“الحقيقة ما يُقال لا ما يُعلم”

شبلي شميل

معظمنا لا يعرف من هو شبلي شميل اليوم، إنه أول من شرح نظرية التطور بشكل مبسط باللغة العربية في القرن التاسع عشر، ونادى بفصل العلوم عن الدين وبفصل العلوم الحقيقية عن المجالات التي تنسب الى العلم وهي ليست علمية مثل التخصصات الاجتماعية المختلفة. تعرض للإقصاء الفكري وحكم بالإعدام لنشاطه السياسي، غير أنه بقي ماثلاً كأول ناشط عربي بتبسيط العلوم وأول من نقل نظرية التطور الى اللغة العربية وبشكل عالي الجودة.

حياته

ولد شبلي شميل عام 1850 في كفر شيما جنوب بيروت، وقد نشأ في اسرة مسيحية محافظة والتحق بالجامعة الامريكية لدراسة الطب عام 1866، وتخرج من كلية الطب فيها عام 1871 ليتجه الى فرنسا ويكمل دراسته فيها لمدة سنة ثم ليعود الى لبنان بشكل مؤقت قبل ان يدعوه الاقصاء والمضايقة الذي يتعرض له الى تركها والتوجه الى مصر التي عمل فيها طبيبا ومارس فيها بقية انشطته في الكتابة بالفلسفة والعلم.

يمكن اعتبار شبلي شميل فيلسوفاً بشكل رئيسي فقد خاض في قضايا فلسفية عديدة. شغف شميل بفلسفة اوغست كونت فيما يتعلق بالتوجه المادي حول نشأة الأديان، واستهوته اراء فولتير ومونتيسكو وهول باخ في الدين الطبيعي والمعبود الاول ونقد الكتاب المقدس، وكان يؤيد الغرائز ويعارض التربية وتغيير الفطرة ضمن تأييده لآراء جان جاك روسو، كما يساند المنهج العلمي والمنطق الاستقرائي.

وكان من طليعة من ناقشوا نظرية التطور بجرأة في العالم العربي فضلا عن اعتقاده بالنشوء الذاتي لبوخنر حيث تشكل النظريتان رؤيته لنشوء وتطور الكائنات الحية، نفر منه جمال الدين الافغاني وهاجمه الناس وارتابوا منه عندما كان يعمل طبيبا في طنطا بمصر وذلك بسبب افكاره المعارضة للدين. كما هوجم من قبل المفكرين المسلمين والمسيحيين في الشام ايضا مثل الاباء اليسوعيين. واثار كتابه الجريء فلسفة النشوء والارتقاء جدلا كبيرا اثر تقديمه لشرح نظرية النشوء لبوخنر في هذا الكتاب.

كان شبلي شميل في طليعة الصحفيين العلميين في العالم العربي اذ كان يصدر مع حفني ناصف مجلة الشفاء لنشر الثقافة الطبية بين الناس وكان هذا جزءا من جماعة الاعتدال التي اسسها الاثنان ثم اغلقها الانجليز لاشتغال حفني بالسياسة عبرها.

كان شميل من اوائل الداعين لفصل الدين عن العلم ولزج القرآن وسط النظريات العلمية وقد كتب مقالا في ذلك نشرته مجلة الهلال وقد كفره عبد القادر القباني اثر ذلك. ورفض شميل الترشح في مجلس الاعيان العثماني عن المسيحيين قائلا انه يجب ان يقدم على انه احد المشتغلين في العلم والمعنيين بقضاياه لا ان يمثل المسيحيين. كما دعى شميل بوقت مبكر لفصل الدين عن الدولة وعدم تدريس الدين في المدارس والى عدم تمويل الدولة للمدارس الدينية. كان شميل يدعو للتقليل من تأسيس الكليات النظرية كالآداب والفلسفة والى تأسيس المزيد من الكليات العلمية، كما كان يدعو لحذف كافة اشكال التلقين والمعارف الخيالية والميتافيزيقية من المناهج.

كان شميل من مؤيدي تفعيل الدستور في الدولة العثمانية ومن مؤيدي الديمقراطية والنظام الجمهوري وله مقالة في فضله على الملكية كما كانت له ميول اشتراكية واضحة، اما رأيه بخصوص المرأة فقد كان معارضا للقول بمساواتها مع الرجل غير انه كان من الداعين لتعليم النساء. وقد جلبت عليه آراءه السياسية الإصلاحية السخط من الدولة العثمانية فحكمه جمال باشا الجزار بالإعدام عام 1916 لكنه لم يكن ضمن رقعة سيطرة الدولة العثمانية فمات بعدها بسنة نتيجة نوبة ربو.

فلسفة النشوء والارتقاء

يعد هذا الكتاب هو الأبرز لشبلي شميل فضلاً عن الكتاب الذي اعقبه (الحقيقة) والذي رد فيه بشكل علمي على ما اثير حول نظرية التطور لداروين والنشوء لبوخنر. يذكر شبلي شميل في مطلع الكتاب قلة بل وندرة من يفهمون التطور في العالم العربي. فيما يكثر المهتمون بالتخصصات غير العلمية والمولعين بالأدب والتخصصات الدينية والتنظير الاجتماعي.

يرد مصطلح العلوم الحقيقية لدى شميل لأول مرة في هذا الكتاب للتمييز بين العلوم وبين التخصصات الدينية والاجتماعية والآداب. وبذلك نعد رسالته مشابهة لرسالة موقع العلوم الحقيقية لكن مع توسع نطاق ما يعده الناس علوماً في عصرنا وهو ليس بذلك.

يحمل شبلي شميل الرؤية المبكرة حول نظرية التطور التي تتميز بصفتين:

  • محاولة حل قضية النشوء بالتوازي مع التطور الحاصل في فهم تطور الكائنات الحية.
  • تعميم مبدأ التطور على أوسع نطاق ممكن من المجالات.

لذا خصص شميل شرحاً جزيلاً لتفنيد “الخلق الفجائي” بحسب تسميته، ولتنفيد ما يراه داروين أن أصل الكائنات يرجع الى إنزال الله لعدة كائنات ابتدائية من السماوات لتمثل بداية الخلق. بالمقابل فإن لدى شميل رؤية واضحة يستمدها من الرؤى العلمية في وقته حول الخلية الحية والتي يسميها “الكرية”، كما يستند شميل الى اكتشاف الجراثيم في افتراض وجود كائنات ابتدائية نشأت بشكل تلقائي يوماً ما وانطلقت منها عملية التطور وذلك وفق رؤية بوخنر، ويشرح ذلك في كتابه (شرح بخنر على مذهب داروين). ولودويج بوخنر هو فيلسوف ألماني كان أحد رموز المادية العلمية في القرن التاسع عشر.

من جهة أخرى فإن شميل يقول بأن التطور لا يقتصر على الاحياء فقط بل على الجمادات أيضاً، وربما يقصد بذلك رؤية النشوء التي يراها في تحول الجماد الى كائن حي وفق تعبيره والذي يمثل به نشوء الخلية الأولى والذي يعبر عنه أيضاً بالصلة بين الجماد والأحياء، واليوم نرى في الفيروسات التي اكتشفت بعد شميل وبوخنر تمثيلاً لهذه الصلة، لكن ليس هناك طروحات بارزة حول نشوء الكائن الأول والفيروسات.

في معظم ما طرحه، نرى شميل يناقش القضايا العلمية بشكل ناضج جداً، فهو يفند النظرية السائدة للتولد الذاتي للكائنات الحية ويستشهد باكتشافات لويس باستور، كما أنه يستنكر ويفند الخرافات السائدة حول الحالات النفسية والتي تعزوها للمس الشيطاني وتعالجها بتعذيب المرضى وتلاوة التعاويذ عليهم. رغم أن شميل يقر بقلة المعلومات في عصره ويتأمل المزيد بقادم الأيام من الاكتشافات العلمية.

حول نظرية التطور، يتساءل شميل فيما إذا كنا سنرى جماجماً لكائنات منقرضة تربط الانسان بأسلافه، وفعلاً حدث هذا في جماجم وهياكل عظمية عديدة. ويتفهم شميل أن ما حفظ من الكائنات الغابرة ما هو الا شيءٌ يسير، وهذا فعلاً ما نعرفه اليوم حول الاحفوريات وندرتها وصعوبة العثور عليها. شرح شميل للتطور غزير بالأمثلة المتنوعة حول الكائنات الحية والتي لا تتوقف عند قارة واحدة ولا تتوقف عند ما اكتشفه الغربيون فحسب، بل يسوق شميل أمثلة محلية من البلاد العربية أيضاً. ومع ذلك فإن بعضاً من آليات التطور لم تكن معروفة في وقته، فهو مثلاً يذكر بأن “التغيير” في الكائنات الحية هو ناموس أي قانون، وهو يسوق الأمثلة لتوضيح ذلك لكنه لا يمتلك المعرفة حول الجينات وآليات عملها بحكم الوقت الذي عاش فيه.

من التعميمات التي يسوقها شميل في نظرته لشمولية التطور آراء هربرت سبنسر في تطبيق نظريات التطور على المجتمعات، والآراء حول اللغات وتطورها، غير أنه يميز في هاتين فرقهما عن التطور البيولوجي وينبع سرده لهما من اعتقاده بأن التطور هو قانون الكون وأنه لا يقتصر على التطور البيولوجي للكائنات الحية. ويمتلك شميل في ذلك تمييزاً واضحاً للمنهج التجريبي وقد فضل من قام بتجربة عمن قال قولاً أو فكر بفكرة فحسب.

أما زلنا نحتاج لرسالة شبلي شميل؟ أما زلنا في نفس النقطة الزمنية؟

وسط الفخر الذي يملئنا ونحن نقرأ عن فيلسوف وشخص مهتم بالعلوم وأحد المؤسسين الأوائل للصحافة العلمية وتبسيط العلوم في العالم العربي، تستوقفنا نظرة إلى واقعنا، إلى المجلة والموقع الذي ينشر هذا الكلام، إنه “العلوم الحقيقية”، لماذا أسسنا العلوم الحقيقية؟ لأننا ما زلنا نعاني من نفس ما عاناه شبلي شميل في يومنا هذا مع خارطة أوسع للخرافات والزيف الذي نسعى لتمييز العلم الحقيقي عنه. منذ القرن التاسع عشر إذ كان شبلي شميل هو أول من يجسد مفهوم الصحافة العلمية ومفهوم تبسيط العلوم في العالم العربي، نجد موقعنا “العلوم الحقيقية” هو أحد أوائل المواقع التي أسست للغرض نفسه. هل ما زلنا واقفين في نفس النقطة التي وقف بها شبلي شميل يوماً ما قبل مئة سنة؟ لم يكن من بد، سوى أن نختم حياة هذا الرجل بنظرة متشائمة الى واقعنا بهذا الشكل.

 

(المعلومات حول حياة شبلي شميل وأفكاره مستقاة من أعماله الكاملة بتقديم ودراسة د. عصمت نصار عليها)