ينتج اضطراب ما بعد الصدمة، أو ما يعرف بـ(Post-Traumatic Stress Disorder (PSTD)) من التعرّض لأحداثٍ صادمة. على سبيل المثال، فإن الجنود في الحروب معرّضون لخطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بنسبةٍ أكبر من غيرهم بسبب تعرّضهم المتكرر لمثل تلك الأحداث بمرور الوقت. ولكن، حدثٌ واحد، كمشاهدة أحداث الحادي عشر من سبتمبر على سبيل المثال، من الممكن أن يسبّب لك اضطراب ما بعد الصدمة. إنَّ نسبة انتشار مثل تلك الحالات في الولايات المتّحدة وصلت لحوالي 8.7%. حيث تتضمّن الأعراض ما يلي:

“تطوّرٌ ملحوظُ للأعراض المميّزة للاضطراب، كالذكريات أو الأحلام الكئيبة بشأن الحدث الصادم، الكآبة النفسيّة الناتجة عن تلميحاتٍ داخليّةٍ أو خارجيّةٍ تمثّل الحدث الصادم، ردود الفعل النفسيّة، التهرّب من المحفّزات المرتبطة بالحدث، والتغيّرات السلبيّة في الإدراك والمزاج.”

إنَّ المعالجة الحقيقيّة الوحيدة المثبتة لاضطراب ما بعد الصدمة هي المعالجة بالتعرّض. وهذه المعالجة تتكوّن من العديد من الأنماط المختلفة، ولكنّها تتضمّن في صلبها التعرّض للمحفّزات التي تستثير أعراض اضطراب ما بعد الصدمة أو محاكاة الصدمة الداخليّة أثناء الخضوع لبعض أنواع المعالجة الإدراكيّة. قد تختلف آليّة التعرّض والطابع الدقيق للمعالجة الإدراكيّة، ولكنَّ الصيغة الأساسيّة هي نفسها. هنالك العديد من العلاجات (مثل حركة العين* والعلاج بالنقر**) التي تتضمّن بعض الخصائص الإضافيّة للمعالجة، ولكن تُظهر الأدلّة أن هذه الخصائص الإضافيّة غير ضروريّة ولا تضيف شيئاً لكفاءة التداخل العلاجي. حيث يبدو أن كلَّ علاجٍ ناجحٍ يتضمّن بعض أشكال المعالجة بالتعرَض***.

ولذا، فإنَّ نسبةً كبيرةً من الأبحاث السريريّة تركز على تحسين هذه المعالجة لأكبر قدرٍ ممكن. هنالك العديد من المتغيّرات التي قد يكون من الصعب السيطرة عليها جيّداً في مثل هذه التداخلات العلاجيّة، ولكن الأبحاث مستمرّة رغم ذلك. إن النظريّة المعمول بها حاليّاً هي ارتباط الحدث الصادم بالصدمة نفسها، ولذلك يتهرّب الناس من المحفّزات المشابهة (كالمكان، والتجمهرات، وأي شيء من الممكن أن يذكّرهم بالحدث الصادم). لكنَّ هذا التهرّب يقيّد المصابين بارتباطاتٍ سلبيّة. تقوم المعالجة بالتعرّض على إعادة تعريض المرضى لظروف الصدمة، ولكن ضمن نطاقٍ آمن ودون وجود الصدمة المرافقة لتلك الظروف. وبهذه الطريقة يتم ترويض الدماغ للمحفّزات وينسى ارتباطها بالصدمة أساساً.

ينتج عن هذا تقدّم سريريٌّ ملحوظٌ في حوالي ثلثي الحالات. ولكنّه يترك العديد من المرضى ممّن لديهم مقاومة لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة.

إنَّ أحد العناصر الجديدة نسبيّاً في المعالجة هو استخدام الواقع الافتراضي في جزء المعالجة المتعلّق بالتعرض. وأنا هنا أقول أنّه جديد “نسبيّاً” لأنّي وجدتُ تقريراً لإحدى الحالات يعود لعام 2002 – أي منذ 17 عامٍ مضى. وهذا يعزّز الوقت الطويل الذي يستغرقه البحث السريري. إن العلاج لا يزال يعتبر تجريبيّاً، مع وجود بعض المراجعات (التي حصلتُ عليها) والتي تنصّ على الحاجة لمزيدٍ من الأبحاث.

غالباً ما تتضمّن المعالجة بالتعرّض تصوّر الشخص للصدمة ببساطة. وقد تتضمّن التعرّض أيضاً للمستثيرات. ولكن من الواضح أنّه إذا كان هنالك عسكريٌّ يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة بسبب صدمةٍ حدثت له في ساحة المعركة، فليس هنالك طريقةٌ لتعريضه لذلك الموقف بشكلٍ مباشر. ولذا، فإنَّ طريقة إعادة التصوّر هي المستخدمة في المقام الأول. ورغم ذلك، فإن هذه الطريقة لا تعمل لدى الجميع. حيث قد يجد البعض صعوبةً في إقحام أنفسهم ذهنيّاً الى الموقف الصادم أو البقاء في ذلك الموقف لمدة كافية.

وهنا يظهر دور الواقع الافتراضي (Virtual Reality VR). لقد ناقشتُ مسألة الواقع الافتراضي سابقاً – وبعد تجربتي له بنفسي يمكنني القول أنّه يعمل بشكلٍ أساسي. إن ما يعنيه ذلك هو أن تجربة الواقع الافتراضي كافيةٌ “للتحايل” على الدماغ لكي يعامل الموقف الافتراضي على أنّه حقيقي، حتّى لو كنت مدركاً في قرارة نفسك أن ذلك غير صحيح. إحدى التوضيحات الأساسيّة على ذلك هي “تجربة لوح الخشب”. ففي لعبة الواقع الافتراضي هذه، تقوم مثلاً بالمشي على لوحٍ خشبيٍّ افتراضيٍّ موجودٌ على بنايةٍ ذات ارتفاعٍ شاهق. ورغم علمك أنّك بأمانٍ في مكانك، فإن غرائزك تقول لك بأنّك في خطرٍ قد يودي بك الى الهلاك. وذلك لأن دماغك قد ابتلع طُعم الوهم الافتراضي.

ولفهم صعوبة هذا الأمر بشكلٍ أكبر، فمن الضروري فهم أن تصوّرنا للواقع يتمُّ تشييدهُ في كل حالة. حيث يقارن دماغك عدّة تيّاراتٍ حسّيّةٍ في آن واحد ويزامنها مع بعضها البعض ومع النماذج الداخليّة للواقع. ومن الممكن أن يتم اختراق عمليّة البناء هذه، حيث يعتبر الواقع الافتراضي طريقةً فعّالةً بشكلٍ ملحوظٍ لعمل ذلك.

يعتبر الواقع الافتراضي أكثر فعاليّةً من عرضٍ على الشاشة أو شاشة فيديو. إنَّ الأمر في الواقع ليس مجرّد اختلافٍ كمّي – بل اختلافاً نوعيّاً وظاهرةً منفصلةً تماماً. فعند مشاهدة شاشةٍ ما، فإنَّ دماغك لا يتصوّر الحركة الظاهرة على الشاشة كحركةٍ في العالم الحقيقي. ورغم ذلك، فإنَّ هنالك حدّاً أعلى حرجاً يبدأ التأثير فيه بالظهور جليّاً. فبالنسبة للشاشات المحيطيّة الكبيرة للغاية، يمكنك أن تشعر ببعض الدوار أثناء الحركة (بسبب عدم التطابق بين ما تراه عيناك وما يشعر به جسدك). حيث من المحتمل أنَّ هذا الأمر يفعل شيئاً ما للرؤية المحيطيّة. ولكن مع الواقع الافتراضي، فإنَّ لديك مجال رؤية كامل (حتى وإن كان محدّداً لغاية اللحظة بـ 110 درجات بالنسبة لأغلب الأنظمة).

وبناءً على خبرتي، فأنا أعتقد أيضاً أنَّ الحقيقة هي أنَّك عندما تنظر حولك في مسارات الصورة أثناء حركتك فإنّك في الواقع تقع في فخِّ الوهم. ومجدّداً، يبدو هذا الأمر منطقيّاً من الناحية العصبيّة – حيث يشعر دماغي بحركات رأسي وتتزامن رؤيتي معها، وبهذا تُغلق الحلقة الحسّيّة ويكتمل الوهم.

ولذلك، فإن تجربة الواقع الافتراضي – والتي قد تكون صعبةً للغاية – من الممكن أن تكون طريقةً ملائمةً وفعّالةً للتعرّض لمعالجات اضطراب ما بعد الصدمة المبنيّة على التعرَض. حيث يمكن للطبيب من الناحية النظريّة أن يملك تحكّماً كاملاً بعمليّة التعرّض. فيمكن بالفعل وضع الجندي في ساحة معركةٍ افتراضيّة. وهذا الأمر ليس معتمداً على قدرته على التخيّل. بل أنّه من الناحيّة الطبيعيّة آمنٌ تماماً.

هنالك معاينتان نظاميّتان نُشرتا في عام 2019 توصّلتا الى نفس الاستنتاج في الأساس، ألا وهو أنَّ العلاج بالتعرّض المبني على الواقع الافتراضي لحالات اضطراب ما بعد الصدمة فعّالٌ على الأقل بنفس نسبة الطرق العلاجيّة الفعّالة في الوقت الحالي، بل يتفوق عليها من ناحية التحكّم. ورغم ذلك، فقد لا يعمل بشكلٍ أفضل بكثير من الطرق العلاجيّة الحاليّة. حيث يبدو أنَّ هنالك – نوعاً ما – تأثيراً متعلّقاً بالاستجابة للجرعات بكون الطرق العلاجيّة أكثر فعاليّةً عندما تأخذ وقتاً أطول.

وعلى أيّة حال، فإنَّ هنالك بالفعل نسخةً جديدةً للمعالجة بالواقع الافتراضي تُدعى بـ (3MDR)، والتي تمزج ما بين الحركة وتجربة الواقع الافتراضي. لا تزال هذه الطريقة قيد الدراسة حالياً، ولكنَّ تشير إحدى الحالات الأوّليّة الى أنَّها قد تُنتج تقدّماً إضافيّاً يتخطّى المعالجة التقليديّة. فعلى سبيل المثال، من الممكن أن يكون هذا العلاج مشياً على جهاز المشي أثناء ارتداء نظّارات الواقع الافتراضي، حيث يمشي المريض باتّجاه العامل المستثير بدلاً من التهرّب منه.

وعلى أقلِّ تقدير، فإنَّ الواقع الافتراضي يعتبر طريقةً فعّالةً للمعالجة المبنيّة على التعرّض بالنسبة لاضطراب مع بعد الصدمة ولربّما تكون ملائمةً أكثر للبعض. الاحتمال الأكبر هو أنَّه ليس هنالك طريقةٌ واحدةٌ هي الأفضل لكل شخص، وكلّما كان هنالك خياراتٌ أكثر، كلّما ارتفعت نسبة الأشخاص الذين سيستجيبون لطريقةٍ واحدةٍ على الأقل من طرق التداخل العلاجي.

ولكن كما هو الحال في أغلب الأحيان، فإنَّ مزيداً من الأبحاث يجب أن تُجرى.

ملاحظات:

* ازالة التحسس واعادة المعالجة عبر حركة العين: علاج نفسي يرتكز على تحريك العين المستمر.

** العلاج بالنقر وعلاجات الحرية النفسية: علاج زائف قائم على مزاعم مسارات الطاقة في الجسم.

*** المعالجة بالتعرض: علاجات الصدمة القائمة على تعريض المريض لمصدر معين للقلق.

 

المصدر:

Steven Novella, “Virtual Reality Treatment for PTSD”, sciencebasedmedicine.org, December 4, 2019