الغربان طيور مثيرة للجدل بذكاءها وسلوكياتها المجهولة التي لا زالت محيرة للعلماء من حيث إمكانية عزوها الى نمط ذكاء عالي أم إلى سلوكيات عبثية، اطلعت مؤخراً في كتاب عقل الغراب (the mind of raven) على تجربة وجد فيها العلماء أن الغراب يكذب، أي أنه يوصل معلومة خاطئة (عن قصد ربما) بهدف ايهام طرف آخر مراقب وبالتالي إضاعة جهد الطرف الآخر عند إيصال تلك المعلومة وذلك عبر سلوك تتخذه الغربان بانشاء مخابئ طعام زائفة. وناقش الكاتب الأمر بأنه قد لا يكون بالضرورة كذباً لاسيما وأن انشاء المخابئ المزيفة هذه قد لا يكون عن قصد وقد يكون مجرد لعب. لكن يبقى احتمال ان يكون الفعل مقصوداً وبالتالي فإن الغراب يجيد الكذب في هذه الحالة. لكن الدراسة هذه المرة مختلفة فهي تناقش جذور الوعي وصفة أساسية في الوعي، وهي نيل الخبرة الشخصية حول الأشياء.
أجرى اندرياس نيدير وزملاؤه من جامعة توبنغن في ألمانيا تجربة الوعي هذه على غرابين بلديين (carrion crow) وقد نشرت نتائج التجربة في مجلة ساينس AAAS. كان كل من الغرابين في التجربة ينظر إلى شاشة تتضمن محفزاً بصرياً وكانت استجابته تتم بحركة معينة في رأسه وتعرض الشاشة أشكالاً براقة أو أنها لا تعرض شيئاً بحيث يلاحظ الغراب وجود المحفز أو غيابه. وقد اضيف لذلك بعض المحفزات ذات اللون الباهت جداً بحيث تكون هذه المحفزات على الحد الفاصل بين تمييزها وعدم تمييزها وكان الغرابان يستجيبان لهذه الأشكال أحياناً ولا يستجيبان في أحيان أخرى وهنا يأتي ما رآه العلماء على أنه إدراك ذاتي لدى الغربان. يبدو الأمر مملاً وعادياً حتى هذه اللحظة، لكن هناك تفصيل آخر.
قام العلماء بقياس النشاط العصبي لـ 480 من العصبونات وتم خزن النتائج تلك لردود أفعال الغربان المختلفة تجاه ما كانوا يرونه في الشاشة، كما تم انتقاء 280 عصبون لها نشاط أعلى بشكل واضح تجاه ردود الأفعال. تقع العصبونات التي تمت مراقبتها في منطقة تسمى (nidopallium caudolaterale) وسنترجمها للعربية (بصعوبة) الى ذيل عش العباءة الوحشي، ومنطقة عش العباءة (nidopallium) في الطيور هي منطقة متخصصة بالوظائف الإدراكية وهي تماثل إلى حد كبير وظائف القشرة الجبهية لدى الثدييات[1]، والكلام هنا عن منطقة دقيقة في منطقة عش العباءة. إذاً لنعد الى ما حدث، فقد تم تسجيل النشاط العصبي، وهنا تمت ملاحظة أن النشاط العصبي تجاه الحالات الباهتة الشبيهة بـ “نعم” أو “لا” أي الاستجابة أم عدم الاستجابة كانت شبيهة إلى حد كبير بـ “نعم” عندما فسر الغراب الصورة الباهتة على أنها “نعم” وكانت شبيهة بعدم الاستجابة عندما كان يريد عدم الاستجابة (أو أن يقول “لا”). كانت الدلالة الإحصائية للنشاط العصبي مقابل ما اختاره الغراب عالية جداً (أي أنها بعيدة عن الصدفة).
ثم قام العلماء بتدريب نموذج تعلم آلي من نوع شعاع الدعم الآلي (SVM) على بيانات النشاط الدماغي للغربان وقد تمكن النموذج من معرفة وجود المحفز من عدم وجوده بدقة كبيرة أيضاً. أين الوعي هنا؟
يتلخص مفهوم الوعي الذي قصدته الدراسة بالوعي الشعوري (sensory consciousness) والذي يتمثل بتكوين الخبرة الذاتية أو الخبرة الشخصية حول موضوع معين. يتمثل هذا لدينا نحن البشر بإحساسنا بلذة نوع معين من الشوكولاتة، أو بإحساسنا تجاه المطر، أو بشعورنا نحو ملمس العشب. هذه الاحاسيس متفردة لكل منا، أي أن لكل منا خبرة شخصية وإدراك شخصي مختلف عن الآخرين تجاهها. أحدنا قد يحب المطر بينما قد يكره شخص آخر المطر وهكذا. كيف يُمكن ربط ذلك بالتجربة مع الغربان؟
لم يحدث ذلك النشاط الدماغي الحاصل في منطقة ادراكية نتيجة تفعيل الخلايا البصرية فحسب، بل كان هناك ترميز لمعلومات معينة حول المحفز بنعم أو لا، وكان الترميز هذا دالاً على إدراك المحفز والخيار أن هناك محفز أم لا وذلك لما رصد من تشابه بين خيارات الغراب للمحفزات ذات اللون الباهت وتقريره بشكل تم رصده عصبياً أن هذه الصور تشبه المحفز أو تشبه عدم المحفز (نعم أو لا). الأمر يختلف كلياً عن عين السحلية وهي تتحفز لرؤية لون معين دون أن تعطي لذلك ترميزاً إدراكياً وأن يكون لها شعورها (نشاطها العصبي) الخاص تجاه ذلك اللون. يعبر الباحثون عن ذلك المفهوم للوعي القائم على المؤثرات الشعورية التي تؤثر على أجزاء الدماغ العليا وقد تتمثل بالذاكرة أيضاً وهذا ما حدث مع منطقة عش العباءة في هذه التجربة.
يوضح نيدير وزملاؤه في نهاية البحث تصورهم حول قدم الوعي في الكائنات الحية، حيث يرون أن اقدم سلف مشترك بين الإنسان والغراب يعود إلى الزواحف وذلك قبل 320 مليون سنة، ويفترضون أن الوعي بمفهومه البسيط هذا قد يرجع إلى ذلك الزمن. ويتواجد هذا المفهوم للوعي لدى الرئيسيات بشكل عام وليس الإنسان فحسب، لكنه اكتشف في الطيور لأول مرة في هذه التجربة التي أجريت على الغراب. سألنا عالم البيولوجيا الميداني الذي قام بدراسة الغربان بيرند هينريخ حول رأيه بتصور نيدير وزملاءه عن أصل ذلك الوعي وقضي الـ 320 مليون سنة فلم يتفق مع الباحثين في هذه النقطة.
من جهة أخرى فإن ما تم اكتشافه لا يعني أن الغربان تفكر بشكل مشابه لنا او أن لها مفاهيم فلسفية أو أياً كان تصور القارئ حول كلمة وعي، بل يقتصر الأمر على ما أوضحناه حول الدراسة بشكل محدد. وهو ترميز ما ندركه بواسطة حواسنا في أجزاء الدماغ العليا وإدراكه هناك.
[1] Herold, Christina; Palomero-Gallagher, Nicola; Hellmann, Burkhard; Kroner, Sven; Theiss, Carsten; Gunturkun, Onur; Zilles, Karl (September 2011). “The receptor architecture of the pigeons’ nidopallium caudolaterale: an avian analogue to the mammalian prefrontal cortex”. Brain Structure and Function. 216 (3): 239–254. doi:10.1007/s00429-011-0301-5. PMID 21293877.
الدراسة الأصلية:
Nieder, Andreas, Lysann Wagener, and Paul Rinnert. “A neural correlate of sensory consciousness in a corvid bird.” Science 369.6511 (2020): 1626-1629.