لقاء موقع العلوم الحقيقية مع الدكتور سليم زاروبي عالم الفيزياء الفلكية الفلسطيني الرائد في دراسة تطور البنية المعقدة في الكون والمراحل المبكرة من الكون، واحد الرواد والمؤسسين لتلسكوب لوفار (LOFAR) في هولندا. بحثه يتعلق بالسؤال حول كيف انتقلنا من هذا الكون المبكر المتجانس الى هذا الكون المعقد الذي نراه حولنا. وهذا المجال كبير، تخصص في البداية بالمبنى الكبير بالكون بشكل عام ثم في السنوات العشرين الأخيرة انتقل للتساؤل حول  المجرات الأولى والمبنى الأول في الكون الذي تم بعد نصف مليار عام من تكون الكون. تخصصه يكمن في فحص كيفية تكون المجرات الأولى وكيف اثرت على البيئة التي حولها، في الأساس بالتأثير على ما نسميه المادة بين المجرات (Inter-galactic medium) وماذا يحدث لذرة الهيدروجين الموجودة بكثرة في الكون وكيف تتأين..الخ. وقد كان من المبادرين والرواد في هذه طرح هذه الاسئلة والبحث فيها. في عام 2004 بادر مع زميلين من زملاءه الى مشروع كبير مرتبط بالتلسكوب لوفار LOFAR والذي يهدف لفحص هذه المادة – حالة الهيدروجين في الكون المبكر – أي ما حدث له بعد تكون المجرات الأولى، وهذا التلسكوب وأمثاله هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن رؤية الكون بها في هذه الفترة.

رابط المقال والبودكاست على الموقع: https://real-sciences.com/?p=19372

نرحب بالدكتور سليم زاروبي الحاصل على جائزة هولمبولت في ألمانيا مؤخراً، مرحبًا بكم دكتور سليم يسرنا ويسر جمهورنا أن نلتقي بكم، وسؤالنا الأول حول مسيرتكم وأبحاثكم والمجالات التي تهتمون بها.

شكرًا لكم عمر، أنا فلسطيني من مدينة الناصرة وقد نشأت فيها وتعلمت الفيزياء في جامعات إسرائيلية بطبيعة الحال لأنني من فلسطينيي الداخل، حيث درست في جامعة التخنيون ثم في الجامعة العبرية في القدس حيث أنهيت الدكتوراه هناك وتخصصت في علم الكون بالأساس وتحديدًا حول تطور البنية المعقدة في الكون، كيف نشأت وكيف تطورت. تاريخ كوننا محدود، عمره 14 مليار عام، وفي بدايته كان متجانساً تماماً حيث تكون كل نقطة متجانسة تماماً مع النقطة التي بجانبها من حيث الصفات الفيزيائية لكن مع الوقت تطورت المجرات والنجوم والكواكب السيارة. بحثي يتعلق بالسؤال حول كيفية انتقالنا من هذا الكون المبكر المتجانس إلى هذا الكون المعقد الذي نراه حولنا. وهذا المجال كبير، تخصصت بالبداية بالمبنى الكبير بالكون بشكل عام ثم في السنوات العشرين الأخيرة بدأت اسأل عن المجرات الأولى والمبنى الأول في الكون الذي تم بعد نصف مليار عام من تكون الكون. يكمن تخصصي في فحص كيفية تكون المجرات الأولى وكيف أثرت على البيئة التي حولها، في الأساس بالتأثير على ما نسميه المادة بين المجرات (Inter-galactic medium) وماذا يحدث لذرة الهيدروجين الموجودة بكثرة في الكون وكيف تتأين..الخ. هذا هو مجال تخصصي وهو مجال جديد في العالم وقد كنت من المبادرين له. في عام 2004 بادرت مع زميلين لي إلى مشروع كبير مرتبط بالتلسكوب لوفار LOFAR والذي يهدف لفحص هذه المادة – حالة الهيدروجين في الكون المبكر – أي ما حدث له بعد تكون المجرات الأولى، وهذا التلسكوب وأمثاله هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن رؤية الكون بها في هذه الفترة، فهذا فيما يتعلق بتخصصي.

أما الأماكن التي انتقلت فيها وعشت فيها فقد انتقلت بعد الدكتوراه إلى جامعة بيركلي لدراسة ما بعد الدكتوراه وقضيت 3 سنوات هناك. ثم انتقلت لمعهد ماكس بلانك لأبحاث الفضاء في ميونخ حيث قضيت 5 سنوات، ثم انتقلت إلى هولندا لجامعة جرونيجن (Rijksuniversiteit Groningen) عام 2014 وهي ثاني جامعة هولندية بتاريخ الجامعات في هولندا وفيها تخصص كبير في هذا المجال. وقد عدت قبل 6 سنوات إلى البلاد وأنا أعمل بالإضافة إلى جامعة خرونيجن في الجامعة المفتوحة. هذه هي خلاصة مسيرتي العلمية. 

 

مسيرة رائعة دكتور، وفي الحقيقة لنا ولجمهورنا كغير مختصين ذكرتم المصفوفات منخفضة التردد لا ندري إن كنتم تحبون التقديم بالمراحل التي ذكرتموها حول نشأة الكون ثم شرح هذه المصفوفات لنا أم البدء بالاتجاه الآخر بالشرح من المصفوفات ثم التعمق في تفاصيل نشأة الكون. نترك الخيار لكم.

أفضل الكلام عن التأثير الفيزيائي لأفسر ما نريد أن نراه بالتحديد ثم لماذا نريد استخدام المصفوفات منخفضة التردد. 

كما تعلمون فإن الكون يتوسع، هذه هي نظرية الانفجار الكبير، ومنذ ولادته حتى الآن فقد مر بمراحل عديدة، كان كثيفاً جداً وحرارته عالية جداً في البداية. في اللحظات الأولى لتكون الكون كانت حرارته – وسأستخدم الصيغة الرياضية هنا – 10 مرفوعة للأس 35 درجة مئوية أو درجة مطلقة، أي واحد وأمامه 35 صفر، حرارة مذهلة لا تستطيع المادة العادية الصمود بهذه الحرارة. 

كان الكون في بدايته مجرد طاقة، أشعة تتحول إلى جسيمات وجسيمات تتحول إلى أشعة. مثل خليط من الجسيمات الأولية التي تكمن في عمق تكون المادة في الطبيعة. لكن مع الوقت فإن الكون بدأ يبرد وينتشر وتقل كثافته ويقل ضغطه، وخلال هذه العمليات تحدث أمور عدة. بعد 3 دقائق من تكون الكون ظهرت أولى العناصر، في البداية لم يكن هناك عناصر، حيث أن درجة الحرارة عالية لدرجة أن العناصر وحتى أنوية العناصر تتفكك، وحتى أن البروتونات والنيوترونات التي تكون أنوية العناصر تتفكك أيضاً إلى مركباتها الأساسية التي نسميها كواركات وما شابه. لكن بعد دقائق برد الكون بما يكفي لكي يكون أنوية العناصر الأولى. 

من المذهل أن الكون في بداياته لم يحتو على أي من العناصر التي تكوننا وتكون الحياة وكل شيء، بل احتوى على عنصرين فقط.

لا أدري إن كنت تعلم، فإن الكون كان له في الأساس عنصرين، وهما العنصران الموجودان اليوم بكثرة في الطبيعة: الهيدروجين والهيليوم. إذا ما عدنا إلى الجدول الدوري في المدرسة فإن الهيدروجين والهيليوم هما أخف عنصرين في الكون، وفي الحقيقة، من المادة العادية التي تكون الأرض واجسامنا وما نسميه المادة الباريونية فإن الكون يتكون بنسبة 75% هيدروجين و25% هيليوم أما العناصر الأخرى التي يصنع منها كل شيء بما في ذلك نحن، فهذه لم يصنعها الكون ببدايته بل تحتاج إلى عملية أخرى لاحقة، وهو أمر مذهل في الحقيقة أن ما يكوننا لم يكن موجوداً في بداية الكون، بل ما كونها هي النجوم ودورة حياة النجوم لكن هذا موضوع آخر.  هذا هو مثال على التغير الكبير في مراحل نشأة الكون. هذه أيضاً المرحلة التي تتحرر بها الأشعة الميكرونية الكونية التي نرصدها بشكل روتيني اليوم. 

بعد 400أالف عام صار الكون شفافاً، أما قبلها فيمكن تشبيهه بالغمامة، يشبه الأمر عندما تمر الطائرة وسط غيمة.

بعد 400 ألف عام من الانفجار الكبير، كون الكون الذرات المتعادلة الأولى والتي لم تكن موجودة قبل ذلك، فذرات الهيدروجين الذي تكلمنا عنه في الدقائق الأولى من الكون كانت متأينة، البروتونات والإلكترونات التي تصنع ذرة الهيدروجين كانت منفصلة عن بعضها. بمرحلة ما، يندمجان بعد 400 ألف عام من الانفجار الكبير ويسبب هذا أن الكون يصبح شفافاً، قبلها كان الكون غير شفاف بل كان يشبه غمامة، يشبه الأمر عندما تكون بطائرة وتمر الطائرة في غيمة وخصوصاً في الليل، هكذا كان الكون حتى وصلنا إلى مرحلة الـ 400 ألف عام وتحول الهيدروجين إلى هيدروجين متعادل. 

ما يميز فترة الـ 400 ألف عام هو عدم حدوث الكثير من الأحداث بالمقارنة مع الفترة السابقة: أصبح الكون بارداً نسبياً مقارنة بالفترة السابقة، فقد أصبحت الحرارة 3000 درجة مئوية أي أقل من حرارة سطح الشمس والتي تبلغ 6000 درجة مئوية. إذن برد الكون كفاية، لكن لم يكن به شيء آخر كالمجرات والنجوم وكان مستمراً بالانتشار والتوسع وهكذا يستمر الوضع حتى نصف مليار عام من فترة تكون الكون وتسمى هذه الفترة بالمصطلحات التقنية بالعصور المظلمة للكون لعدم وجود مصادر ضوء في هذه الفترة. يبرد الكون، يتمدد، بهيدروجين وهيليوم متعادلان دون مجرات أو نجوم أو أي شيء آخر.

صورة لمجموعة محطات من محطات مصفوفة لوفار في هولندا من الأعلى

صورة لمجموعة محطات من محطات مصفوفة لوفار في هولندا من الأعلى

بعد نصف مليار عام تبدأ المجرات الأولى بالتكون، وهذه المجرات والنجوم لها صفة خاصة هو أنها تصدر الأشعة فوق البنفسجية، وهذه الاشعة فوق البنفسجية تؤين الهيدروجين، وتمتد هذه الحقبة من نصف مليار عام إلى مليار عام من عمر الكون. وبعد هذه المرحلة يرجع كل الكون إلى مرحلة التأين، فكوننا اليوم متأين منذ تلك الفترة وحتى الآن.

 

اسمح لي بالمقاطعة دكتور، كم عمر الكون الآن؟ لا شك أن هذا ذُكر كثيراً وذكرتموه لكن فقط لنوضحه للجمهور

عمر الكون 14 مليار عام تقريباً. 13.8 مليار عام. ابتدأت المرحلة التي نتكلم عنها بعد تقريباً 400 ألف عام من تكون الكون ثم مرحلة أن الهيدروجين يتحول إلى هيدروجين متعادل ثم بعد نصف مليار عام بدأت المجرات الأولى والنجوم الأولى بالتكون، ثم ابتدأت هذه النجوم والمجرات بتأيين الغاز من حولها، ثم بعد مليار عام أصبح كل الكون متأين واستمر ذلك حتى الآن. ما نبحثه هو تلك الفترة من 400 ألف عام بعد الانفجار الكبير حتى مليار عام بعد الانفجار الكبير.

 

واضح دكتور، لكن أي من الفترين هي التي يشار لها على أنها فترة عودة التأين؟

تكون هذه الفترة من الكون من 400 ألف حتى مليار عام تقسم عادة إلى 3 أقسام، الأول هو العصور المظلمة للكون، الثاني هو فترة نشوء المجرات الأولى والنجوم الأولى وتسمى فجر الكون (Cosmic dawn) والفترة الأخيرة التي صارت فيها الكثير من المجرات الأولى، وابتدأت بتأيين الكون بشكل مكثف تسمى فترة عودة التأين. ونحن ندرس المراحل الثلاث لكن في الأساس أنا أدرس المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التأين الجديد للكون، لكن هذه المراحل في الحقيقة مرتبطة من 400 ألف عام من الانفجار الكبير حتى مليار عام. تحدث حقبة عودة التأين تحديداً بين 600 أو 700 ألف عام إلى مليار عام.

 

كيف ندرس مثل هذه المراحل؟

كما ذكرنا فإنه لا يوجد شيء لرؤيته من تلك المراحل بالتلسكوبات كما هو الحال عادة. أفضل ما يمكن رصده لفهم وضع الكون في تلك المرحلة هو أشعة تصدر من الهيدروجين المتعادل. حيث تصدر هذه الأشعة عندما يتعادل الهيدروجين وتسمى بأشعة ذرة الهيدروجين وطول موجتها هو تقريبًا 21 سنتمتر، أقصر من مسطرة اعتيادية التي تصل عادة إلى 30 سنتمتر. لكن عندما تصدر هذه الأشعة فإنها تصدر في الكون البدائي، ويتباعد هذا الكون عن بعضه بشكل كبير حتى يصلنا، وخلال عملية ابتعاده، فإن الابعاد والاطوال تتغير، أي أن طول الموجة هذا قد يصلنا بطول مترين أو  3 أمتار وهذا صعب على المستمع العادي فهمه لكن لنحاول تبسيطه.

حين نتحدث عن الانفجار الكبير ونتحدث عن الانتشار. ما ينتشر هو ليس المجرات، صحيح أن المجرات تبتعد عن بعضها باستمرار لكن ليس هذا هو السبب، ما يبتعد عن بعضه فعليًا هو هندسة الكون، نسيج الفراغ والزمان في الكون. لأعطي مثالاً على ذلك، عندما تمسك بالون (نفاخة) وتبدأ بنفخها، تلاحظ أن النقاط على سطح البالون تبتعد عن بعضها، وهذا يشبه الكون إلى حد كبير. لكن هل تتباعد النقاط على البالون؟ كلا، ما يتغير هو نسيج البالون نفسه الذي يتمدد. هذا هو ما يحدث في الكون. المجرات لا تبتعد أو تهرب عن بعضها بل ما يبعدها عن بعضها هو اتساع نسيج الكون. ما يحدث لعملية تمدد الكون هو أن الكون يخلق أبعاد جديدة، يخلق هندسة جديدة طيلة الوقت، وهذه قضية مهمة.

ولأن ما يتمدد هو نسيج الكون، فإن كل ما فيه سيتمدد مع الوقت، بما في ذلك الأشعة ذات الطول 21 سنتمتر فإنها ستتمدد أيضاً، وهذا ما ندرسه تحديداً. أشعة مثل هذه هي أشعة منخفضة التردد والطريقة الوحيدة لملاحظتها هي تلسكوبات الراديو، انتينات قديمة تشبه الرادارات والتي هي صحون كبيرة – إذا ما تذكر هوائيات التلفاز – عمل الهوائيات كهذه هو التقاط موجات كهذه. ودور هذه الهوائيات هو لرصد موجات الهيدروجين هذه. عبر المصفوفات منخفضة التردد نرى هذه المناطق التي لا تشع لأن الهيدروجين فيها قد تأين حيث لا تعطي أشعة ٢١ سنتمتر ونرى أن هذه المناطق المعتمة تستمر بالاتساع حتى تختفي أشعة ال٢١ سنتمتر التي تأتينا من المادة التي بين المجرات عندما يتأين الكون تمامًا. هذه هي المراحل التي ندرسها ونحاول أن ندرس صفات الكون في هذه المرحلة بواسطة أشعة يتراوح طول موجتها من 21 سنتمتر إلى مترين يمكن أن ندرس كثافة الهيدروجين وكيفية تغيره من مكان إلى آخر على الكون، فهناك مناطق ذات كثافة عالية ومناطق ذات كثافة واطئة وهكذا، مما يدلنا عن حالة الكون في بداية تكونه. 

هل نفهم منكم أن أدوات الرصد التي تستخدمونها هي أدوات بسيطة وأرخص ثمناً مما في التلسكوبات بشكل عام؟ ولو أردنا فهم خارطة مصفوفة منخفضة التردد فكيف ستكون؟

احد الهوائيات في لوفار

احد الهوائيات في لوفار

كلا على الاطلاق، ليست أرخص ثمناً. أول تلسكوب أظهر هذه الأمور هو لوفار LOFAR والذي كنت أحد المؤسسين له كلف 200 مليون دولار، وقد كان هولندياً واليوم له شركاء أوروبيين عدة. التقنية ذاتها نعرفها منذ زمن، لكن المعقد هو إنشاء هوائيات حساسة بما يكفي، لقد ذكرنا هوائيات التلفاز لكن نذكر أنها ليست حساسة بما يكفي لتلك التأثيرات الصغيرة التي نريد رصدها. بالإضافة إلى ذلك، فنحن لا نستخدم فقط مجموعة معينة من هذه الهوائيات، بل هناك هوائيات منتشرة في عموم أوروبا مرتبطات بمجموعات صغيرة. وعندما ترصد هذه الهوائيات جميعها الأشعة، يتم احتساب الترابط بعملية حسابية معقدة جداً يتم فيها احتساب ما يصل إلى 250 تيرابايت في الثانية لسنوات، ثم بعد اجراء حسابات الترابط ينخفض حجم المعطيات لحجم أصغر لكن حجم المعطيات يبقى كبيراً جداً وهو شيء مذهل إذ يحتاج إلى حاسوب خارق لمقارنة هذه المعطيات بشكل خاص، ولنا حالياً ما يعادل 4 بيتا بايت من البيانات والبيتا بايت هو 1000 تيرا بايت. لذا فحين بدأنا المشروع كنا نتسائل عن أين يمكن أن نخزن كل هذه البيانات. وكانت التكلفة للخزن، وهذا قبل 20 سنة تقريباً، لخزن بيتا بايت واحد هو مليون يورو، أما اليوم فالكلفة أقل لحسن الحظ فيمكن اليوم ل١٠٠ ألف يورو أن تخزن 3-4 بيتا بايت، فتقدم الحواسيب كان بجانبنا في هذا الموضوع. لدينا حواسيب خارقة للتعامل مع هذه المعطيات. 

الصعوبة الأساسية في الحقيقة هي صعوبة تقنية من الصعب أن أبسطها بشكل تام، لكن سأحاول، هذه الأشعة التي نحاول أن نرصدها من الكون هي أشعة ضئيلة جداً جداً. ومقابلها تصلنا بنفس التردد أشعة من أماكن أخرى من الكون من مجرات أخرى. ولدينا أشعة من مجرتنا. وهذه الاشعة أكبر بألف مرة من الأشعة التي نريد أن نرصدها. كما أن الأرض ذاتها لها مجال مغناطيسي وفي إحدى الطبقات بالغلاف الجوي (الايونوسفير) فإن هناك تأثيرات أخرى تحدث على الأشعة قبل وصولها إلى تلسكوبنا الذي يجب أن يكون حساساً إلى درجة كبيرة ليلتقط الأشعة التي نريدها بدقة. 

توزيع مصفوفة لوفار في اوروبا

توزيع مصفوفة لوفار في اوروبا

عادة ما أشبه ما نريد رصده برصد شجرة على جبل بعيد جداً ارتفاعه آلاف الأمتار، سيكون ذلك ممكناً فقط لو عرفنا خصائص تلك الشجرة وخصائص الجبل. وطبعا هناك أيضاً تشويش من التلسكوبات ذاتها. مضت على محاولاتنا لقياس هذه الأشعة 20 سنة ولم ننجح بذلك حتى الآن، لكننا نقترب تدريجياً، وأحياناً تأخذ هذه المشاريع 40 سنة لتنجح ولا تنجح مع ذلك. لكن الجانب الآخر هو أن هذه التقنيات قد تستخدم في تطوير تلسكوبات قادمة، مثل التلسكوب الذي نعمل عليه والذي يسمى مصفوفة الكيلومتر المربع. 

اطلعنا على هذا التلسكوب دكتور: هل هو مصفوفة منخفضة التردد أيضاً؟

لهذا التلسكوب 3 مشاريع، كلها مصفوفة منخفضة التردد. ينظر هذا التلسكوب للكون بالترددات المنخفضة. والتقنيات التي استخدمت في هذا التلسكوب كنا نحن قد طورناها مجموعتي من الباحثين ومجاميع أخرى، وركزنا فيها على كيفية النظر إلى الكون لتجنب المشاكل التي واجهناها في لوفار. كيف ننظر، كيف ننقي البيانات. وكان هذا جزء مما نفعله. فنحن لا نعمل فقط لنرصد، صحيح أنني أتمنى أن نعطي تقريراً خلال سنتين أو ثلاث أننا استطعنا رؤية هذه الاشعة ونجحنا، ونحن نقترب بالفعل وأتمنى أن ننجح في السنوات القادمة، لكن بغض النظر عن هذا فنحن بدأنا مجالاً جديداً للنظر إلى الكون لم يكن موجوداً من قبل وإن لم ينجح تلسكوبنا فقد ينجح غيره. 

هذا شرح رائع دكتور وجائتني منه صورة يمكن أن نستخدمها لوصف عنوان هذا اللقاء وهي أنكم تستمعون للهمسات الأولى للكون وسط قاعة صاخبة.

هذا صحيح، هناك مشكلة تسمى بمشكلة قاعة الحفلة، حيث أن هناك حفل أو قاعة ونحن نحاول أن نستمع لشخص واحد بها.

وهذا الشخص لا يحاول بالضرورة توجيه الحديث لنا بل يهمس فقط

نعم هو كذلك، نحن نحاول أن نسترق السمع فقط. المشكلة من الناحية التقنية تشبه هذا بدقة.

مبنى الحوسبة في جامعة خرونيجين

مبنى الحوسبة في جامعة خرونيجين

 

نفهم منكم أنه بغياب قدرات الحوسبة العالية فإن ابحاثكم لن تكون ممكنة من الأساس، نذكر رصد صورة الثقب الأسود بواسطة مصفوفة أفق الحدث ونذكر مبدأ التداخل مديد القاعدة لكننا فهمنا من تقنيات رسم تلك الصورة هو أنها لم تكن لتكون ممكنة لولا تقنيات الحوسبة العالية تلك. فهل ينطبق الأمر عليكم؟ وهل سيتطور واقع بحوثكم بشكل أكبر لو تطورت قدرات الحوسبة أم أنكم الآن بحالة جيدة؟

صحيح تماما، دون تطور الحوسبة، وتطور الخوارزميات لفصل أنواع المعطيات عن بعضها لا يمكن أن نتقدم. تلسكوبنا هو أيضا قائم على مبدأ التداخل مديد القاعدة مثل تلسكوب أفق الحدث. قاعدته أكبر بكثير لكننا نتكلم عن نفس المبدأ في الرصد. تلسكوب أفق الحدث له اثنان من الإباء أحدهما من هولندا والأخر من أمريكا. والهولندي كان العالم الرئيسي في تلسكوب لوفار في مرحلة سابقة. إذن فهي نفس التقنيات. نحن نعتمد على تطور تقنيات الحاسوب بشكل كبير دائما كما ذكرت حول خزن البيانات وكلفته. يتعلق الامر أيضاً بالحسابات الدقيقة، وهذا أمر تقني بحت، هناك موضوع التعيير (Calibration) وهي أصعب عملية موجودة في هذه المشاريع وتأخذ الكثير من القدرة الحسابية. 

خلال مسيرة التلسكوب بدأنا باستخدام المعالجات الصورية GPU وكنا من أوائل من استخدموها في العالم. وخلال العشرين سنة الأخيرة – حياة المشروع – استخدمنا 3 أجيال مختلفة من الحواسيب، وقد شرعنا باستخدام حاسوب GPU جديد بالأشهر الأخيرة. وبالفعل، دون الحاسوب لا يمكن أن نقوم بهذه المشاريع التي تتطلب تطوراً حاسوبياً كبيراً بالإضافة للفهم الفيزيائي. 

مشروعنا بطبيعته الأساسية تلتقي به اختصاصات كثيرة من الجانب الفيزيائي الكوني إلى الجانب التقني مثل تعيير التلسكوب والحوسبة وغيرها من المجالات. وفي العاملين البالغين 30-40 شخص هناك مهندسي كهرباء، مهندسي بيانات، مهندسي راديو، علماء رياضيات، مختصي فيزياء ممن ينظرون إلى الجانب العلمي المحض في نشوء الكون مثلي. 

 

جميل دكتور، أود اسألكم سؤالين متصلين: نرى دور التمويل والأجهزة والمعدات في مجالكم، فما هي رؤيتكم للفيزياء الفلكية في العالم العربي، ما هي الآفاق الممكنة، ما هي نصائحكم للباحثين؟ البعض قد يرون أن الصورة قاتمة جداً وأنه لا يوجد أمل لتحقيق أي تقدم دون التمويل الكافي.

 

لست أكثر شخص مؤهل للحديث عن العالم العربي لأنني أعمل مع مجاميع غربية، لكن من الواضح أن هناك ازمة في العالم العربي. ينقصنا المشروع العلمي النهضوي وهذا موضوع سلطة وموضوع سياسات. لا تنقصنا القدرات وعندما يعطى لها المجال في الجامعات بالغرب فإن كثيراً من العلماء العرب يتميزون، تنقصنا الفرص والمشروع النهضوي العام. 

في الفترة الأخيرة اطلعت على عدة أمور تتعلق بالعالم العربي مثل عدد المقالات للفرد، التوظيف المالي، وغير ذلك بالمقارنة مع العالم المتقدم. ينقصنا الكثير في ذلك والكثير من الجامعات استسلمت وصار هدفها إخراج المتخصصين لاكمال أعداد المهندسين والمحاسبين ومن تحتاجهم أجهزة الدولة المختلفة لكن ليس هدفها فهم الطبيعة أو خلق فهم جديد أو علوم جديدة. ولا ينطبق هذا  فقط على المجالات الفيزيائية بل ينطبق أيضاً على الطب مثلًا في كورونا كنا ننتظر ما يحدث في الغرب وهذا أمر مؤسف جداً. 

هذا التحول بالتفكير يجب أن يحدث، لا يمكن أن تعتمد على الآخرين فقط لخلق المعرفة التي تحتاجها. للأسف الشديد نصيحتي الأساسية هي الارتباط بمشاريع خارج الدول العربية. بهذه المشاريع التي تحدثت عنها نحن منفتحون على الطاقات من أماكن أخرى، لا يفرق الأمر لو جاء الباحث من العالم العربي أو من أي مكان في العالم. ولدي مثالين على هذا المجال، لو اطلعت على الإصدارات العلمية في العالم العربي ستجد مكانين يبرزان في العالم العربي بمجال الفيزياء الفلكية على الأقل، وهما الجزائر والمغرب، ولو اطلعت على عدد الإصدارات والاقتباسات السنوية التي يمكن الاطلاع عليها بسهولة من ويكيبيديا مثلاً، ستلاحظ أن الجزائر والمغرب لديهم إصدارات أكثر. وحين التعمق بالموضوع اتضح أن هذه الإصدارات تعزى لإرتباط الجزائر والمغرب بفرنسا بالمشاريع التي تشترك فرنسا فيها وهي مشاريع كبيرة (مثل مشروع GAIA) تصدر مقالات كثيرة. هذه هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى المجالات الأحدث في طليعة العلم والمعرفة. ولكن هذا حل ممتاز لأشخاص معينين ولا يلغي الحاجة لمشروع علمي نهضوي من قبل السلطات وإلى أن توظف الدولة الأموال لذلك، رغم أن الأموال ليست المتطلب الوحيد لذلك.

كما ذكرتم دكتور موضوع الفلسفة، فلسفتنا ونظرتنا للعلم

بالتأكيد، ليس فقط العلم، بل الادراك الفكري العميق في شتى المجالات، يتطلب ذلك الحرية، الحرية في التفكير، الحرية بالوصول إلى النتائج التي تسعى للوصول إليها دون أفكار مسبقة وتقييدات حتى لو ادراكاتك تتعارض مع مجتمعك وهذا ما يميز المعرفة. خلق معرفة جديدة قد تتناقض في كثير من الأحيان مع التقاليد. بالتأكيد كمجتمعات يجب أن نتغير في هذا الاتجاه. لكن الانفتاح وقبول المختلف هي شروط مطلوبة جداً.

في أوج إنتاجنا الفكري قبل 1000 عام لم نكن نعاني كثيراً مما يحدث اليوم. مثلا ابن سينا أو نقاش الغزالي وابن رشد وإن لم يكن نقاشاً حياً بل نقاش بالكتب، ما حدث في ذلك الحين من نقاش مفتوح ومتاح هو أمر أساسي في طلب المعرفة والعلوم وهو يتطلب تغير في توجهات المجتمعات لا الدول فحسب. للأسف هذا ما يمكن أن أراه من ناحيتي. لا يمكن أن يقول عالم ما شيئاً ويقول له شخص إن ذلك يعارض الأديان أو التقاليد.  والمشكلة الأخرى هي أن الكثير من الجامعات تخلت عن المعرفة الجديد ودأبت على اجترار ما هو موجود. 

للأسف الشديد دكتور. تغطية رائعة منكم سواء لمجالكم أو من ناحية تشخيصكم لما يحدث في العالم العربي. نحن نشكركم ونتمنى ويتمنى كثير من جمهورنا أن يطول هذا اللقاء وأن نتوسع أكثر في أوراقكم البحثية والمجالات الكثيرة التي دخلتم فيها ضمن تخصصكم لكن للأسف فإن الوقت لا يسعفنا. هل ترغبون بتوجيه كلمة أخيرة قبل أن ننهي اللقاء؟

شكراً ليس لدي الكثير لأضيفه سوى أنني نسيت أن أذكر أنني قبل سنتين كتبت كتاباً باللغة العربية عن الكون ومراحل نشوءه وهو من إصدار دار الفارابي ببيروت. من الممكن أن هذه المنصة هي منصة مناسبة لذكره، وهو يتحدث عن تاريخ الكون من منظور علمي. هذا مما أقوم به، الكتابة بشكل مقصود عن العلوم باللغة العربية عن الفيزياء وتاريخ الكون ومن ذلك خرج هذا الكتاب وأنا الآن أكتب كتاباً آخر عن الحياة في الكون من ناحية علمية.

رابط كتاب في البدء: فيزياء، فلسفة وتاريخ علم الكون

رابط الكتاب على Good reads

رابط الكتاب على موقع نيل وفرات (حيث يمكن اقتناءه)

رابط البحث الأساسي عن لوفار ومصدر الصور: van Haarlem, Michael P., et al. “LOFAR: The low-frequency array.” Astronomy & astrophysics 556 (2013): A2.

رابط لمقال عام مبسط عن مشروع لوفار لرصد فترة إعادة التاين صدر في Europhysics News Vol. 40, No. 4, 2009, pp. 22-26

راجع نص اللقاء والصور الدكتور سليم زاروبي كما دققت ريام عيسى عدد مجلة العلوم الحقيقية 53 وبضمنه نص اللقاء هذا