حب التخفي والتستر عن الانظار ظل يراود الشعوب بمختلف العصور، حتى نُسجت في الفلكلور الشعبي لكثير من الشعوب على مر العصور الأساطير المختلفة حول عباءات التخفي، والقدرة على الاختفاء ابتداءا من الاسطورة الاغريقية، حكايات الف ليلة وليلة، سيد الخواتم وهاري بوتر.

هذا الهوس بالتخفي ربما كان متأثرا بمقدرة بعض الحيوانات على الاستتار بالاستعانة بالبيئة المحيطة، كما نراه في تمويه بعض الاسماك والزواحف.

التمويه لا يقتصر على عالم الحيوان، بل لبعض الاحياء الدقيقة المجهرية القدرة على التمويه والتستر بصورة كيميائية للهروب من الجهاز المناعي للإنسان مثلاً.

في دراسة نشرت الأسبوع الماضي في دورية نيتشر (Nature Communication) توصل الباحثون الى الالية التي تستخدمها البكتيريا لمخادعة الجهاز المناعي والتمويه بالتصرف كأنها جزء لا يتجزأ من الخلايا للكائن، في هذا المقال سنحاول التعرف على هذه الالية ..

يحيط كل خلية من خلايانا جدار خلوي، تكون وظيفته حماية أجزاء الخلية من محيطها وادارة شؤون نقل المواد الغذائية والاشارات الكيميائية من والى الخلية.

بدوره يكون الجدار الخلوي محاطاً بطبقة عازلة من جزيئات السكر، التي تكون على شكل سلاسل طويلة تحيط بالجدار لحمايته، هذه السلاسل وتركيبها هي من تدير عمليات التواصل مع المحيط وكيفية التجاوب مع خلايا الاجهزة الاخرى.

على امتداد نهايات هذه السلاسل توجد جزيئة سكر يطلق عليها حمض اسيتايل نيورامينيك او حمض السياليك، وظيفة هذه الجزيئة هي كالبصمة الخلوية او الهوية التي تتيح للجهاز المناعي التعرف على خلايا الجسم من الخلايا والأجسام الغريبة، فالخلية غير الحاملة لهذه البصمة يقوم الجهاز المناعي بمهاجمتها كجسم غريب.

دور هذه الجزيئة في تفعيل الجهاز المناعي ودورها في الأمراض المناعية نوقش كثيراً، ولكن من خلال الدراسة اكتشف العلماء أن البكتيريا تستخدم هذه الجزيئة كعباءة للتخفي من الجهاز المناعي وتجنب مهاجمته، حيث تقوم البكتيريا بإنتاج انزيمات خاصة تعمل على اقتطاع بعض من سلاسل هذه الجزيئات ونقلها إلى داخل الخلية البكتيرية واستخدامها كمادة غذائية، وبالتالي تحقق عدة أهداف، وفرة بالغذاء واستغلال لجسم الكائن، ومحاولة للتخلص من الهجوم.

في هذه الدراسة استخدم الفريق البحثي تقنيات متعددة كالأشعة السينية لدراسة كيفية انتقال حامض السياليك الى داخل الخلية البكتيرية وقدموا شكلا ثلاثي الأبعاد ونموذجاً للناقلات التي تستخدمها البكتيريا.

حمض السياليك

حمض السياليك

أين تقع أهمية الدراسة ؟

تبدو الدراسة للوهلة الاولى بأنها لم تأت بجديد، فقد عرف منذ سنوات عديدة اهمية هذه الجزيئات بتحفيز الجهاز المناعي ومن الأمور البديهية التي تستخدمها البكتيريا والفايروسات للتخفي منه، بل ومن الممكن ان يكون الخلل بتشكيل هذه الجزيئة سببا في عدد من أمراض المناعة الذاتية.

لكن هذه الدراسة تقدم بالواقع افقاً جديدا في مجال تطوير مضادات بكتيرية جديدة، حيث أن الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية على مدى السنين الماضية، وغياب الاهتمام بتطوير مضادات جديدة، يجعل الانظمة الصحية امام مشكلة خلال السنوات القادمة لتطور بكتريا مقاومة.

من خلال هذه الدراسة يمكن تطوير ادوية جديدة تعمل على تثبيط عملية نقل حامض السياليك الى داخل البكتريا، وبالتالي حرمانها من مصدر غذائي مهم واتاحة الفرصة للجهاز المناعي باكتشافها بلا مشاكل.

نضع الدراسة بين أيديكم، لعل متابع من المتابعين يأتي بدراسة مستقبلية عن تطوير فئة جديدة من المضادات البكتيرية ..

رابط الدراسة :

Wahlgren, Weixiao Y., et al. “Substrate-bound outward-open structure of a Na+-coupled sialic acid symporter reveals a new Na+ site.Nature communications 9.1 (2018): 1753.