تؤكد كثير من الأبحاث وجود علاقة بين الحالة المزاجية للشخص وتجاربه في الطفولة. لكن هل يعني ذلك أن تجارب الطفولة لها علاقة سببية مع سعادتنا في المستقبل؟ وكيف يتعامل العلاج النفسي الكلامي مع الأمر؟

نشر المقال في كتاب العلاج النفسي كيف نواجه المعاناة النفسية عبر العلم
في بحث هام حول العلاقة بين الحالة المزاجية وتجارب الطفولة، وجد باحثون في بحث نشروه عام [1]2015 أن هناك عدم اتساق في سرد تجارب الطفولة من قبل عينة التجربة البالغة أكثر من 7000 شخص. دامت التجربة ما يزيد على 12 سنة ممتدة من 1994 وحتى 2007 حيث أبلغ الأشخاص عن تجاربهم القاسية في الطفولة مرتين. لوحظ أن هناك البعض ممن قاموا بتذكر المزيد من تجارب الطفولة القاسية حين طلب منهم الحديث عنها في 2006-2007 فيما نسي آخرون ما ذكروه في فترة 1994-1995 وذلك عبر المرحلتين التي جرت فيهما التجربة. هؤلاء الذين عانوا من اكتئاب أو من قلق مزمن كانوا أكثر عرضة لسرد وتذكر المزيد، أما أولئك الذين كانوا يتمتعون بصحة نفسية أكثر فقد كانوا يميلون أكثر لنسيان تلك التجارب الصعبة. لكن ذلك البحث يعطي صورة ضيقة فقط عن محن الطفولة وإن كانت تعطي أملاً بنسيان ما حدث فيما لو سلكنا طريقاً نجد فيه السعادة والاسترخاء أكثر من الماضي.
هؤلاء الذين عانوا من اكتئاب أو من قلق مزمن كانوا أكثر عرضة لسرد وتذكر المزيد، أما أولئك الذين كانوا يتمتعون بصحة نفسية أكثر فقد كانوا يميلون أكثر لنسيان تلك التجارب الصعبة
في بحث آخر شهير في علم النفس[2] وجدت ماري بولير وميتش بلير (Mary Boullier and Mitch Blair) صلة بين واقع الصحة والصحة العقلية وبين تجارب الطفولة السلبية. قد تتراوح المصائب بين الاعتداء العاطفي، الجسدي أو حتى الجنسي. في الولايات المتحدة وصلت نسبة من تعرضوا لمحن كهذه إلى 64% من السكان، وكان 12% منهم قد تعرضوا إلى أكثر من 4 حوادث مختلفة من هذا النوع. في المملكة المتحدة كانت النسبة 48% و9% لمن تعرضوا لما يزيد عن 4 حوادث. وليس عدد الحوادث لوحده قد يساهم في الضرر المستقبلي بل تعقيد الوضع بشكل عام.
يميل البشر وفق بولير وبلير إلى التكيف مع ظروف البيئة الخارجية، وينتج من تلك الطبيعة والقدرة على التكيف آثار سلبية كثيرة فسلجياً ونفسياً. تخيل أن يصبح الطفل تحت نمط القتال والهرب لفترات طويلة من طفولته. ماذا يعني ذلك من حيث الهرمونات التي تفرز تحت ظروف التوتر؟ كيف سيحدث التطور الإدراكي؟
ترتفع نسبة الإصابة بالأمراض المزمنة إلى الضعف حين التعرض لتجربة صادمة في الطفولة بحسب دراسة أجريت في ويلز أشارت إليها بولير وبلير. أما أولئك الذين عانوا من 4 حوادث صادمة مختلفة في طفولتهم فلديهم نسبة تزيد بأربعة أضعاف للإصابة بالسكري من النوع الثاني عن الآخرين وثلاثة أضعاف لتطوير مرض في الجهاز الدوري. أما أولئك الذين مروا بـ 6 تجارب في الولايات المتحدة فهم معرضون للوفاة بـ 20 سنة أبكر من غيرهم. ثلاثة أضعاف أكثر احتمالية لعدم اختبار شعور الاسترخاء وستة أضعاف أكثر احتمالية لعدم الشعور بالتفاؤل قط. فضلاً عن تضاعف نسب التعرض للإدمان على الكوكايين والهيرويين بعشرات المرات أكثر من الشخص غير المتعرض للمحن القاسية في الطفولة.
ربما يأخذنا هذا البحث في المقام الأول إلى التفكير في كيفية الوقاية ومنع حدوث تجارب الطفولة السلبية. كما قد يفكر القارئ العربي فيما هو عليه الحال في البلاد العربية لو كان الحال كذلك في الولايات المتحدة وبريطانيا. ضرب الأطفال ما زال يعتبر أمراً إيجابياً في نظر الكثيرين كما أن واقع الحروب والفقر أسوء بكثير فضلاً عن أحوال المدارس وكونها ساحات للتنمر أو لشكل جديد من أشكال العنف من قبل المعلمات والمعلمين تجاه الطلبة.
وجدت ياسمين يسري محمد في دراسة أجرتها على الأمهات في الإسكندرية، مصر[3] أن 66% منهن تعرضن لتجارب الطفولة السلبية و18% منهن تعرضن لثلاثة حوادث فما فوق. بالمقابل فإن هؤلاء النساء كن يسلطن أصنافاً من العدائية النفسية والاعتداءات الجسدية الصغرى والإهمال تجاه أطفالهن. وجدت ياسمين اقتراناً احصائياً بين عدد التجارب السلبية التي تلقتها الأمهات في الطفولة مع الأصناف الخمسة للاعتداء على الأطفال. وجدت سانيا عمر[4] وزملاءها اقتراناً احصائياً بين استخدام المخدرات وبين التعرض لتجارب الطفولة السلبية لدى الشباب المصري. هل من حاجة لنذكر أطفال غزة؟ هل من حاجة لنذكر أطفال سوريا في السنوات العشر الماضية؟ أم أطفال السودان في السنتين الأخيرتين؟ ربما نحتاج لكتب عديدة لسرد تلك المآسي وللتفكير في انعكاساتها التي قد تكون نادرة من حيث حجم المصاب وآثاره المستقبلية على الصحة والصحة العقلية وبالأخص غزة التي لا يكاد يناظرها أي وضع آخر في العالم. لكن هل من حلول؟
لحسن الحظ، فإن العلاج النفسي يبدو خياراً ناجحاً للتعامل مع الصدمات النفسية وتجارب الطفولة السلبية وقد يكون الوحيد في كثير من الأحيان. نشر ثيو لورينس وزملاءه تحليلاً بعدياً[5] غطى 18 قاعدة بيانات من مصادر مختلفة بين الأعوام 2007 و 2018 حول مختلف الحلول التي أجريت على تجارب الطفولة السلبية بين سن الثالثة وسن الثمانية عشر سنة. كان أقوى دليل على فاعلية اجراء معين ضد تجارب الطفولة السلبية هو العلاج السلوكي المعرفي، أما بقية العلاجات، اجراء تدريب للوالدين، وتقديم الدعم بطرق أخرى فكلها لم تكن حاسمة رغم وجود نتائج إيجابية.
أجرى باحثون تجربة على نمط من العلاج النفسي مستمد من مبادئ كارل روجرز في العلاج المتمركز حول العميل ولكن هذا العلاج مخصص للأطفال ويتضمن أنماطاً من اللعب. [6] وجد الباحثون نتائج إيجابية لدى الأطفال الذين اشتركوا في التجربة ممن تعرضوا لتجارب سلبية بالمقارنة مع من تم تقييم وضعهم قبل وبعد التجربة دون إشراكهم، مجموعة التحكم.
لا يوجد الكثير من البحث الداعم لفوائد العلاج النفسي التحليلي أو إصداره الحديث الديناميكيات النفسية على تأثيرات الطفولة السلبية.
بالنظر إلى تاريخ هذه الممارسة فإن الثقافات القديمة لم تركز بالضرورة على تجنيب الأطفال جميع أنواع الأذى الذي قد يصاحبهم لمراحل لاحقة في الحياة فهناك نصوص عديدة من التراث باللغة العربية مثلاً توافق على ضرب الأطفال. لكن في نفس الوقت فإن رعاية الطفل والتراث العالمي من مختلف الثقافات حول ذلك ومن مختلف الأزمنة يعبر عن مدى بساطة هذا السلوك وفطريته وشيوعه مما قد يجعل عصرنا هذا استثناءاً في مدى ما يراه الطفل من قبائح كما ذكرنا في حالات الحروب مثلاً كغزة والسودان وسوريا.
معالجة الصدمات النفسية بالتعرض
إحدى التقنيات المستخدمة في العلاج النفسي السلوكي هي التعرض للصدمة ذاتها دون وجود عامل الخطر الأصلي منها. يتم تعريض الشخص الذي يعاني من الصدمة، القلق، الوسواس القهري، اضطراب ما بعد الصدمة، أو حالات الرهاب إلى ذات المؤثر الذي تسبب له بالرهاب أو الصدمة. يتم التعرض بأشكال مختلفة منها مواجهة الشيء في الواقع إن كان ذلك ممكناً. يمكن أيضاً استخدام الواقع الافتراضي أو مجرد تخيل ما حدث أو إعادة سرده أو كتابته. يعد العلاج بالتعرض وفق بعض الآراء الوسيلة الوحيدة المثبتة لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة. [7]
أشار محمد مرعي وزملاءه في بحث عن الصحة النفسية في فلسطين، الضفة الغربية وغزة، أن اضطراب ما بعد الصدمة هو أحد أكثر اعتلالات الصحة العقلية شيوعاً.[8] اقترح مرعي أن العلاج بالتعرض السردي، وهو أحد الاشكال الناجحة والشائعة من العلاج بالتعرض، قد يكون الحل للآلاف ممن يعانون سنوياً من ذلك الاضطراب.
أجرى علاء محمد حجازي[9]، ضمن رسالته للدكتوراه بجامعة ولاية وين في الولايات المتحدة، جلسات علاج بالتعرض للاجئين عراقيين في الولايات المتحدة. كان العديد من اللاجئين في تجربة علاء قد تعرضوا للعديد من الصدمات النفسية التي قام علاء بقياسها عبر استبيانات عديدة ثم قسم العينة إلى مجموعتين وأُعيد التقييم بعد تلقي اللاجئين للعلاج. لاحظ علاء أن المجموعة التي تلقت العلاج بالتعرض أحرزت نتائج ملحوظة إحصائياً في التحسن من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب. كما انعكس ذلك على أدائهم الاجتماعي حيث صارت المجموعة التي تلقت العلاج بالتعرض أكثر ميلاً لقضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء.
نظر الحكماء والفلاسفة في الماضي بشكل محدود إلى العلاج بالتعرض لكنه لم يكن شائعاً حتى انتشر العلاج النفسي. عرف أبو زيد البلخي، العالم الفارسي من القرن التاسع الميلادي، في كتابه مصالح الأبدان والأنفس أن التعرض لسبب الخوف يمكن أن يقلل وينهي الخوف من ذلك المسبب.[10] أول من أسس لهذا العلاج حديثاً هو الطبيب النفسي الجنوب أفريقي جوزيف وولب (Joseph Wolpe) منتهجاً النهج السلوكي في العلاج النفسي.
في الوقت الذي يعتبر فيه العلاج بالتعرض علاجاً سلوكياً بالدرجة الأساس غير أن مدارس العلاج النفسي الأخرى، وبحسب تقدير المعالج أو الطبيب، يمكن أن تستفيد من ذات المبادئ وأن تطبق العلاج بالتعرض. لا ينتمي العلاج بالتعرض اليوم لمدرسة معينة للعلاج النفسي دون غيرها ويعد ممارسة مثبتة وفاعلة تطبق بحسب الحالات أكثر من ارتباطها بالمنهج العلاجي.
المصادر
[1] Colman, Ian, et al. “Consistency in adult reporting of adverse childhood experiences.” Psychological medicine 46.3 (2016): 543-549.
[2] Boullier, Mary, and Mitch Blair. “Adverse childhood experiences.” Paediatrics and Child Health 28.3 (2018): 132-137.
[3] Mohammed, Yasmine Yousry, et al. “The role of adverse childhood experiences in predicting child abuse perpetration among married mothers in Alexandria, Egypt: a cross-sectional study.” BMC women’s health 24.1 (2024): 59.
[4] Amr, Sania, et al. “Circumstances of substance use by street youth in Egypt support the case for intervening to prevent adverse childhood experiences.” Journal of substance use 24.3 (2019): 341-345.
[5] Lorenc, Theo, et al. “Interventions to support people exposed to adverse childhood experiences: systematic review of systematic reviews.” BMC public health 20 (2020): 1-10.
[6] Ray, Dee C., et al. “Child‐centered play therapy and adverse childhood experiences: A randomized controlled trial.” Journal of Counseling & Development 100.2 (2022): 134-145.
[7] الترجمة: الواقع الافتراضي لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة Steven Novella, “Virtual Reality Treatment for PTSD”, sciencebasedmedicine.org, December 4, 2019
[8] Marie, Mohammad, Sana SaadAdeen, and Maher Battat. “Anxiety disorders and PTSD in Palestine: a literature review.” BMC psychiatry 20 (2020): 1-18.
[9] Hijazi, Alaa M. Narrative Exposure Therapy to treat traumatic stress in Middle Eastern refugees: A clinical trial. Wayne State University, 2012.
[10] أبي زيد البلخي، مصالح الأبدان والأنفس، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2003
