الجسم.
إحدى الملاحظات الهامة التي حدثت بالتشريح العصبي بالقرن الثامن عشر، هي ملاحظة تلافيف الدماغ (التلال والوديان مجازاً، التلال هي النتوءات البارزة، بينما الوديان هي الانخفاضات بين النتوءات)، والتي يمكن التعرف عليها في مخ كل شخص. بهذه الملاحظة، تم تخمين مركزية (توطن) وظائف المخ المختلفة على تلافيف مختلفة. وهذا التخمين مهد الطريق لعصر توطن الوظائف المخية بالقرن التاسع عشر، وهو ما سنتعرف عليه بالمقال القادم.
المصادر:
المراجع:
Amthor, F. (2012). Neuroscience for Dummies. Mississauga: Wiley.
Bear, M. F., Connors, B. W., & Paradiso, M. A. (2016). Neuroscience: exploring the brain. Philadelphia: Wolters Kluwer.
Mason, P. (2011). Medical neurobiology. Oxford: Oxford University Press.