التطور والأخلاق : الأخلاقيات التطورية في المقدمة الفلسفية بجزءها الثاني بعد الجزء الأول من مقال الأخلاقيات التطورية. ما هي أهم المشكلات الفلسفية التي واجهتها آراء داروين وسبنسر في الأخلاق التطورية؟

ت. مشكلة حقيقة الشيء وما يجب أن يكون عليه الشيء The Is-Ought Problem

كان الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776) أول من جادل بشدة في أن القواعد القياسية normative rules لا يمكن أن تُشتَقَّ من الحقائق التجريبية empirical facts. فرأى أن “في كل منظومة أخلاقية عرفتُها إلى الآن، وجدت دائما أن الكاتب يعتمد على المنطق الاعتيادي ويمثل دور الإله أو يصنع الملاحظات التي تُعنى بقضية الإنسان، حيث وجدت فجأة أنهم بدلا من أن يجمعوا بين الضمائر هو is، وليس هو is not، لا ينفكُّون يربطون الضمائر بـ ما يجب ought، وما لا يجب ought not. هذا التبديل غير ملحوظ، ولكنه ذو نتائج سابقة” (1978، ص469).

إنه، هذا التحوُّل غير الواضح وغير الملموس من “حقيقة الشيء is” إلى “ما يجب أن يكون عليه الشيء ought” الذي رثى له هيوم. أن تقول ما هو الشيء وأن تقول ما يجب أن يكون عليه الشيء هما مسألتان مختلفتان بالنسبة إليه. فمن جهة، لا تحتوي الحقائق التجريبية على قواعة قياسية، وإن حدث هذا، فإنها -أي القواعد القياسية- لن تكون تجريبية خالصة. ومن جهة أخرى، إذا لم تكن هناك عناصر قياسية في الحقائق، فإنها لن تظهر فجأة في النتائج؛ لأن النتيجة تكون صحيحة استنتاجيا إذا كانت كل المعلومات الضرورية حاضرة في المقدمة. 

فكيف يشتقُّ داروين وسبنسر “ما يجب أن يكون عليه الشيء” من “حقيقة الشيء”؟ دعونا نلق نظرة على داروين أولا، مستعملين المثال الذي استعمله هو ودعمه.

  1. الطفل (أ) يموت من الجوع.
  2. والدا الطفل (أ) ليسا قريبين ليطعماه.
  3. والدا الطفل (أ) ليسا سعيدين أبدا لأن طفلهما يموت من الجوع.
  4. لذا، يجب على كل الناس أن يوفروا الطعام للطفل (أ).

كتب داروين (1930، ص234) أن “السعادة جزء أساسي من الخير العام“. لذا، يجب على من يريدون أن يكونوا أخلاقيين أن يوفروا السعادة، ومن ثم، في الحالة السابقة، أن يوفروا الطعام. لكن الانتقال غير الملحوظ من “حقيقة الشيء” إلى “ما يجب أن يكون عليه الشيء” الذي وجده هيوم في المنظومة الأخلاقية، موجود أيضا في هذا المثال. وهكذا اشتق داروين “ما يجب أن يكون عليه الشيء” من “حقيقة الشيء” عندما انتقل من الحقيقة التجريبية (الحزن) إلى القضية القياسية (وجوب إزالة الحزن).

ببساطة، إذا أردنا أن نقيس سلوكا أخلاقيا على سلوك آخر، يجب أن تكون هناك مقدمة (1,2 في مثال داروين)، وحقيقة تجريبية (3 حقيقة كونهما حزينين لأن طفلهما يموت من الجوع)، وعناصر قياسية (قياس وجوب إزالة الحزن على حقيقة أنهما حزينين لأن طفلهما يموت من الجوع) ونتائج (4 وجوب توفير الطعام للطفل أ). لكن مشكلة هيوم هنا هي أن عنصر القياس في هذا المثال (وجوب إزالة الحزن) لم يأتِ في الحقائق التجريبية، ثم فجأة ظهر في النتائج (المترجم).

سنجد نفس الشيء عند سبنسر، ويمكن أن نبسِّط مجادلته السابقة حول البقاء للأليَق كالتالي:

  1. سيضمن الانتخاب الطبيعي البقاء للأليَق.
  2. الشخص (ب) يموت من الجوع لأنه مريض ومُسِنٌّ وفقير (أي غير لائق).
  3. لذا، يجب على الأشخاص الذين يعرفونه أن يتجنبوا “أخلاقيا” مساعدته حتى يتحقق البقاء للأليَق.

حتى لو بدت كلتا المقدمتين صحيحتين، فهما لا تعنيان أن من الواجب الأخلاقي علينا أن نشجِّع بقاء الأليَق. سيتطلب الدفاع عن هذه الحُجَّة أن تُضاف قضية قياسية تعادل مهارات البقاء بالخير الأخلاقي. ومرة أخرى، لم يرد ذكر هذا الجزء القياسي في المقدِّمة المنطقية. ومن هنا، يشتق سبنسر “ما يجب أن يكون عليه الشيء” من “حقيقة الشيء”. وقد عارض توماس هاكسلي (1825-1895) الأخلاقيات التطورية على هذا الأساس عندما كتب: “السارق والقاتل يتبعان الطبيعة كما يتبعها المُصلِح. قد يكون التطور الكوني علمنا كيف يميل الإنسان إلى الخير والشر. لكنه بنفسه غير كافٍ لإعطائنا تبريرا لتفضيلنا الخير على الشر أكثر مما كان لدينا من قبل” (1906، ص80).

 

ث. المغالطة الطبيعية The naturalistic Fallacy:

لم يكن مؤيدوا حجة هيوم (أن القواعد القياسية لا يمكن اشتقاقها من الحقائق التجريبية) وحدهم الذين هاجموا الأخلاقيات التطورية. فهناك جدل آخر أعلنه الفيلسوف البريطاني جورج إدوارد مور (1873-1958). ففي عام 1903، نشر كتابه الرائد مبادئ الأخلاق Principia Ethica الذي أثار واحدة من أكثر المشكلات تحديا للأخلاقيات التطورية؛ وهي المغالطة الطبيعية. وفقا لمايكل روز (1995، ص223)، عند الإجابة على سؤال يتعلق بالأخلاقيات التطورية، “لقد كان كافياً أن يهذي الطالب بهذا التعبير السحري (المغالطة الطبيعية)، ثم يستطيع الانتقال إلى السؤال التالي، واثقا من أنه حصل على الدرجة الكاملة”.

كان مور مهتما بتعريف “الخير” وما إذا كانت ميزة الخير بسيطة أم معقدة. الميزات البسيطة، بحسب مور، غير قابلة للتعريف؛ إذ لا يمكن وصفها أكثر بميزات بسيطة أخرى. وفي المقابل، يمكن تعريف الميزات المعقدة بميزاتها البسيطة. فمثلا، لا يمكننا تعريف اللون “الأصفر” بأجزائه التي يتركب منها، بينما يمكننا وصف الشيء “الملوَّن” لأنه يتركب من عدة ألوان مفردة.

فالخير بالنسبة لمور هو ميزة بسيطة لا يمكن وصفها باستعمال المزيد من الميزات البسيطة. المغالطة الطبيعية هي أن تحاول تعريف “الخير” بالإشارة إلى ميزات طبيعية أخرى مُثبتة تجريبيا. يشكِّل هذا الفهم للخير مشكلة حقيقية لكل من داروين وسبنسر. فهما، كما فعل بنثام وستيورات ميل، عرَّفا الخير الأخلاقي بـ “السعادة”. هذا يعني أنهما ارتكبا مغالطة منطقية، إذ “الخير” و”السعادة” ليسا نفس الشيء. بالإضافة إلى أن سبنسر قد ارتكب المغالطة الطبيعية مرة أخرى عندما عرَّف الخير بأنه “متطور جدا”. (يمكن أن تُعارَض كل من قضية مور ونقده، لكن هذا سيكون خارج نطاق موضوعنا*).

 

الهوامش:

* حاول أستاذ الفلسفة بجامعة نوتردام رالف ماكلنيري (1929-2010) نقض المغالطة المنطقية في كتابه الأخلاق الأكوينية Ethica Thomastica فكتب: “أنا أقول إن سيارة اليوغو جيدة… إذا قلتُ شارحا كلامي أنها رخيصة واقتصادية، قد يُظَنُّ أنني أقصد بكلامي شرح كلمة ‘جيدة’ في هذه الحالة، فكأن جملة ‘سيارة اليوغو جيدة’ هي نفسها ‘سيارة اليوغو رخيصة واستهلاكية’، لكن إذا كانت ‘جيدة’ تساوي ‘رخيصة واستهلاكية’، فستكون تعريفا بديلا للكلمة، والعكس صحيح. لكن هذا يعني أن جملة ‘سيارة اليوغو جيدة لأنها رخيصة واستهلاكية’ معادلة لجملة ‘سيارة اليوغو جيدة لأنها جيدة’، فأقترح أن الوسيلة الوحيدة لتجنب تحويل الأحكام التقديرية إلى تكرار للمعنى هي أن نفهم أن ميزات الشيء الذي يُدعى ‘جيدا’ لا يمكن أبدا أن تعلل تسميتنا لهذا الشيء بالجيد” (1997، ص49،50). المترجم.

 

المقال الأصلي:

Schroeder, Doris, Evolutionary Ethics, Internet Encyclopedia of Philosophu, website: http://www.iep.utm.edu/evol-eth.

مراجع المقال الأصلي:

Darwin, Charles (1871, 1930) The Descent of Man, Watts & Co., London.

Fieser, James (2001) Moral Philosophy through the Ages, Mayfield Publishing Company, Mountain View California), Chapter 12 “Evolutionary Ethics.”

Hume, David (1740, 1978) A Treatise of Human Nature, Clarendon Press, Oxford.

Maxwell, Mary (1984) Human Evolution: A Philosophical Anthropology, Croom Helm, London.

Midgley, Mary (1980) Beast and Man: The Roots of Human Nature, Methuen, London.

O’Hear, Anthony (1997) Beyond Evolution: Human Nature and the Limits of Evolutionary Explanation, Clarendon Press, Oxford.

Ruse, Michael (1995) Evolutionary Naturalism, Routledge, London.

Spencer, Herbert (1874) The Study of Sociology, Williams & Norgate, London.

Wilson, Edward O. (1975) Sociobiology: The New Synthesis, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts.

Woolcock, Peter G. (1999) “The Case Against Evolutionary Ethics Today,” in: Maienschein, Jane and Ruse, Michael (eds) Biology and the Foundation of Ethics, Cambridge University Press, Cambridge, pp. 276-306.

المراجع الإضافية:

www.oxforddictionaries.com/definition/english/morality

McInerny, Ralph (1997) Ethica Thomistica: The Moral Philosophy of Thomas Aquinas (The Catholic University of American Press), Chapter “Ultimate Ends and Moral Principles.” pp. 49,50.