آلان سوكال، وهو عالم فيزياء بجامعة نيويورك أصبح معنياً أشد العناية بالعبثية والبعد عن العلمية وأي منهجية صارمة في توجهات ما بعد الحداثة، ما دفعه إلى أن يجري تجربة بسيطة : جمع عدداً من الصفحات لبحث يحمل عنوان “اختراق الحدود: نحو تأويل تحولي للجاذبية الكوانتية”. ونلحظ أن ورقة البحث مكتوبة بأسلوب ما بعد الحداثة المتغطرس والمسيَّس، ومن ثم كان محاكاة سافرة. وبدا مثيراً للضحك لأقصى حد. وأذكر للحقيقة أنني لا أعرف عالم فيزياء تأتى له أن يقرأ أكثر من فقرة من دون أن ينفجر ضاحكاً، حتى الهوامش كانت مضحكة. وعلى أي حال أرسل سوكال ورقة البحث إلى صحيفة تنتمي بفكرها إلى فكر ما بعد الحداثة اسمها “سوشيال تيكست” (social text) وهي التي قبلت نشرها. وبعد أن ظهر المقال مطبوعاً كتب سوكال مقالاً آخر عنوانه ”تجارب عالم فيزياء مع الدراسات الثقافية” وارسله الى صحيفة منافسة هي صحيفة “لينغوا فرانكا” (lingua franca). وأعلن سوكال في مقاله هذا ان الامر كله خدعة واوضح ان الصحيفة كانت سعيدة جدا لحصولها على مقال لعالم فيزيائي جشم نفسه مشاق تعلم لغتها، ما حداها على نشر المقال من دون السؤال عما إذا كان فيما يقوله أي معنى مفهوم.
ولكن ما أذهلني من عواقب هذه المغامرة كلها هو رد فعل محرري صحيفة سوشيال تكست ومن يدعمونها. إذ إنهم لم يشغلوا أنفسهم باستبطان حالهم وفهم أنفسهم على سبيل المثال: لماذا لم يعرضوا المقال على عالم فيزياء وهو ذو صلة بالفيزياء، وقاموا بالمقابل بالقاء اللوم سوكال لأنه “أساء استخدام ثقتهم”. تؤكد هذه القصة الرأي السائد داخل المجتمع العلمي وهو ان النقد بعد الحداثي برمته غير جدير بأن يؤخذ مأخذاً جاداً. لم يحدث كتاب نقدي في السنتين الأخيرتين مثل الضجة التي أحدثها كتاب “دجالون مثقفون”….لمؤلفيه الآن سوكال وجان بريكمون فقد نقدا مثقفي ما بعد الحداثة”.
نستطيع بوضوح ان نرى انه لا يوجد توافق ثنائي -أحادي المعنى بين الروابط الخيطية ذات المغزى او الكتابة الرئيسية، بما يعتمد على المؤلف، وبين هذا الحافز الماكني المتعدد المرجعية، والمتعدد الأبعاد. وما يوجد من تناظرية في المقياس، وخطوط مستعرضة، ومن خاصية تمددها على نحو مؤثر غير منطقي : كل هذه الأبعاد تنقلنا بعيدا عن منطق الوسط الاستبعادي وتضعنا في رفضنا للثنائية الأنطولوجية التي سبق ان انتقدناها.
هذا الاقتباس هو نص للمحلل النفسي فليكس جواتاري وهو واحد من كثيرين من “مثقفي الموضة ” الفرنسيين الذين كشفهم آلان سوكال وجان بريكمونت في كتابهما الرائع “دجالون مثقفون” الذي أحدث ضجة عند نشره في فرنسا والذي تمت ترجمته واصداره بالإنجليزية (اتمنى ان اجده بالعربية ذات يوم او على الاقل وجود كتاب ممثال لنقد الشواهد العربية غير الواضحة)، يواصل جواتاري طرحه إلى ما لا نهاية في هذا الاتجاه، ويطرح حسب رأي سوكال وبريكمونت “مزيجا من رطانة العلم والعلم الزائف والفلسفة وهو من أذكى من قد يلقاه المرء من هذا النوع من الكتاب” وقد كان لجواتاري شريك حميم هو الراحل جيلز ديلويز ولديه موهبة مماثلة في الكتابة حيث يقول:
“نجد في المقام الاول ان الاحداث المفردات تناظر متتاليات لا متجانسة تنتظم في منظومة ليست مستقرة وليست غير مستقرة وإنما هي بالأحرى في ما بعد الاستقرار، وقد أضفى عليها طاقة كامنة حيث يحدث اضطراب في الاختلافات التي بين المتتاليات… وثانيا فإن المفردات تمتلك طريقة معالجة للتوحيد الذاتي، هي دائما متنقلة ومزاحة الى حد ان عنصرا من المفارقة يمر عبر المتتاليات ويجعلها في حالة رنين، ويطوق النقط المفردة المناظرة في نقطة واحدة تصادفية ويطوي كل الانبعاث، وكل رميات النرد، في رمية واحدة”
“. هل فهمتم شيئاً؟ يعمل سوكال وبريكمونت كأستاذين للفيزياء في جامعة نيويورك ولوفان، وهما قصرا نقدهما على تلك الكتب التي غامرت بالاستشهاد بمفاهيم من الفيزياء والرياضة، وهما هنا يعرفان ما يتحدثان عنه، وحكمهما واضح لا لبس فيه : كما هو الامر مع لاكان الذي يبجل اسمه في الكثير من أقسام الانسانيات في كل الجامعات الامريكية والبريطانية، ولا ريب ان جزءً من الاحترام الذي يناله عائد بسبب انه يعمل على محاكاة طريقة فهم عميقة للرياضيات، ويقول عنه سوكال وبريكمونت “على الرغم من ان لاكان يستخدم عدة كلمات رئيسية من النظرية الرياضية للدمج إلا أنه يخلط بينهما خلطا تعسفيا دون أدنى اعتبار لمعناها وتعريفه للدمج ليس فحسب زائفا، وإنما هو هذر بلا معنى.
تجدر الاشارة هنا الى موقع طريف سيعطيك عدة مقالات رائعة من مقالات ما بعد الحداثة وستكون المقالات صحيحة نحوياً وتبدو جميلة، لكن الكلمات الرائعة تلك لا معنى لها، جرب ان تقرأها وتحدث الصفحة ليعطيك مقالات أخرى. يقول ا عزيز الخزرجي –وهو من الكتاب الإسلاميين الشيعة ومشهور بانه يتحدث بلغة إنشائية ويخلطها بكلمات علمية:
“إن قوانين ميكانيكا “الكوانتوم” تؤكد على أن آلكون ما هو إلا نتاج للفكر، و كل ما يحيط بنا من المواد ما هي إلا نتاج للأفكار (4). و ما نحن (إن استقمنا) إلاّ حقيقة ومبدأ الوجود (5) , و لو قدرنا عبر تجاربنا الخاصة إدراك هذه القدرة الحقيقية.. يمكننا البدء بالاستفادة من هذه الطاقة العظيمة و هذا السر المكنون، و كلما كان التوفيق و النجاح كبيراً وواسعاً كان الخلق والإبداع أكبر و أوسع. كلّ ما تريده يمكنك تحقيقه إبتداءاً من خلال أعماق وعيك و تركيزك و التي في النهاية تمثل وعي الوجود و الكون الممتد إلى ما شاء الله. القضية إجمالاً تتعلق بمدى و كيفية الاستفادة من تلك القدرة والسر الكامن فينا، سلبياً أو إيجابياً، صحيحياً أو سقيماً، فالواقع السلبي أو الإيجابي.. الأوضاع التي أحاطت بنا بعد أن اختلقناها.. كلّ ذلك تُبيّن و تدلل على حقيقة ما نحن عليه.إذن نحن الذي نخلق و نكوّن و نوجد ليس فقط أقدارنا.. بل مصير الوجود كله. و من هنا انطلقت صيحة الحلاج عندما نادى : أنا الحق بعد أن تجلى فيه. وهكذا تبعه ابن عربي والسهروردي والفارض والكرخي وغيرهم إن الموجود الحقيقي المطلق هو العقل الكلّي النافذ في كل شئ، فلو استطعنا الحلول في ذلك المدار فإننا سنتفاعل معها وسنمتلك تلك القدرة و نكون بمثابة المطلق في الوجود. سواءاً بالإشتراك أو الوحدة أو الأصالة”
الخزرجي تغافل عن ان فيزياء الكوانتم لا تعترف بالأفكار اصلا بل هي أول نظرية وحدت المادة والطاقة في رؤية مادية مطلقة للكون، وحينما قدمت بمراسلته لاخبره بهذه الملاحظة، اتجه إلى سؤالي عن مفهوم الطاقة، فأخبرته أن الطاقة هي كمية فيزيائية عددية تصف كمية الجهد الذي تؤديه قوة وهي صفة للأشياء والأنظمة الخاضعة لقانون الحفظ. إلا أنه قال بحلقة اخرى من نفس المقال ذكر بأني تهربت واني لم اعرف الطاقة وقال الآتي:
“و لا أخفيكم بوصول رسالة واحدة فقط من أحد القراء “الملحدين” تقول : بأن بحثك هامشي وغير صحيح مستنداً إلى التعريف التالي : (الكوانتم لا تعترف بالأفكار أصلاً، بل هو أول نظرية وحّدت المادة والطاقة في رؤية مادية مطلقة للكون، وأنا مُلحد و قد أكملت دراستي الحوزوية) و عندما طالبته بالدليل، انسحب و تعذّر بالقول إنه ليس من اختصاصي , و أنني في الوقت آلذي أعذرهُ.. بل و أحترم رأيه فإنني أوصيه ومن على شاكلته بأن يتعامل مع الفكر والعقيدة بالأدلة العلمية على الاقل و بشكل أكثر جدية و عُمْقاً، و إلاّ فيستحيل الوصول إلى الحقيقة! والغريب عندما طلبت منه أن يُعرّف الطاقة ويُبين علاقتها بخمسة محاور طرحتها عليه : اعتذر قائلاً ان الطاقة ليست من إختصاصي، واستغربت لأمره كيف إنه أقْحَمَ نفسهُ في موضوع يجهل تعريفه. لكنّ الإنسان عموماً عدوّ ما جَهلْ. و لعلّ هذا هو حال الكثير من الكتاب العاجزين على الأسفار في الآفاق والأنفس.”
ان الخزرجي هنا بخلطه بين العرفاني والعلمي، يريد ان يعطي بعداً علميا لهذه الأمور التي اشتهر بها اشخاص لم يقدموا للإنسانية أي شيء يذكر. في الحقيقة أجد صعوبة كبيرة بفهم الدراسات النقدية لبعض الأشعار، لا اعرف لماذا التشفير المتعمد للنصوص، ويخيل لي بأني أقرأ بميكانيكا الكم لا بمقال نقدي منشور على موقع كتابات، هناك مقولة رائعة لبرتراند راسل:-
من لايتكلم بوضوح لايملك شيئاً.
متى نتخلص من هذه العلوم الزائفة ؟ ومن التفكيكيين والماورائيين وكل شخص يشكك بالعلم والمنطق، ومتى نتخلص من الطب الزائف (البديل ) لا نريد إلا احترام للعلم الذي بنى التكنولوجيا وصنع الحضارة. ولا عزاء لدريدا ولا لفوكو مما نحن عليه !.
لكن ليس الخزرجي أو كتاب ما بعد الحداثة هم أول رواد التشفير والخواء في المعاني والفهم الحقيقي، يمكننا العودة نصوص المتصوفة كابن عربي، تتميز هي الأخرى بتلك الحبكة في النصوص والتشفير في المعاني التي أصبحت فيما بعد طريقة من طرق عرافي العرب والأتراك لتخمين المستقبل من خلال تلك النصوص المبهمة التي تعامل معاملة الغيوم أو صحن الرمل أو الفنجان فهي تحتمل هذا المعنى أو ذاك، لكن بميزة واحد فقط أنه لا يتضمن تزييفاً وتزويقاً بمصطلحات علمية، لكنها بالمقابل تحتكر وصف العالم بأوصاف الفهم الفيزيائي لذلك الوقت، فمثلاً يقول ابن عربي:
فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم. فهو لها كالجوهر الهيولاني. وليس إلا عين الطبيعة. فالعناصر صورة من صور الطبيعة. وما فوق العناصر وما تولد عنها فهو أيضاً من صور الطبيعة وهي الأرواح العلوية التي فوق السموات السبع. وأما أرواح السموات السبع وأعيانها فهي عنصرية، فإنها من دخان العناصر المتولد عنها، وما تكون عن كل سماء من الملائكة فهو منها.
هل هناك علاقة بين هؤلاء المتصوفة وبين “المفكرين” الإسلاميين الجدد وبين ما بعد الحداثة؟ قد يستغرقنا ذلك بحثاً لنجد الصلات بين هؤلاء لكن كل ما نجده حالياً بين هؤلاء هو الاقتراب من العلوم الزائفة، وثنائية الخواء من المعاني التي تتناسب طردياً مع تعقيد الألفاظ والجمل.