ربما كنت جالس إلى طاولة قمار وتتطلع لمعرفة ما إذا كان خصمك يتحايل، فالقليل من الفطنة قد تساوي آلاف الدولارات، أو ربما تكون شرطي في غرفة استجواب تراقب المشتبه به بحثًا عن إشارات تنفي جرمه، أو قد تكون عميلًا في إدارة أمن النقل في المطار، تشاهد الناس يمرون وتبحث عن سلوكيات صغيرة محددة تكشف أن هذا الشخص على وشك القيام بشيء خادع. أياً كان الأمر، فجميعها تعتمد على إتقان الحرفة ذاتها، وهي مراقبة لغة الجسد والتي ستفضح السلوك الخادع. تستخدم لغة الجسد في القانون والأمن وحتى في المبيعات، كما يتم تدريسها في المدارس التجارية، لذلك ربما حان الوقت لإلقاء نظرة سريعة لمعرفة ما إذا كان العلم وراء ذلك صحيحًا، من خلال إجراء اختبارات، وهل تلك التقنيات المدهشة لا تتعدى أن تكون محض صدفة لمعرفة ما إذا كان شخص ما يكذب أم لا؟

يعتقد الكثير من الناس أن لغة الجسد صحيحة، وقد تم استثمار أموال طائلة بناءً على هذه الفكرة، على سبيل المثال إدارة أمن النقل (TSA)[1] في الولايات المتحدة، ففي عام 2007 نشرت إدارة أمن النقل برنامجًا يدعى (SPOT) والذي يرمز إلى “فحص الركاب عن طريق تقنيات المراقبة” (تم تغيير اسمه منذ ذلك الحين إلى BDA اختصار لـ “الكشف عن السلوك وتحليله”) ودربت إدارة أمن النقل الآلاف من موظفي الكشف عن السلوك بتكلفة قدرها حوالي 900 مليون دولار اعتبارًا من العام 2015. يتضمن النظام قائمة مرجعية تتكون من 92 نقطة تستند إلى حد كبير بالسلوكيات المرتبطة على نحو نمطي بالكذب والخداع: كتفادي التواصل البصري، التململ، لمس وجوههم، التنفس بسرعة، زيادة معدل رمش العين وما إلى ذلك، أي ما يعني في الأساس كل ما سبق أن سمعت عنه من سمات الكاذبين.

كان سجل برنامج SPOT سيئًا للغاية، فبحسب الإحصائيات التي قامت بنشرها إدارة أمن النقل وعلى مدى ثلاثة سنوات، أدى الكشف عن السلوك إلى إرسال حوالي ربع مليون شخص للفحص الثانوي، وكان جميعهم تقريباً لا يخططون لأي شيء، وتم إلقاء القبض على حوالي 4/3 في المئة فقط وكلها تقريبًا بتهم غير ذات صلة تمامًا، كأوامر التوقيف المعلقة ولم يتم ربط أي شخص بالإرهاب.

لذلك في العام 2010 قرر مكتب المسائلة الحكومية أن إدارة أمن النقل قد نشرت SPOT دون التحقق أولًا من أساسها العلمي، وامضوا العامين التاليين في تحليل البيانات من SPOT ثم في عام 2013 قدموا تقريرهم بعنوان (على إدارة أمن النقل أن تحد من التمويل المستقبلي لأنشطة اكتشاف السلوك) لكن لم تتفق وزارة الأمن الداخلي (الوكالة الأم لإدارة أمن النقل) مع التقرير مدعية أن مكتب المسائلة الحكومية لم ينظر في جميع الأبحاث المتاحة، وأن البحث الذي تم اعتماده كان يفتقر إلى الصلاحية وقد كانت حالة كلاسيكية من الشجار حول أي مقال قام الأقران بمراجعته هو الأفضل، لذا لم يحدث أي شيء، ويستمر البرنامج إلى يومنا هذا تحت مسمى BDA.

إذن، أي المقالات التي تمت مراجعتها كانت الأفضل؟ للإجابة عن ذلك، علينا النظر إلى الصورة الأعم، ففي الوقت الذي اتخذ فيه مكتب المسائلة الحكومية قراره، كان هناك فعلًا عمل متين بخصوص ذلك الموضوع، يتضمن اثنان من المنشورات الأكثر استشهادًا منهم كتاب علم النفس الأكاديمي اكتشاف الأكاذيب والخداع: علم نفس الكذب والتضمين للممارسة المهنية للكاتب ألديرت فريج[2] الذي يذكر فيه أكثر من 1000 دراسة بحثية، حيث وجد فريج أنه لا توجد إشارة واحدة غير لفظية موثوقة للأكاذيب والخداع.

والآخر كان تحليلاً تلويًا[3] نُشر في مجلة Personality and Social Psychology Review)) بعنوان “دقة أحكام الخداع” بقلم تشارلز بوند وبيلا ديباولو، الذين نظروا إلى 206 دراسة شملت أكثر من 24000 شخص ووجدوا أنه من دون التدريب اللازم، ليس بإمكانك تمييز الأشخاص المخادعين الكاذبين عن الأشخاص الصادقين غير المخادعين إلا بمحض الصدفة. بشكل عام، حدد الناس الأكاذيب بشكل صحيح بنسبة 47% فقط، بينما حددوا الحقيقة بنسبة 61%. فضلاً عن ذلك، أظهرت البيانات أن المهنيين الذين من المفترض أنهم مدربون مثل محققي الشرطة والأطباء النفسيين وأخصائيي التوظيف وضباط الكشف عن السلوك في إدارة أمن النقل، لا يسجلون نقاط أعلى من الأشخاص العاديين غير المدربين.

كما أسس أحد هؤلاء المؤلفين (تشارلز بوند) فريق أبحاث الخداع العالمي المكون من 91 عالم نفس أكاديمي من 58 دولة مختلفة، ثم أجرى كل منهم دراسة استقصائية لعددٍ متساو من الذكور والإناث، وسألهم جميعًا (بلغتهم الأم) ما هي الإشارات التي تتيح لك معرفة ما إذا كان شخصٌ ما يكذب، عندها قدم 2320 مستجيبًا 11157 ردًا، ثم قام المبرمجون بتلخيصها إلى 103 معتقدات مميزة، وكانت الإجابة المشتركة بين ثلثي المستجيبين هي تجنب النظر إلى المرء، كما كانت جميع الأجابات الأخرى أقل شيوعًا بهذا الترتيب:

  • الارتباك
  • عدم الاتساق
  • حركة الجسم
  • تعابير الوجه
  • التناقض
  • سرعة فائقة في الكلام
  • تغير لون الوجه
  • فترات الصمت
  • حركات الذراع واليد والأصابع
  • التغيرات في معدل سرعة الكلام
  • أصوات مثل التنهدات
  • من الضرورة التعرف إلى الشخص أولًا
  • نبرة الصوت
  • حركات العين
  • التعرق
  • العبث بالشعر أو الملابس والأشياء
  • تغيرات غير محددة في السلوك
  • الحجج والمنطق الضعيف

لذلك، يمكن القول أن هذه هي أكثر الاعتقادات أو الإشارات على أن شخص ما يكذب أو يخادع، والتي يظهر معظمها في قائمة المرجعية SPOT لإدارة أمن النقل. ووفقًا لتلك الدراسات والتي تزيد عن 200، فإنه لا توجد دراسة واحدة صحيحة وفي الكثير من الأحيان تكون مجرد صدفة، كما لو كنت تقوم بقلب عملة معدنية لمعرفة ما إذا كان الشخص إرهابيًا في المطار أو مشتبه به يكذب في غرفة الاستجواب.

لكن لو شاهدت البرامج التلفزيونية القديمة، فقد تكون لديك فكرة مختلفة. على سبيل المثال، كان هناك برنامج تلفزيوني عرض في 2009-2011 بعنوان اكذب عليّ (Lie to Me) حول خبير يدعى تيم روث، والذي يقوم بحل الألغاز من أجل هيئة تطبيق القانون وعملاء آخرين من خلال قراءة لغة الجسد وتعبيرات الوجه الدقيقة التي تحدث خلال جزء من الثانية و يطلق عليها تسمية التعبيرات الدقيقة (microexpressions) تستند إلى العمل الذي قام به الباحث النفسي المثير للجدل (بول إيكمان) الذي شارك في السبعينيات في إنشاء نظام أسماه نظام ترميز حركة الوجه والذي يعتبر التعبيرات الدقيقة مؤشرات للخداع. كان العمل الذي قام به إيكمان أيضًا دعامة رئيسية لبرنامج SPOT التابع لـ إدارة أمن النقل، وبالتالي فقد واجه الكثير من الانتقادات ذاتها: كالافتقار إلى النسخ التجريبي. وفي مواجهة هذا الرفض من قبل أقرانه في علم النفس، توقف إيكمان عن تقديم أعماله للنشر في المجلات العلمية منذ سنوات مُدعيًا أن هناك مخاوف تتعلق بالأمن القومي.

هل تتذكر تلك الإحصائيات التي ذكرناها سابقًا حول برنامج SPOT؟ (يتم إحتجاز ربع مليون شخص، يعتقل منهم أقل من 1% لأسباب أخرى لا تمت بصلة للإرهاب) إليك كيف صاغ إيكمان ذلك في مقال لصحيفة واشنطن بوست:

“تظهر النتائج الأولية أن العدد الهائل من أولئك الذين تم سحبهم واحتجازهم للقيام بالمزيد من التحقيق كانوا يعتزمون أو ارتكبوا نوعًا من المخالفات: كانوا مجرمين مطلوبين ومهربي مخدرات ومهربي أموال ومهاجرين غير شرعيين، وأيضًا كان القليل منهم إرهابيين مشتبه بهم”

ما لا يثير الدهشة أن موقع إيكمان (Paul Ekman Group) يبيع جميع أنواع البرامج والدورات التدريبية وحتى أن هناك قسيمة خصم بنسبة 15% في الجزء العلوي من الصفحة.

لقد قام إيكمان بالكثير من الأعمال الجيدة فيما يخص مجال علم النفس، لكن عمله الهائل في اكتشاف الخداع هو ما جعله يبرز، وعلى الرغم من النقد الأكاديمي الذي تلقاه، فقد تبنته الثقافة الشعبية، كما لم يكن المسلسل التلفزيوني اكذب عليّ (Lie to Me) وبرنامج SPOT البرنامجان الوحيدان، فقد استعان به استوديو الرسوم المتحركة بيكسار (Pixar) كمستشار في فيلم انسايد اوت (Inside out). وقامت قناة بي بي سي بصنع سلسلة استضافها جون كليز بعنوان (The Human Face) والتي روجت لمزاعمه. وقد نشر حوالي 15 كتابًا في السوق مع كبار الناشرين مما يضمن أن منظوره الهامشي حول التعبيرات الدقيقة كمؤشرات للخداع سيظل هو المنظور المهيمن للعقود القادمة.

أثار إيكمان وغيره من مؤيدي اكتشاف الكذب القائم على السلوك بعض الدفاعات المثيرة للإهتمام، أحد هذه الإشارات هو أن كل هذا البحث والذي يتم إجراؤه في الغالب في الجامعات، يتم فيها اعتماد الطلاب الجامعيين كمواد اختبار. من ناحية أخرى، فإن المهنيين المدربين مثل الشرطة أكثر خبرة في اكتشاف الخداع، كما يزعمون أنه في مثل هذه التجارب، يُطلب من الطالب الكذب بشأن شيء تافه مثل لون عينيه أو أشياء أخرى غير ذات أهمية، بينما في العالم الحقيقي، قد يكون الكاذبون يخفون جريمة قتل أو جرائم أخرى يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة وبالتالي فإنهم يتفاعلون بإشارات أكثر وضوحًا.

مع ذلك، فأن تلك الدفاعات في الحقيقة مقنعة فقط للعامة ووسائل الإعلام، فلطالما كان باحثو علم النفس على دراية جيدة بمثل هذه المشكلات وسيطروا عليها. على سبيل المثال، قامت إحدى الدراسات في عام 2019 والمنشورة في مجلة علم النفس الاستقصائي وتحليل شخصية المجرمين بتدريب الأشخاص باستخدام أداة تدريب إيكمان الخاصة METT (أداة تدريب التعبيرات الدقيقة) وهي معروضة للبيع على موقعه على الإنترنت. وشاهدوا مقاطع فيديو لأشخاص إما يكذبون أو يقولون الحقيقة في بيئات حقيقية عالية المخاطر ومنخفضة المخاطر. وقد كان إداء الجميع أسوأ مما كان قبل التدريب على METT، وعلى نقيض الادعاءات المقدمة على موقع إيكمان خلص المؤلفان إلى ما يلي:

“لا تدعم النتائج التي توصلنا إليها استخدام METT كأداة للكشف عن الكذب، فلم يحسن METT الدقة أكثر في بروتوكول التدريب المزيف أو حتى من دون تدريب على الإطلاق، كما لم يحسن METT الدقة بما يتجاوز المستوى المرتبط بالتخمين”

في 2020، نُشر مقال رأي في (Frontiers in Psychology) من قبل اثنان من باحثي علم النفس الذين كانوا يبحثون في هذا الأمر منذ سنوات وقد سئموا من مدى دقة الأدلة التي تدحض هذه الفكرة في العقود الاخيرة، ومع ذلك لا تزال تستخدم ويؤمن بها الجميع في أنحاء العالم، وأشاروا إلى أنه في عام 2016 فقط، تم نشر ما لا يقل عن 206 ورقة علمية توصلت إلى نفس الاكتشاف القديم، وخلصوا إلى ما يلي:

“هل المسار العقلاني هو أن يتم إيقاف الأبحاث المتعلقة ببساطة؟ لدينا الآن أدلة كافية على عدم وجود إشارات سلوكية غير لفظية محددة مصاحبة لسلوك الكاذب أو المخادع، ويمكننا أن نوصي بشكل آمن بأن تتجاهل المحاكم مثل هذه الإشارات السلوكية عند تقييم مصداقية الضحايا والشهود والجناة المشتبه بهم، وبالنسبة لباحث علم النفس والقانون، فقد حان الوقت للمضي قدمًا”

لذا ربما سنترك نحن أيضًا الموضوع عند هذا الحد، وحان الوقت للمضي قدمًا. قد يكون للكشف عن الخداع عن طريق الإشارات السلوكية سواء كانت لغة الجسد أو التعبيرات الدقيقة موضع في مكان ما، لكن حتى وأن حدث ذلك، فإن الباحثين لم يجدوه بشكل مقنع حتى الآن.

المصدر

Brian Dunning, Can You Tell if I’m Lying? Skeptoid Podcast #836, June 14, 2022

الهوامش:

[1] هي وكالة تابعة لوزارة الأمن الداخلي الأمريكية ولديها سلطة على أمن المسافرين في الولايات المتحدة. تم إنشاؤها كرد فعل على هجمات 11 سبتمبر 2001

[2] Detecting Lies and Deceit: Psychology of Lying and the Implication for Professional Practice by Aldert Vrij.

[3] تحليل في علم الإِحصاء يتضمن تطبيق الطرق الإحصائية على نتائج عدة دراسات قد تكون متوافقة أو متضادة، وذلك من أجِل تعيين توجه أو ميل لتلك النتائج أو لإيجاد علاقة مشتركة ممكنة فيما بينها.

راجعت المقال لغويا ريام عيسى وتم نشره في مجلة العلوم الحقيقية العدد 50  شهري يوليو-اغسطس 2022