تعتبر الخلقية جانباً من العلوم الزائفة التي تحاول تفسير وجود الإنسان والتنوع الأحيائي بالأعتماد على الإيمان بوجود خالق مباشر للكائنات الحية وتعتمد على الإيمان فحسب. وتقف الخلقية موقفاً معارضاً مواجهاً لنظرية التطور. فأغلب النقاشات التي تحاول زعزعة نظرية التطور يكون خلفها مؤيدين للخلقية دون أن يكون للخلقية ذلك التوجه العلمي الخاص بها كما لا تمتلك أي أبحاث أو نظريات داعمة. في هذا المقال سوف نشرح ماهية “الخلقية” وكيفية التفريق بين المنهج العلمي الذي انشئ نظرية التطور والمنهج الديني الذي أنشئ لنا الخلقية، وكذلك سوف نتطرق للجدل الديني حول التطور والخلق ومن بعد ذلك سوف نناقش دلالات الخلقيين، حيث نتطرق لأبرز المغالطات التي يقع فيها الخلقيين عند الاعتراض على التطور حيث لا يفرقون بين النشوء والتطور، وادعاءات الخلقيين الأخرى ضد التطور.
التعريف بالخلقية
الخلقية هي الإيمان بأن الأرض والكون والانسان وباقي الكائنات قد خلقت من قبل إله، ويكون ذلك جزءاً الإيمان المعروف بكونه توجهاً فكرياً شخصياً للكثير من البشر.
غير أن ظهور الخلقية مع زعمها واتخاذها صفة علمية غير الصفة الدينية لها لم يبزغ إلا مع صعود نظرية التطور للعالم تشارلز داروين في القرن الثامن عشر، وكان من يدعو ضد نظرية التطور ويبشر بقصة الخلق الموجودة في الكتاب المقدس يُعرفون ب”دعاة الخلق” ومن ثم أطلق عليها داروين في مراسلاته مع أصدقاءه ب”الخلقية”.
مع مرور الوقت أصبح المصطلح شائعاً بين المعادين للتطور. فالخلقيين يعتبرون الخلقية تعبير على رفض نظرية التطور والأعتراض عليها وعلى الأجماع العلمي على صحتها، وكذلك الأجماع العلمي على الأصل الجيولوجي للأرض، وتشكل النظام الشمسي، لانها تتعارض مع قصص تاريخية أو دينية.
واليوم تكونت طائفة من الخلقيين ممن يحاولون التقريب بين الخلق والتطور للوصول لصيغة وسطية بين النتائج العلمية وما مذكور في الكتب المقدسة التي يؤمنون بها، وهي محاولة تأتي بعد محاولات فاشلة وادعاءات غير دقيقة ضد نظرية التطور.
منهج العلم ومنهج الدين
هنالك فرق شاسع بين العلم والدين، من ناحية المنهج والأسس. فالعلم مبني على الشك، بينما الدين مبني على اليقين. واليقين المطلق الموجود في الدين وما له من قيمة عالية وألزامية يجعل من الصعب التحقق من ادعاءات المنهج الديني. كما لا يُمكن أن تكون منتمياً لمعظم الأديان وأنت تُشكك بها ولا تحمل درجة رفيعة من اليقين. وهذا عكس ما يتطلبه المنهج العلمي، حيث ان أي نظرية او فرضية يجب ان تمتاز بقابلية التخطئة أي أن تكون إمكانية التحقق منها ممكنة.
هنالك الكثيريين ممن يحاولون المزج بين المنهج العلمي والمنهج الديني، وهم بذلك يحاولون الجمع بين متناقضين؛ لان الأيمان بالمنهج الديني يتعارض مع الشك الموجود في المنهج العلمي، وهم بذلك يضرون المنهجين معاً. فمن الصعب أن تشك ببعض معتقدات دين ما وتبقى من اتباعه، وكذلك من غير المقبول ان تقبل فرضيات غير قابلة للأختبار او التخطئة وتقول أنها علمية.
ومن الأسس التي يختلف فيها المنهج العلمي عن المنهج الديني غير اليقين الموجود في المنهج الديني والغير موجود في المنهج العلمي هي ان ادعاءات المنهج الديني جامدة وغير متجددة. وكذلك غالبا ما يلجئ اتباع المنهج الديني الى أحداث غير مثبتة وروايات من اشخاص يكاد يكون التحقق منها مستحيلاً كدليل على تلك الحوادث، وهذا غير مقبول في الأوساط العلمية. ويتبع ذلك عدم وجود تجارب وإثباتات وبراهين او اي أثبات علمي في المنهج الديني. كما ان المنهج الديني لا يقبل النتائج التي تخالف المعتقدات التي يؤمن بها.
الانقسام الديني حول التطور والخلق
بما ان المنهج الديني يعتمد فقط على وجوب الإيمان والتصديق بنصوصه وقدسيتها، فاختلاف تفسير هذه النصوص جعل المؤمنين بالأديان ينقسمون الى عدة أقسام، كل قسم يتبنى تفسير مختلف عن القسم الآخر. وكذلك الحال في ما يخص نظرية التطور والخلقية، فمن المؤمنين بالأديان ممن يؤمنون بالتطور ومنهم من يؤمن بالخلقية، كما ان هنالك فرقة ثالثة أشرنا اليها سابقاً تحاول التوفيق بين بين التطور والخلق.
حتى أن هناك من المؤمنين بالخلقية ممن يعترف بأنه على استعداد للأيمان بالتطور بشرط ثبوتها (وهنا يسعى المتكلم الى المماطلة، فقد ثبتت نظرية التطور واصبحت حقيقة).
كما يستغل بعض الخلقيين طوعية النص الديني وإمكانية تسويغه نحو فكرة معين لكي يجعلوا أن التطور جزء من النصوص الدينية وهو إتجاه لن يختلف عما أسلفنا بذكره من وقوع الضرر على منهجي العلم والدين حين محاولة خلطهما سوية.
مناقشة دلائل الخلقيين
هنالك محاولات عديدة يقوم بها الخلقيون للتشكيك في نظرية التطور، او تدعيم الخلقية. وجميع هذه الحجج تنم عن سوء فهم نظرية التطور او تكون خادعة لكل شخص غير مثقف علمياً لما فيها من أكاذيب. سوف نتطرق لأبرز دلائل الخلقيين وأكثر الحجج انتشارا ومن ثم نناقشها وفق مبادئ نظرية التطور والعلوم.
- يقول الخلقييون ان التطور ليس سوى نظرية.
وهذه الحجة مصدرها الجهل في المصطلحات العلمية، فالنظرية هي ما يقع في منتصف التسلسل الهرمي بين الفرضية والقانون. كما ان مصطلح “نظرية” وفق الأكاديمية الوطنية للعلوم (National Academy of Sciences) يعتبر “شرح بدليل جيد لأحد جوانب العلوم، حيث يمكن ان تتضمن حقائق وقوانين واستدلالات، وكذلك اختبارات رياضية”. فمصطلح “نظرية” لا يعتبر اساءة للتطور بل هو المكان الصحيح لكل تلك النظريات التي نعيش في ظل شروحاتها للعالم اليوم كالنظرية الخلوية والنظرية الذرية ونظرية الكم والنسبية العامة والخاصة ونظريات نيوتن المختلفة. - الانتقاء الطبيعي ذو منطق دائري ومطاط، حيث ان الأصلح يبقى، ومن يبقى هو الأصلح.
مصطلح “البقاء للأصلح” هو تعبير لوصف الانتقاء الطبيعي لغير المختصين، ولوصفه وصفا فنياً يتطلب شروح مطولة من معدلات البقاء والتكاثر. فالتعبير او المصطلح الأكثر رصانة هو “القدرة على التكيف”، حيث كل ما زادت قابلية الفرد للتكيف اعتبر اكثر صلاحية للبقاء. - التطور غير علمي، لانه غير قابل للأختبار.
هنا لا يفرق الخلقيين بين التطورات قصيرة المدى والبسيطة وبين التطورات طويلة المدى والمعقدة. حيث ان تراكم التطورات قصيرة المدى تؤدي الى تطورات بعيدة المدى. وقد تم أختبار التطورات قصيرة المدى في المختبر (كما هو الحال في الدراسات التي أجريت على النباتات وذبابة الفاكهة). وبالأضافة الى ذلك هنالك الكثير من الأدلة الغير مباشرة التي تؤيد حدوث التغيرات طويلة المدى مثل الأحافير. - يزداد الشك في التطور في الأوساط العلمية.
لا يوجد أي دليل على نقص التأيد العلمي لنظرية التطور في الأوساط العلمية. بل على العكس من ذلك تحظى نظرية التطور بالتأييد المتزايد مع مرور الوقت بين العلماء. والكثير منهم يعتبرونها حقيقة علمية، على عكس الخلقية التي لا تؤخذ على محمل الجد في المجتمع العلمي. - هنالك اختلافات كثيرة تظهر بين علماء البيولوجيا التطورية، مما يدل على ان نظرية التطور لا تقف على أرضية صلبة.
علماء البيولوجيا يناقشون الكثير من الأمور التي لم الكشف عنها بعد، مثل معدلات التغير التطوري وكذلك العلاقة بين الديناصورات والطيور. وهذا يدل على ان النظرية تعتبر حدثاً واقعيا بالنسبة للعلماء.
وكما ان هذه الحجة نابعة من تحريف واقتطاع كلام العلماء، كما ان بعضهم يفسره بغير مقصده الحقيقي. فالخلقييون يستخدمون بعض الوسائل اللاخلاقية في محاولة هدم التطور، والترويج لمعتقداتهم الشخصية، او حتى فرضها على الآخرين. - اذا انحدر الإنسان من القرد، لماذا لا تزال القرود موجودة؟
سؤال يردده الكثيرون، وهم لا يعلمون ان نظرية التطور لا تقول ان الإنسان قد أنحدر من القرود، او القرود قد انحدرت من الإنسان، بل تقول أن الإنسان والقرود أنحدرا من سلف مشترك، وللتقريب يعتبر الإنسان والقرد أولاد عم.
والسؤال بشكل عام يعتبر خاطئ، لانه كمن يسأل “اذا انحدر الأطفال من آباءهم، لماذا لايزال الآباء موجودين؟”. - حسب القانون الثاني للديناميكا الحرارية، انه يجب ان تصبح الأنظمة أكثر أختلالا مع مرور الوقت، وهذا مناقض لما تفترضة نظرية التطور.
هذه الحجة ايضا نابعة من سوء فهم للقانون الثاني، ولو كانت حجتهم صحيحة لما تكونت بلورات ثلج منتظمة بدقة عالية نتيجة الأضطرابات الجوية. فالقانون الثاني للديناميكا الحرارية يطبق في الأنظمة المغلقة، والنظام البيولوجي في الأرض هو نظام مفتوح، حيث يستقبل الطاقة من الشمس ومن الفضاء المحيط به. - الطفرات ممكن ان تمحي صفات موجودة، لكن لا يمكن ان تنتج صفات جديدة في الكائنات.
هذا غير صحيح ايضاً، فالتغيرات البسيطة في الحمض النووي لأي كائن حي يمكن ان يولد صفات جديدة مكتسبة، مثلاً مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، وكذلك يمكن ان تستبدل ذبابة الفاكهة قرني الأستشعار بأقدام غير وظيفية. وهنالك الكثير من الأمثلة تفند هذه الحجة. - الانتقاء الطبيعي يمكن ان يفسر التطورات البسيطة وقصيرة المدى، لكن لا يمكن ان يفسر التغيرات المعقدة وطويلة المدى.
وهذه الحجة ناتجة من قصر فهم لنظرية التطور، فالتغيرات البسيطة تنتج تغيرات معقدة بمرور الزمن. وخير مثال على ذلك هو نموذج وضعه إرنست ماير (Ernst Mayr) من جامعة هارفارد، يدعى هذا النموذج ب(allopatry)، حيث قام بقسم مجموعة من الكائنات الحية الى قسمين، وقام بتسليط ضغوط انتخابية “انتقائية” مختلفة على أحدها. فتراكمت التغيرات في المجموعة الموضوعة تحت الضغوط الأنتخابية، مما نتج عنها كائنات تختلف عن المجموعة الأصلية. وهذا دليل تجريبي يدحض هذه الحجة. - ان الكائنات الحية معقدة على المستوى التشريحي والخلوي بشكل لا يمكن ان ينتج عن طريقة الصدفة، فلابد من انها مصصمة من قبل قوة ذكية وواعية.
تعتبر هذه الحجة من أقدم الحجج الموجهة ضد نظرية التطور، وأبرز مثال لديهم هو العين. حيث يعتبر الخلقيون ان العين بما فيها من تعقيد لا يمكن ان تنتج عن طريق التغيرات الأنتقالية. وردنا عليهم هو ان وجود عيون بدائية في جميع الكائنات دليل على ان العين ومستشعارات الضوء مراحل أولية لتكون العين، فالعين مرت بالعديد من المراحل والتغيرات الى أن وصلت بهذا التعقيد الموجود عند الكائنات العليا.
ومن نفس الحجة لكن بصياغة مختلفة أطلق الخلقي مايكل بيهي (Michael J. Behe) تحدي لنظرية التطور، حيث ضرب مثال على مصيدة الفئران التي لا تعمل بغياب جزء واحد فيها، وفي الأحياء السوط البكتيري. السوط البكتيري هو تركيب بروتيني موجود في نهاية أحد انواع البكتيريا وظيفته دفع البكتيريا الى الأمام. فيقول بيهي ان السوط البكتيري لا يمكن ان ينشأ الا بهندسة من قبل كائن بالغ الذكاء. بينما يرد علماء الأحياء بأنه في البدء هنالك تراكيب بدائية للسوط البكتيري موجود في كائنات أخرى، وهذه التراكيب اقل تعقيد من السوط، وتمثل مراحل بدائية له.
هذا أبرز ما ينادي به الخلقيون ضد نظرية التطور، وهنالك مغالطة يحتج بها الخلقييون سوف نتكلم عنها بشكل منفصل لكثرة أستخدامها واهميتها، الا وهي “نظرية التطور تفسر التنوع الكائنات، لكن لا يمكن ان يفسر الكيفية التي ظهرت بها الحياة على الأرض”.
مغالطة المزج بين النشوء والتطور
خصصنا هذا الجزء فقط للكلام عن مغالطة عدم التفريق بين النشوء والتطور، لكون هذه المغالطة تمثل العمود الفقري للكثير من الحجج التي يصدح بها الخلقيون. والحجة القائلة بأن “التطور لا يفسر كيف ظهرت الحياة الأولى على الأرض” وغيرها من الحجج التي تدخل معها في الخانة النشوء يمكن الأجابة عنها في هذه الفقرة.
يقصد الخلقيون من هذه الحجة هو ان التطور لا يفسر أصل الحياة، وكل ما يفسره هو التنوع الأحيائي للكائنات الحية، فلغز أصل الحياة ما زال مجهول.
الخطأ نابع من سوء فهم لنظرية التطور، فالتطور لا يهتم بتكوين الحياة، وتكوين وأصل الحياة من ضمن علم الكيمياء الحيوية. ويعمل هذا القسم من علم الكيمياء على فك طلاسم أصل الحياة. وقد أستطاع العلماء مختبريا معرفة الكيفية التي يتشكل فيها بعض البروتينات والأحماض الامينية. لكن الضروف الأولى للأرض لا احد يستطيع معرفتها، لذلك يرجح الآن وبشكل كبير خصوصا بضوء الأكتشافات الحديثة التي حصلت في الفضاء هو ان المركبات الأولى قد تكونت وطبخت في الفضاء الخارجي ومن ثم دخلت الى الأرض عبر النيازك التي تقصفها بأستمرار في تلك المرحلة.
وبعد نشوء الحياة الأولية على الأرض بدأت تتطور حسب مفاهيم نظرية التطور، فنظرية التطور لا تهتم بأصل الحياة، وهذا ليس من ضمن أختصاصها، بل هو من ضمن أختصاص الكيمياء الحيوية.
وتستمر مغالطات وخدع الخلقيين بناء على المغالطة الأولى، ففي كل مرة يخرجون لنا بشيء جديد فيه من سوء الفهم والخداع الشيء الكثير. أغلبهم لا يتعب نفسه في دراسة نظرية التطور بجدية وتمعن.
يقول الخلقيين ان نشوء الحياة، وان كان ليس من أختصاص نظرية التطور، فإن التراكيب المعقدة مثل خلية الانسان المتخصصة من المستحيل رياضياً ان تتكون عن طريق الصدفة.
في التطور لا يكون عامل الزمن ثابت في تكوين صفات جديدة، بل هنالك العديد من الضغوط الأنتخابية التي تسرع تكوين الصفات. كما ان التغيرات العشوائية تنتج صفات جديدة بشكل سريع جداً.
ويقول الخلقيون انك لو وضعت قرداً اما الآلة الكاتبة مليون سنة لن يكتب لك جملة مفيدة، وهنا تقع المغالطة، فالتطور تراكمي وليس عشوائي. الصفات الجيدة سوف تبقى وتضاف اليها صفات أخرى، وليس الصفات الجيدة والسيئة يتم الاحتفاظ بها في جسم الكائن. وقد تم تصميم برنامج من قبل ريتشارد هارديسون (Richard Hardison) من كلية غليندال في سنة 1980 مبني على أسس نظرية التطور مهمته أيجاد عبارات من تكرارات متراكمة، وقد أستطاع اعادة مسرحية شكسبير (هاملت) خلال اربعة أيام ونصف.
المصادر:
https://en.wikipedia.org/wiki/Creationism
http://www.scientificamerican.com/article/15-answers-to-creationist/
http://www.aljazeera.net/programs/religionandlife/2009/2/25/%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%82-%D9%88%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1