ان التاريخ الذي نفهمه ونعرفه هو جزء يسير جداً من تاريخ البشر الحقيقي. يقتصر مفهوم التاريخ الذي نعرفه الى حد كبير على ملامح سياسية وعسكرية واسعة النطاق ومتلاشية المعالم كلما عدنا الى الوراء حتى الأيام الأولى للتدوين وما قبل ذلك يكاد يقتصر على استنتاجات محدودة اذا ما لجأنا الى وسائل دراسة التاريخ التقليدية. لكن والشكر للعلم، فقد انبثقت وسائل جديدة لدراسة التاريخ بشكل غير معهود. راجع المقال المنشور عام 2019 “كيف يمكن أن تخلق فحوص السلالة حقلاً جديداً في دراسة التاريخ
مثلها مثل مجالات بحثية أخرى، فإن فحوص السلالة والحمض النووي تتباين في كثرتها وكثافتها بحسب البلاد المختلفة. ومنطقة الشرق الأوسط هي من المناطق التي لم تدرس جينياً بشكل جيد حتى الآن.

اجراء تسلسل للحمض النووي (DNA Sequencing) للرفات التي يتم العثور عليها أو لأفراد أحياء من المجاميع البشرية المختلفة يعتبر حجر الأساس في هذا النوع من الدراسات. وفي الدراسة التي نطلع عليها تم اجراء التسلسل لـ 137 جينوم لأشخاص ينتمون لـ 8 أعراق شرق-أوسطية مختلفة.

(راجع أيضاً: آلية عمل فحوص السلالة والمجموعة العرقية المنشور في العلوم الحقيقية عام 2018).

التغير المناخي التاريخي

يوماً ما في نقطة سحيقة من التاريخ كانت الجزيرة العربية أرضاً خضراء ماطرة، لكن وفي الفترة بين 15-20 ألف سنة يظهر أن التعداد السكاني في الشام قد ازداد، لكن لم يحدث الأمر ذاته في شبه الجزيرة العربية، إذ بدأ العداد السكاني يتجه نحو الثبات او الانخفاض. التعداد السكاني في تلك الحقب يعد مؤشراً مهماً على الظروف الفطرية التي ينشأ فيها الانسان حيث كان يتعايش مع الطبيعة دون أي تقنيات متقدمة، حتى الزراعة لم تكن قد اكتشفت، وإن كان تطور الزراعة في حقبة لاحقة في المنطقة ذو دلالة معينة على الزيادة السكانية في الشام والعراق فهو قد لا يفسر ما نراه على الطرف الآخر حيث نجد انحساراً سكانياً ناتجاً من الجفاف على الأغلب وقد لوحظ ذلك في المنطقة التي تقع فيها الامارات الحالية الى ان صار تعداد السكان اقل بـ 20 مرة عما هو عليه في العراق والشام وذلك قبل 6 الاف سنة وهي فترة البدايات الواضحة للتصحر في شبه الجزيرة العربية.

يعبر الباحثون عن تلك المراحل من الانخفاض السكاني التي يتم رصدها عبر الجينات بعنق الزجاجة، حيث يشبه الأمر مرور المجموعة السكانية بعنق زجاجة مما يؤدي إلى تضاؤلها.

يتضح أنه قبل 9 آلاف سنة وفي الفترة المعروفة بالتحول من الصيد والجمع الى الصيد والرعي في شبه الجزيرة العربية، انتشر المتغير الجيني المرتبط بصفة تحمل اللاكتوز وهي غير موجودة لدى الأفارقة. هل يمكن ان يدلنا ذلك على حاجة الناس هناك لمنتجات الألبان بشكل مشابه للأوربيين نظراً لقلة التعرض للشمس ولأن المناخ كان مختلفاً؟ لم تتطرق الدراسة لذلك. لكن لم تكن تلك الفترة هي فترة تتجه فيها الجزيرة العربية للازدهار، وفي نفس الوقت لم تكن صحراء كالتي نعرفها اليوم.

بعد نقطة الـ 6000 سنة من الآن، تظهر لدينا نقطة أخرى يبدو أن الجفاف والتصحر قد ازداد فيها. يظهر في الدراسة أن خط السلالة الجينية المعروفة بـ (J1) والذي ينتمي له كثير من العرب اليوم قد انتشر في فترة تتراوح قبل ما بين 4800 الى 6500 سنة من الآن. هذه الفترة وبحسب الدراسات اللغوية التي تخمن فترة التقاء اللغات السامية وتباعدها، هي ذات الفترة التي انتشرت فيها اللغات السامية في المنطقة. وهذه الفترة هي ذاتها التي حدث فيها انتشار لخليط بين الشعوب الإيرانية وبقية الشرق أوسطيين ووصل ذلك السلف الى شرق افريقيا والى الشام وشبه الجزيرة العربية، فهل له صلة بانتشار اللغات السامية؟ وهل لانتشار اللغات السامية صلة بالجفاف الحاصل وبهجرة وتفرق الساميين؟

تسمي دراسة أخرى هذه الفترة بالألفية المظلمة، نظراً لكثرة الجفاف والتصحر فيها وتصف استجابة البشر في شبه الجزيرة العربية للتغيرات المناخية من حيث الاقتراب اكثر من السواحل حيث يمكن الاعتماد على الصيد وحيث تتوفر المياه الجوفية أكثر من المناطق الداخلية، فضلاً عن زراعة الواحات وأسلوب التنقل. [1]

العامل الآخر لفهم التصحر القديم الحاصل كان بدراسة فترات الانفصال للجماعات البشرية التي تمت دراستها، أحدث هذه الانقسامات حدثت بين 3-4 آلاف سنة بين عرب العراق والشام وهو ما قد يشير الى الصحراء التي توسعت بين الاقليمين. العينات في اليمن والامارات في الدراسة تفصلهم 4 الاف سنة، لنتخيل معاً صعوبة اجتياز الصحاري بين اليمن والامارات الحالية وعدم وجود حاجة لذلك في ظل التصحر الشديد الذي حصل، اما لو لم يحدث التصحر لبقيت المنطقة بين الاقليمين مأهولة ولبقي التخالط بين المجموعات البشرية. عينات الامارات والأردن تفصلها 7 الاف سنة، وعينات الأكراد العراقيين مع الامارات تفصلها 10 الاف سنة، هل يعني ذلك أن جميع هؤلاء كانوا شعباً واحداً؟ كلا، لكن في حال تخالط الشعوب المختلفة يحدث تزاوج يسبب ظهور خلطات معينة من الجينات تدلنا على وجود اتصال بين الشعوب اما وجود هذه الفجوات من حقب تصل الى الاف السنين فيدل على صعوبة التخالط والانعزال بين الصحاري. وأخيراً، فان عينات السعودية تفصلها 2000 سنة عن عينات كل من اليمن والامارات.

نرى في نفس الدراسة كيف أن هناك أنماط أخرى من التخالط مع الشعوب والتي يمكن أن تحدث بغياب العراقيل الطبيعية التي تصعب على الانسان حركته وهجرته في الماضي.

التخالط بين شعوب المنطقة

سكان الشرق الأوسط ليسوا سلفاً مباشراً للخارجين من افريقيا بحكم سكنهم في منطقة العبور بل يرجع انفصالهم عن الهجرات الافريقية الأولى الى 50 الى 60 ألف سنة.

مبدئياً هناك تقارب بين سكان شبه الجزيرة العربية والبدو من جهة وسكان بلاد الشام القدماء من جهة أخرى. أما سكان بلاد الشام الحاليين فهم يميلون إلى سكان أوروبا في العصر البرونزي حيث قدمت المجموعة المعروفة بالصائدين الجامعين الشرقيين من شرقي اوربا والاناضول نحو الشام بعد العصر البرونزي (قبل 3200-5300 سنة من الآن). أما سكان العراق من العرب والكرد والاشوريين في العينة التي تم أخذها فيبدون أقرب للشعوب الإيرانية القديمة.

أما الجزيرة العربية ففيها تخالط مع الأفارقة وهو ما يميزها عن الشام والعراق، أقرب خط سلالة للأفارقة الذين خالطوا سكان الجزيرة العربية هم أسلاف شعب البانتو الحاليين في كينيا وقد حدث التخالط مع هؤلاء خلال الـ 2000 سنة الأخيرة، أي في حقبة بعد الميلاد مع كون معظم الأشخاص الذين يُظهرون دلائل للتخالط مع الأفارقة في حقبة بين 500-1000 سنة من الآن أي أنه حديث جداً. بالمقابل، تفتقر الجزيرة العربية لسلالات الأناضول التي تظهر لدى سكان الشام الحاليين والتي ترجع الى ما قبل 4000 سنة من الآن أي الى العصر الحجري.

أنماط التخالط هذه قد تشير أيضاً الى التغيرات المناخية التي تعزل شعوباً أو بعضها وتقرب شعوباً أخرى عن بضعها. والدراسة لم تتطرق لهذا الأمر بالتحديد.

تجدر الأشارة الى أن هذه التسميات بحسب الشعوب والقوميات الحالية هي تسميات فقط لا يعني ان سكان اوربا في العصر البرونزي هم الاوربيون اليوم، الجزيرة العربية والعراق لا تعني العرب الحاليين هذه كلها تسميات حديثة، نحن نتكلم عن فترة تسبق تمايز الشعوب والقوميات الموجودة حالياً.  أيضاً، فالمجاميع التي تم أخذها لا تمثل مجموعات مميزة تاريخياً بل هي فقط مجاميع حديثة تستند الى البلدان والقوميات الحالية مثل العراقي العربي والعراقي الكردي والبدوي والفلسطيني…الخ. ولا يعني ذلك أن تلك المجاميع لها أي أهمية تاريخية بل فقط هي مجموعات مختلفة بتوزيعها الجغرافي سميت في الدراسة بأسماء البلدان التي تنتمي لها اليوم ولا يعني ذلك بالضرورة أن التسميات الواردة بالدراسة تدل على قدم القوميات او الأعراق الواردة في التسمية.

دلائل في الجينات

وكما نعلم عن الجينات فهي ليست فقط خرائط عديمة المعنى تحمل دلالات اصولنا بل هذا هو أحد الاشكال السطحية التي نراها فيها، بل ان الجينات هي أشبه بمفاتيح الكهرباء الخاصة ببناء ضخم جداً. حاول الباحثون في هذا البحث أن يطلعوا على الفروقات الجينية لدى الشرق أوسطيين. الجين (LMTK2) لدى الشرق أوسطيين يحتوي على متغير غير موجود لدى الافارقة والشرق آسيويين وموجود بكثرة لدى الاوربيين، هذا الجين يحمل شيفرة بروتين يلعب ادواراً عديدة في العمليات الخلوية الدقيقة كالموت الخلوي، والاشارات الخاصة بعامل النمو العصبي.

تم العثور أيضاً على ما يعرف بعامل (سنوات-الدراسة) الذي اكتشف في العام 2013 وهو الذي يتثمل ببضعة تحورات شكلية في الجينات وجد أن لها اقتران احصائي كبير مع من يقضون فترة أطول في الدراسة دون ان يتركوا المدرسة. كان هذا موجوداً في شبه الجزيرة العربية. ويعتقد أن هذا العامل يخضع للتحديد عبر شروط معينة تحكم على تفعيله أو عدم تفعيله.

كما وجد مثلاً لدى العينة المأخوذة من الامارات حدوث انتقاء زاد من الإصابة بالسكري من النوع الثاني وبتراكم الدهون منخفضة الكثافة (LDL) ويقول الباحثون أن هذا يتطابق مع واقع الإصابة بالسكري في الامارات اليوم التي تعد من أعلى الدول من حيث معدلات الإصابة بالسكري من النوع الثاني.

ويذكر الباحثون أنه لم يتم العثور على أي انتقاء لصفات حول حروق الشمس، لون الشعر، الطول، لون الجلد، مؤشر كتلة الجسم، أو القدرة على اسمرار البشرة.

الدراسة:

Almarri, Mohamed A., et al. “The genomic history of the Middle East.” Cell (2021).

 

[1] Petraglia, Michael D., et al. “Human responses to climate and ecosystem change in ancient Arabia.” Proceedings of the National Academy of Sciences 117.15 (2020): 8263-8270.