ينتهي أحد أجزاء مسلسل باب الحارة السورية بإفصاح الايدعشري لإبن عمه عن سرقته لقطعة خزف معينة منه بعد أن أصابه هم شديد رافق إلتهاب جرح في يده. يرتاح الايدعشري أخيراً ثم يموت بسلام بعد ذلك. ماذا يقول العلم عن التفريغ والافصاح وفائدتهما؟
يقترح العلاج النفسي أحياناً تقنيات مثل الكتابة وهي تقنية تنتمي للعلاج السلوكي أيضاً لكنها ذات أبعاد عديدة. الكتابة هي تقنية حديثة نسبياً، بالمقارنة مع تاريخ الإنسان العاقل، حيث تم اختراعها قبل قرابة 5000 سنة. شيوع الكتابة بحيث أنها أصبحت ممكنة لم يكن متاحاً حتى آخر خمسة قرون ولبعض القارات والأقاليم في العالم لم يصبح ذلك متاحاً حتى آخر 100 سنة. مصطلح العلاج بالكتابة، رغم كونه تقنية سلوكية، لكنه ليس من بنات أفكار أي منهج من مناهج العلاج النفسي بل هو وليد البحث النفسي الصرف. رائد العلاج بالكتابة هو عالم النفس جيمس بينابيكر.

نشر المقال في كتاب العلاج النفسي كيف نواجه المعاناة النفسية عبر العلم
أحد الأبحاث التي قام بها بينابيكر كانت لتقييم أثر عملية الإفصاح ضمن عملية العلاج النفسي وذلك من خلال الكتابة عن الصدمات النفسية[1]. آلية إثبات الفاعلية كانت بيولوجية وبالتالي فقد كانت شديدة الدقة. تضمن البحث إجراء تجربة شارك فيها 50 طالباً كتبوا عن محن سابقة وصدمات نفسية خلال أربعة أيام. بعدها قاس الباحثون مستوى وظائف جهاز المناعة الخلوية (cellular immune system function). أكدت النتائج وجود تحسن في الجهاز المناعي إثر إجراء الكتابة مما يقترح الأثر الفاعل لعملية الإفصاح حتى لو كانت على الورق.
ترتكز دراسة بينابيكر على الحقيقة العلمية بأثر المشاعر والمزاج على الجهاز المناعي وعلى أجهزة الجسم الأخرى من خلال آليات عديدة منها هرمونات التوتر على سبيل المثال[2]. وقد وصلت الدراسة أن الأثر الأكبر على المشاركين في التجربة تمثل بأولئك الذين عانوا من أزمات ومحن وصدمات نفسية سابقة قاموا بإخفاءها وعدم الحديث عنها مطلقاً.
الحديث عن الإفصاح في العلاج النفسي ومزج ذلك مع العلاقة الأصيلة في العلاج النفسي كما أسس لذلك كارل روجرز يفتح ملفاً مهماً. هل يجب على المعالج أيضاً أن يفصح عن شؤون حياته أمام المريض؟ اختلف الباحثون فيما يجب الإفصاح عنه فضلاً عن متى ولمن وكيف يتم الإفصاح[3]. سدني جوارد (Sidney Jourard) مثلاً أسس لنظرية تعرف بنظرية الإفصاح الذاتي ويرى فيها أن المعالج يجب أن يفصح المزيد عن نفسه مما تراه عامة مدارس العلاج النفسي.
بشكل ما فإن معظم مناهج العلاج النفسي ومعظم الجلسات تتضمن نوعاً من الإفصاح التام الذي يقوم به الشخص. تساعد وظيفة المعالج في كونه شخصاً من خارج الدوائر العائلية والاجتماعية للشخص على إفصاحه للمزيد. يدعم ذلك أخلاقيات المهنة وشروطها التي تجعل ما يقوله الشخص للمعالج سراً في بئر كما يقول المثل العربي، وبالتالي يكون العلاج النفسي بيئة آمنة للإفصاح ولنيل الفوائد الصحية النفسية والجسدية من الإفصاح. ويعد الإفصاح بذاته أحد الأمور المهمة التي ترينا كيف يجب أن يكون المعالج النفسي شخصاً مستقلاً بوظيفة مستقلة، وليس شخصاً من أقارب أو أصدقاء المريض الذين يمكن أن تتأثر علاقتهم بالمرء إثر معرفة سر من أسراره. الميزة الأخرى لعملية الإفصاح والتي أثبتها جيمس بينابيكر هي أنها لا تحتاج بالضرورة لشخص آخر، ويمكن أن تتم بالكتابة فقط.
التفريغ أو التنفيس
ربما لا يحتاج أي شخص للعلاج النفسي ليقوم بسرد حدث ما لشخص آخر. في العلاج النفسي أيضاً، كثير مما يجري قد لا يتعدى عملية التنفيس بمفهومنا الذي نعرفه بالعربية، وهو سرد أمر ذو أبعاد عاطفية لشخص مقرب. يبدو الأمر مشابهاً للإفصاح (disclosure)، لكن على نحو أكثر شيوعاً على مستوى الأحداث اليومية وبشكل أقل حساسية.
المصطلح ليس بهذه البساطة في أدبيات علم النفس، فالتنفيس في علم النفس (acting out) يأتي بمعنى مختلف حيث يشير إلى القيام بأفعال معينة، سلبية ومضادة للمجتمع في الغالب، تعبيراً عن مشاعر مكبوتة للغضب أو العدوان المكتسب من التربية أو الصدامات مع الآخرين. يستخدم التحليل النفسي مصطلح التطهير (Catharsis) للإشارة إلى التعبير عن الصدمة النفسية المدفونة وتحريرها والحديث عنها، وهذا المفهوم أقرب لمفهوم التنفيس في اللهجات العربية العامية وبالإنجليزية (venting). يمكن أيضاً أخذ مصطلح الإفصاح العاطفي (emotional disclosure) ليكون أكثر عمومية من مصطلح التفريغ الذي قد يأتي مرتبطاً بالغضب أكثر من غيره من المشاعر.
من بين الأبحاث التي تناولت التنفيس بشكل عام، لم يكن هناك أثر يذكر[4] [5]. لكن ليس في جميع الأحيان، ففي دراسة[6] عرضت فيلماً ذو مشاهد سلبية ثم قام هؤلاء بذكر مشاعرهم لشخص آخر. طلب من الشخص المستمع في التجربة أن يظهر بعض التعاطف والقرب أو أن يكون بعيداً ومحايداً عاطفياً ومن جهة أخرى أن يناقش الموضوع معرفياً أو ألا يناقشه. درس الباحثون في التجربة كلاً من عوامل التعافي العاطفي وتقليل الإحساس بالكدر. شعر المشاركون بالوحدة بشكل أقل كما كان الأثر العاطفي الإيجابي أكبر لديهم في حالة الاستماع بشكل تفاعلي يظهر التعاطف والقرب وكان النمط المعرفي، الذي تمت فيه مناقشة تفاصيل الفيلم والمواقف والقيم، ذو معدل أقل للشعور بالوحدة أو بالآثار العاطفية السلبية رغم أن الأثر العاطفي الإيجابي كان أقل من المشاركة التفاعلية دون النمط المعرفي. في نهاية التجربة خلص الباحثون أن الإفصاح عن المشاعر مع كون المستمع يظهر نمطاً تعاطفياً ويناقش الموضوع معرفياً هو الأكثر فائدة. يذكرنا هذا بكل من العلاج النفسي الإنساني (أو المتمركز حول الشخص) والعلاج السلوكي المعرفي.
مهما ظننت أن التنفيس مفيد لك حين تعاني من مشكلة فإن الاستماع من شخص تدرب على الأمر له فائدة أكبر. حين يعلم الشخص متى يظهر التعاطف وكيف يقرر التدخل لمناقشة التفاصيل فإن ذلك يعطي للتنفيس فائدة حقيقية. تخيل بالمقابل كم شخصاً تشارك معه تفاصيل موقف ما ويعطيك رداً يصعب الأمر أكثر من أن يسهله. لكن بعد أن يتلقى شخص ما تدريباً ودراسة عن العلاج النفسي فسيتمكن من تحقيق الاستماع الأكثر نفعاً لك.
المراجع
[1] Pennebaker, James W., Janice K. Kiecolt-Glaser, and Ronald Glaser. “Disclosure of traumas and immune function: health implications for psychotherapy.” Journal of consulting and clinical psychology 56.2 (1988): 239.
[2] Pennebaker, J. W. The psychology of physical symptoms. Springer, 1982.
[3] Henretty, Jennifer R., and Heidi M. Levitt. “The role of therapist self-disclosure in psychotherapy: A qualitative review.” Clinical psychology review 30.1 (2010): 63-77.
[4] Trần, Vy, et al. “To vent or not to vent? The impact of venting on psychological symptoms varies by levels of social support.” International Journal of Intercultural Relations 92 (2023): 101750.
[5] Lohr, Jeffrey M., et al. “The psychology of anger venting and empirically supported alternatives that do no harm.” Scientific Review of Mental Health Practice 5.1 (2007).
[6] Nils, Frédéric, and Bernard Rimé. “Beyond the myth of venting: Social sharing modes determine the benefits of emotional disclosure.” European Journal of Social Psychology 42.6 (2012): 672-681.
