عندما وصل الاوربيون الى الامريكتين لأول مرة بقيادة كريستوفر كولومبوس، لم يكن ذلك فاتحة خير لكثير من الشعوب التي كانت تقطن في القارتين، فعلى الرغم من قسوة الصدامات غير المتكافئة بالقوة بين الأسبان والهنود الحمر، غير أن عاملاً آخر كان سبباً أكبر للإبادة الكبرى التي تعرض لها الهنود الحمر- ما يعرف بالموت الأعظم- إنها الأوبئة. عند الحديث عن الشعوب المعزولة عن بعضها لقرون طويلة جداً فإننا لا نتحدث عن ذات الإنسان بيولوجياً، على الأقل من ناحية الجهاز المناعي. غير أن ما لا يمكن توقعه هو أن الموت الأعظم كان قد يكون سبباً لانخفاض كبير في نسبة ثنائي أوكسيد الكربون في تلك الفترة.

نشر باحثون من كلية لندن الجامعة (UCL) بحثاً في عام 2019 حول الصلة بين الموت الأعظم وانخفاض نسبة ثنائي أوكسيد الكاربون بشكل ملحوظ في تلك الفترة. قام الباحثون بالاعتماد على أدلة تاريخية حول تعداد السكان في الامريكتين قبل كولومبوس، استخدامهم للأراضي، تخمين الخسارة السكانية الحاصلة في الهنود الحمر، قيم ثنائي أوكسيد الكربون التاريخية ومقارنة المؤثرات الطبيعية على انخفاضها وارتفاعها لتخمين ما يمكن عزوه للموت الأعظم.

اطلع الباحثون على 119 دراسة خمنت تعداد الهنود الحمر قبل كولومبوس وتراوح ذلك بين 44 مليون الى 78 مليون نسمة. ثم انخفض استهلاك ثنائي أوكسيد الكربون في القرن السادس عشر بنسبة 47-67% من الغلاف الجوي، وقد كان لهؤلاء السكان استهلاك معين من الأراضي والحيوانات، وبغياب الاستيطان الأوربي حتى فترة لاحقة، يستنتج الباحثون أن الوفيات الحاصلة في الموت الأعظم والتي تصل الى قرابة 56 مليون نسمة هي السبب الرئيسي في ذلك الانخفاض بنسبة ثنائي أوكسيد الكاربون وقد كان هؤلاء يستخدمون 56 مليون هكتار من الأرض في أنشطتهم الزراعية.

ورغم أن الدراسات تتباين في تخمين النسبة الدقيقة لمن ماتوا من السكان الأصليين، غير أن الأوبئة المسجلة تعبر بشكل أدق عن نسبة الذين ماتوا، اذ مات نصف السكان مرة و80% من السكان مرة أخرى في المناطق التي أصيبت بوباء الجدري في القرن السادس عشر في المكسيك وذلك في مطلع الغزو الاسباني للبلاد. وفي امبراطورية الإنكا مات أيضاً ثلث الى نصف السكان نتيجة وبائين للحصبة والجدري. نفس هذه الأوبئة لم تكن تقتل الناس بنفس الأعداد في أماكن أخرى وأزمنة أخرى في العالم القديم (أي قبل تطور الطب) ففي اليونان 400 ق.م سجل أن ربع السكان ماتوا نتيجة الجدري، وفي اليابان 700 م سجل أن ثلث السكان ماتوا نتيجة الجدري.

ما عول عليه الباحثون بالإضافة للتعداد السكاني واستخدام الأرض هو معايير أخرى، منها مقارنة نفس معايير استخدام الأرض في باقي أنحاء العالم، وأيضاً ما يُعرف بـ تدفق ثنائي أوكسيد الكاربون بين الأرض والغلاف الجوي (CO2 LAND-ATMOSPHERE FLUX) وهو من المعايير المتعلقة باستخدام الأرض وانبعاثات ثنائي أوكسيد الكاربون والتي توجد لها بيانات تاريخية. أحد المصادر المهمة لانبعاثات ثنائي أوكسيد الكاربون هو النشاط البركاني وقد تم شموله في الدراسة، بالإضافة الى الشذوذات الحاصلة في اجمالي الإشعاع الشمسي (Total solar irradiation) على الأرض طيلة القرون الماضية، ولم يكن في أي من هذين ما يدعو لعزو الانخفاض في نسبة ثنائي أوكسيد الكاربون اليه. وباستثناء تلك المتغيرات فإن انخفاض مستوى ثنائي أوكسيد الكربون في تلك الحقبة كان بحد ذاته أمراً استثنائياً غير متوقعاً وغير متناسب مع مساره بشكل عام.

لكن ماذا عن الآلية المفترضة لانخفاض ثنائي أوكسيد الكربون عدا التنفس لهؤلاء الأشخاص؟ ولماذا التركيز على استخدام الأرض؟ للوهلة الأولى يبدو هذا متناقضاً مع ما نعرفه عن دور النباتات في تقليل نسبة ثنائي أوكسيد الكربون، لكن هل تقل النباتات فيما لو زالت مزارع الانسان؟ ما سيحدث هو العكس، فالانسان ينمي اصنافاً معينة من النباتات لكن هذا لا يعني أنها اكثر كثافة من الغابات التي كانت ستحل محل مزارعه لو زالت وهذا هو المتوقع في الدراسة.

بقيت ملاحظتان، الأولى من المنهج العلمي، فرغم أن الدراسة صارت تعد من الدراسات البارزة في المجال ولها مئات الاستشهادات في أبحاث أخرى، ورغم أن منطق الدراسة يبدو مقنعاً، لكن من الصعب اعتبارها في صلب العلوم الحقيقية. نعم، هذه الطريقة في دراسة التاريخ تعد أفضل من الطرق التقليدية لدراسة التاريخ والمنحصرة بالروايات والسرد، لاسيما وأنها تُشرك المتغيرات العلمية التاريخية حول المناخ وتربطها مع الروايات والسرد، لكن في الوقت نفسه لا تعتبر أرضية الدراسة صلبة بما يكفي فهي تتحدث عن مساحة شاسعة من العالم، في حقبة سابقة، وتربط بين متغير متفاوت نعرفه فقط من تخمينات هي بذاتها متفاوتة، فعلى الرغم من ثبوت وفاة السكان الأصليين بأعداد ضخمة وانخفاض استخدام الأرض لهم، لكن ليس من الممكن أن نضع أصابع الاتهام نحو ذلك السبب لما حدث في الأرض بأكملها حتى وإن قمنا بتوفير الأرقام التي تجعله قريباً نوعاً ما من انخفاض ثنائي أوكسيد الكربون.

الملاحظة الثانية حول العنوان، في اللغة العربية اعتدنا أن نسمع حديثاً بكلمة انقراض أنها تشير إلى أصناف الحيوانات، وهذا ليس الاستخدام الوحيد للكلمة إذ نجدها في كتب التاريخ المكتوبة بالعربية تشير الى انقراض الشعوب أيضاً، والمصطلح مفيد حيث يشير بالتحديد الى حالة الوفاة على نطاق واسع ولجماعة واسعة جداً ولا يعوض عنه مصطلح آخر ولا يعني ذلك الإساءة لمن يستخدم المصطلح معهم.

الدراسة الأصلية:

Koch, Alexander, et al. “Earth system impacts of the European arrival and Great Dying in the Americas after 1492.” Quaternary Science Reviews 207 (2019): 13-36.