إن بزوغ حضارة وأفولها عادة ما يُعزى لأسباب سياسية أو اقتصادية أو عسكرية لكن أن يكون السبب هو التغير المناخي فهذا ما لم يؤخذ بالحسبان طوال قرون. إن ما يقترحه بحث قام به مجموعة من العلماء في جامعة بازل (Basel) ونُشر في مجلة ساینس (Science) في حزيران 2022 أن الجفاف كان سبب في أفول نجم حضارة حمير التي سادت وحكمت شبه الجزيرة العربية لأكثر من أربع قرون بعد الميلاد.
على الرغم من قوة مملكة حمير التي وحدت اليمن القديم وإستطاع حكمها أن يمتد لأربعة قرون وكان من أسباب ازدهارها هو إزدهار الزراعة ونظم الري، لكن لا يزال سبب سقوطها مجهولاً إلى حد كبير. تظافرت عدة عوامل سياسية واقتصادية على سقوط المملكة لكن ما تم تجاهله لقرون هو التغير المناخي الذي أثر بشكل كبير على إقتصاد المملكة وبالتالي أثر على قوتها العسكرية والسياسية.
يحاول باحثون بقيادة البروفيسور دومينيك فليتمان من جامعة بازل إيجاد تفسيرات وأسباب لسقوط المملكة. ومن هذه الأسباب هو موجة جفاف شديدة أصابت المنطقة في القرن السادس الميلادي.
إستخدم الباحثون سجلات المناخ المائي في كل منطقة جنوب الجزيرة العربية، بما في ذلك سجل عالي الدقة من شمال عمان. لكن النقص الحاد في سجلات المناخ لمنطقة الجزيرة العربية لتلك الحقبة تجعل من الصعب التوصل إلى نتائج دقيقة بهذا الخصوص، لذا إستعان الباحثون بسجلات مناخية وتاريخية وأركيولوجية من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع سجلات حديثة من عمان لتفسير فيما اذا كان الجفاف الحاد سبب للتغيرات الكبيرة التي حصلت في المنطقة العربية آنذاك.
بالإضافة الى ذلك فريق الباحثين قام فريق الباحثين بتحليل سجلات المناخ من شمال عمان لاسيما من مقاطع من كهف “الهوتة” اخضعت لتحليل النظائر (Isotope analysis) وهي احدى الطرق المستخدمة لمعرفة التاريخ المناخي والبيئي. بين التحليل أن مستويات الصواعد والتركيب الكيميائي لها تؤثر بشكل مباشر على هطول الأمطار، ومن خلال تحليل شكل وتركيب الطبقات المترسبة إستنتج الباحثون أن هذا أدى إلى فترة جفاف طويلة إستمرت لعقود.
يقدم السجل المناخي لتلك الفترة الحرجة من التاريخ معلومات بخصوص الأمطار التي كانت تهطل على شمال عمان ومعظم المناطق العربية قادمة من البحر الأبيض المتوسط، في حين تهطل الأمطار الصيفية على المرتفعات اليمينة وجنوب عمان فقط، وأهم مافي هذه الدراسة هو تغير مستويات هطول الأمطار في جنوب شبه الجزيرة العربية الذي غالباً ما يؤدي إلى موجات جفاف شديدة.
إن مقارنة نتائج البحث مع السجلات التاريخية أوصلت الباحثين إلى تقارب شديد بين الفترة الزمنية التي تهاوت بها مملكة حمير وبين فترة الجفاف. وبما أن مملكة حمير كانت تستمد معظم قوتها من إقتصادها المعتمد بشكل كبير على الزراعة وتجارة المواد العطرية وغيرها، فقد تميزت مملكة حمير -كما تشير الأدلة التاريخية والرسومات المكتشفة – على أنظمة ري على طول الصحراء وسدود وحقول متدرجة للإستفادة من مياه الأمطار والجريان السطحي للمياه. وتعتمد الزراعة في حمير في الغالب على مياه الأمطار التي تهطل مرتين في السنة.
في نهايات القرن الخامس عانت حمير من العديد من المشاكل المتمثلة بالصراعات الداخلية بين الأطراف التي فرقتها الإنتمائات الدينية للديانتين اليهودية والمسيحية، ضاعفها تدخل مملكة *اكسوم الذي وضع حمير في وضع التبعية. وبعد منتصف القرن السادس وقعت مملكة حمير تحت السيطرة الفارسية ولم تعد موجودة ككيان سياسي مستقل.
هجوم اكسوم المباغت والصراعات الداخلية وشحة الأمطار والجفاف المتزايد وتدهور الزراعة ساهمت جميعها في إستمرار ضعف مملكة حمير. إن ضعف مملكة حمير زاد من قوة منافساتها من الامبراطوريات كالامبراطورية البيزنطية والساسانية واكسبت مكة (مسقط رأس النبي محمد) نفوذ أكثر في وسط وجنوب الجزيرة العربية.
وكان لسقوط مملكة حمير دور حاسم في تغير المشهد السياسي في شبه الجزيرة العربية، مما أتاح الفرصة للعديد من الحركات السياسية والدينية الجديدة _التي تركزت حول المعتقدات التوحيدية_ للظهور بما فيها الدين السلامي.
كان التحدي الذي يواجه انتشار الاسلام هو محاولة توحيد شبه الجزيرة العربية من جديد على الرغم من العوائق التي واجهها من القبائل التي تحولت إلى الديانة اليهودية أو التي كانت معادية لقبيلة قريش (قبيلة النبي محمد). لكن مع بدايات القرن السابع وضعف الامبراطورية البيزنطية والفرس بسبب الحرب الطويلة كان للقيادات الاسلامية المبكرة المجال للتوسع مع قدرة عسكرية كبيرة.
لا تقترح الدراسة أن الجفاف الشديد الذي ضرب شبه الجزيرة العربية في أواخر القرن الخامس وبدايات القرن السابع كان سبب رئيسي ووحيد لهذه التغييرات لكنها تؤكد على أن الجزيرة العربية عانت من جفاف حاد وغير عادي ولا يمكن تجاهله في الفترة من 500 إلى 530 م أدى إلى إضعاف مملكة حمير وسقوطها وإلى تغيرات داخلية وخارجية ودينية غيرت وجه المنطقة.

*مملكة اكسوم: هي مملكة قديمة تمركزت في إثيوبيا الشمالية ما يُعرف اليوم بأرتيريا.
المصادر:
Droughts in the sixth century paved the way for Islam, unibas.ch
Fleitmann, Dominik, et al. “Droughts and societal change: The environmental context for the emergence of Islam in late Antique Arabia.” Science 376.6599 (2022): 1317-1321.