هذا المقال هو الجزء الثاني من سلسلة أولها: كتاب شرح الوعي لدانييل دينيت: قراءة في الفصول الست الأولى من الكتاب

تطور الوعي

يبدأ دينيت موضوع تطور الوعي بشرح تأثير بالدوين (Baldwin Effect). يتناول تأثير بالدوين تأثير السلوك المتعلم على التطور بصفته تكيفاً، وكيف يمكن لتكيف كهذا أن يسرع عملية التطور للكائن الحي. عندما يتمتع الكائن الحي بميزة كهذه، فإنه سيكون له ميزة على أبناء عمومته من الأصناف الأخرى الذين لا يملكون القدرة على التكيف أو إعادة تصميم ذواتهم عبر تعلم السلوكيات.

يظهر في الكتاب شكل مستوٍ يتكون من مربعات ذات ارتفاعات مختلفة. تتمتع إحدى المربعات بارتفاع أعلى بشكل استثنائي مقارنة بالمربعات المجاورة. يتم تمثيل الارتفاع في الارتفاع بما يسميه دينيت “الخدعة الجيدة” التي يمتلكها كائن بالمقارنة مع أقرانه. يمكن أن تكون الخدعة الجيدة عبارة عن تغيير طفيف في توصيل نقطتين في الدماغ مثل النقطة أ و النقطة ب بحيث يمكن ربطهما مع بعضهما البعض بطريقتين مختلفتين في بعض التصميم أو في تسلسلات مختلفة من أ و ب. إن التوصيل الصحيح في هذا التسلسل يُنتج ما يعتبر خدعة جيدة تعطي ميزة القدرة على التكيف للكائن الحي. تستمر الحيلة بعد ذلك بالانتشار في التعداد السكاني بأكمله نظراً لفائدتها. اللدونة أو القدرة على التكيف في هذا السياق هي “الخدعة الجيدة”.

تتكون أدمغتنا من العديد من العمليات الثابتة بالإضافة إلى الآليات المرنة القابلة للتغيير والتكيف، وتعمل كلها وفق نموذج الفوضى (pandemonium) الذي تم تقديمه في الكتاب سلفاً وحيث لا يتضمن هذا النموذج أي قائد أو سلطة مركزية في الدماغ. تعمل الشبكات المختلفة، أو العفاريت [يستخدم دينيت مصطلح Demon لتلك الوحدات العاملة في ادمغتنا]، بدون أي سلطة مركزية؛ النظام هو الفوضى. وقد أنتج ذلك دماغًا متقدمًا جدًا لأسلاف البشر حتى قبل ظهور اللغة، وقبل التعقيدات الجديدة التي يمكن أن تضيفها اللغة. ثم تمثلت المرحلة الأخيرة من التطور بأكبر تطور في أذهاننا وهو ما حدث خلال العشرة آلاف سنة الماضية. يعتقد أن أسلافنا قد بلغوا في ذلك الوقت مرحلة ذهنية لم يكن أسلافهم قد بلغوها من قبل.

بالإضافة إلى اللدونة، أضافت مشاركة المعلومات جانبًا جديدًا إلى تفكيرنا عندما أصبح البشر قادرين على التواصل عن طريق اللغة. تتمتع اللغة بقيمة عالية للبقاء في مسار التطور و”سيكون النظام أكثر استقرارًا” كما يقول دينيت إذا كانت لدينا هذه القدرة على مشاركة المعلومات لذا فمن المفيد أن تتواجد هذه القدرة. ولا تقتصر أهمية اللغة على التواصل مع الآخرين فحسب، بل يضع دينيت شكلاً توضيحياً يظهر فيها متجه ينبع من الفم وينتهي في الأذنين. تعمل اللغة كنظام يمكننا من خلاله بث رسالة وسماعها مرة أخرى، إنها سلك افتراضي بين نظامين فرعيين لدينا. يطلق دينيت على هذا اسم المحاكاة التلقائية. ثم يأتي التناقل الثقافي كأداة أخرى يكتسبها الإنسان كنتيجة للغة. وهذا يؤدي إلى مفهوم مهم جداً وهو الميمات.

الميمات وتطور الوعي البشري

طرح ريتشارد دوكينز مصطلح الميمات في كتابه “الجين الأناني” عام 1976. والميمات هي أفكار أو سلوكيات تنتشر من شخص لآخر داخل الثقافة. ويمكن أيضاً أن ينظر إليها على أنها وحدات للوراثة الثقافية مثلما أن الجينات هي وحدات بيولوجية للوراثة. الميمات تفاضلية (differential) مما يعني أن عدد النسخ التي تم إنشاؤها من عنصر منها في فترة ما يعتمد على التفاعلات بين ميزات ذلك العنصر وخصائص البيئة.

في الميمات، ينطبق مفهوم جهاز النسخ (replicator) – الذي يطلق في العادة على الكائنات البسيطة وقدرتها على التكاثر – هنا على الأفكار بدلاً من الكائنات الحية. تشكل الأفكار أو الوحدات الثقافية نفسها في وحدات قابلة للتذكر أو أفكار معقدة مثل العجلات والملابس والشطرنج… الخ. ومن ثم يمكن النظر إلى الميمات على أنها مفهوم شبيه بالكائنات الحية.

يأتي دينيت بأمثلة رائعة في الكتاب حول الميمات إما مما يقدمه أو من خلال اقتباسات من دوكينز، أحد تلك الأمثلة: “العالِم هو مجرد الطريقة التي تستخدمها مكتبة ما لإنشاء مكتبة أخرى”. ومن المثير أيضًا كيف يتحدث عن فكرة الانتحار التي تبدو قاتلة بالنسبة لميم الانتحار، ولكن ليس عندما يتم نشرها بشكل جيد من خلال ثقافة الاستشهاد كما يوضح دوكينز.

يمكن أن تكون الميمات مثل الطفيليات أو الكائنات الحية المستقلة التي تسكننا. يمكنها البقاء على قيد الحياة أو التكاثر أو الانقراض بناءً على ميزاتها المختلفة. قد تبدو بعض الميمات أيضًا جيدة من وجهة نظرنا، ولكن ليس من وجهة نظرها باعتبارها “أجهزة نسخ أنانية”. قد تنتشر الميمات التي نراها في حين أن تلك التي نعتبرها جيدة قد تنقرض، والعكس صحيح حتى عندما لا يبدو أننا نفضلها لأسباب أخلاقية أو ثقافية. الميمات هي وسيلة قد تعطي هبات او لعنات لتفكيرنا وذكرياتنا.

الميمات الجيدة هي مستنسخات جيدة وهي ليست جيدة وفق تفضيلاتنا. الميمات من منظور معين هي الطفيليات أو الكائنات الحية، ونحن مجرد الوسط الذي تسكنه. وبما أننا محدودون في قدرتنا على حمل الميمات، فسيكون هناك منافسة بين الميمات لدخولنا  والسكن في أدمغتنا. قد تقوم الميمات بإعادة هيكلة الأدمغة لجعلها أمكنة أفضل لعيشهم. وقد تعزز الميمات فرص بعضها البعض مثل ميم التعليم الذي يصفه دينيت بأنه “ميم لغرس الميمات”.

يقدم دينيت الميمات كبعد آخر لفهم وتعريف الوعي البشري بأنه مجموعة ضخمة من الميمات التي يمكن فهمها على أنها حواسيب فون نيومان الافتراضية التي تعمل ضمن بنية الدماغ المتوازية (يقصد الحوسبة المتوازية parallel computing). وحيث أن بنية الدماغ تلك لم تكن مصممة في البداية لأية أنشطة من هذا القبيل مثلما أن بعض الحواسيب لم تصمم في الأساس بعض البرامجيات التي ستعمل عليها لاحقاً بالتحديد. ولتوضيح نموذج فون نيومان فهو نموذج لأجهزة الكمبيوتر التي كانت موجودة منذ فترة مبكرة من اختراع الحواسيب. وهو النموذج المعروف الذي يحتوي على وحدة الذاكرة، وحدة للمعالجة ووحدات للإدخال والإخراج.

تعزز “إمكانيات الحاسبة الافتراضية [يقصد الميمات] إلى حد كبير القدرة الأساسية للأجهزة التي تعمل فيها [الدماغ]” بهذه الاستعارة من عالم الحواسيب يشبه دينيت العلاقة بين الميمات، بصفتها البرنامج أو الحاسبة الافتراضية، وبين الدماغ كأجهزة (hardware). كما يظهر من هذه الاستعارة الاختلاف في الميزة التي نحصل عليها من الميمات: وهي قدرتها على تحسين الجهاز الذي تعمل فيه، على عكس ما يمكن أن تفعله البرامج أو الأجهزة الافتراضية على أجهزة الكمبيوتر حيث لا يمكن للبرنامج أن يغير الجهاز بأي شكل.

ولكن لماذا لم يكن لدى أسلافنا أدوات أخرى أكثر تعقيدًا مثل المسدسات مثبتة في أيدينا؟ أو لماذا لم تنبت لنا أجنحة؟ إذا كانت أدمغتنا تمتلك جزءًا واعيًا ومتقدمًا منطقيًا مثل حاسوب فون نيومان المصمم عن طريق الانتقاء الطبيعي فقط بسبب احتياجات أسلافنا، فلماذا لا نمتلك أدوات أكثر تعقيدًا؟

الجزء الأول من الإجابة يكمن في حقيقة أن أدمغتنا، كما هو الحال مع أجهزة الكمبيوتر الحديثة، لديها القدرة على التقليد. حاسوب تيورنغ (Turning Machine) هي آلة تقليد (Imitation machine) يمكنها محاكاة أي دالة ممكنة بدلاً من وجود دوال وآليات جامدة فيها. وهذا يقودنا إلى الاستعارة الثانية، وهي الأجهزة الافتراضية. يعرّفها دينيت بأنها “مجموعة مؤقتة من التركيبات شديدة التنظيم المفروضة على الأجهزة الأساسية”، وبالتالي، فإن ما جعل الأجهزة تشكل آلة معالجة متوازية ضخمة لا تحتاج إلى أجهزة معقدة معينة، بل يمكن تشكيل أجهزة تحتوي على تراكيب متعددة من خلال عملية مشابهة للحياكة، تتكون أدمغتنا من هذه الهياكل المحبوكة التي تستضيف آلات افتراضية، وبهذه الطريقة، قد لا تكون هذه الآلية قادرة بنفس القدر على إنشاء أجنحة أو مسدسات.

وبالتالي، يتم تمثيل الوعي بشكل أكبر من خلال البرامج المثبتة على جهاز موجود مسبقاً. من ناحية أخرى، على الرغم من استخدام أجهزة الكمبيوتر كرمز هنا، فإن الأدمغة ليس لديها أي شيء مماثل لوحدات المعالجة المركزية. تلعب الميمات دورًا مهمًا في تشكيل الأجهزة أيضًا كما ذكرنا. لذلك، على عكس المسدسات أو الأجنحة، فإن الآلة المطلوبة لهذا الغرض لا تحتاج إلى هذه القفزة الهائلة في التعقيد، بل يمكن أن تكون عملية بسيطة طويلة المدى، مثل الحياكة.

كما لا تحتوي النتائج بالضرورة على تطابق تام بين البرامج والأجهزة مثلما هو الحال مع الحواسيب. قد يكون النسخ الذاتي هو الشيء الوحيد الذي من المفترض أن تتقنه أجهزتنا أي أنها تستنسخ أنفسها. قد لا تكون بعض ميزات الجهاز أكثر من مجرد فيروسات برمجية. حتى الأجهزة، بعض أجزائها يمكن أن تكون طفيليات موجودة هناك “لمجرد أنها تستطيع ذلك” ولا يستحق الأمر عناء التخلص منها كما يوضح دينيت.

معضلة توليد الكلام

“كيف تفعل الكلمات ما تفعله بنا؟” هو عنوان الفصل الثامن من كتاب شرح الوعي لدانييل دينيت. يبدأ دينيت الفصل بفكرة كيفية تنظيم الحواسيب الافتراضية في داخلنا، وكيف يمكن أن يكون لها “قائد افتراضي” للطاقم ولكن على ألا يتم رفع أي قبطان ليكون له سلطة دكتاتورية. يبدأ دينيت من هنا لتحييد أي وهم محتمل للسلطة المركزية في مجال توليد الكلام. كيف يمكن هزيمة المسرح الديكارتي في مجال توليد الكلام؟ يعد إنتاج اللغة تحديًا أمام نظرية دينيت لأنه في النهاية لا يوجد سوى تقرير نهائي واحد تصدره عقولنا وننطقه. هل هذا يعني أن لدينا سلطة مركزية تقرر ما يجب قوله؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهل لدينا حالات آلية داخلية مختلفة قد تنتج معاني مع بعض القواعد التي تحكم تلك العملية؟ المهمة الرئيسية لدينيت في الفصل هي القضاء على وهم المركزية هذا في مجال توليد الكلام.

يلفت دينيت الانتباه إلى ما يعتقد أنه مشكلة في اللغويات المعاصرة وإنتاج الكلام. وهو أن المجال حافل بالتقدير للغة، الكلام بذاته، لكنه لا يقول أي شيء عن الفنان، أي عن عملية إنتاج الكلام.

بيم ليفيلت (Pim Levelt) هو واحد من علماء النفس اللغويين القلائل الذين عملوا على مسألة توليد الكلام، وهو العمل الذي يقدره دينيت بشدة. قدم ليفيلت ما يعرف بـ “مخطط المتحدث” حيث لا يوجد وسيط مركزي للنظام، بل هناك أجزاء عدة للنظام (يمكن رؤيتها في الشكل). على الرغم من أن جزء وضع المفاهيم قد يبدو وكأنه الرئيس في هذا النظام، إلا أنه ليس أكثر من مجرد مولد للرسائل. يتلقى المتصور في نموذج ليفلت الكلام المحلل من نظام فهم الكلام ويقدم رسائل ما قبل اللفظية إلى المُصوغ الذي ينتج ما يسميه ليفلت “الكلام الداخلي” الذي يتشكل لاحقًا في سلاسل صوتية. تحتوي فرضية ليفلت على مفهوم لغة الفكر الدماغية التي تُستخدم فقط لترتيب أفعال الكلام؛ يقول دينيت: “إنها ليست لغة لجميع الأنشطة المعرفية” أي أن تلك اللغة هي لغة داخلية ذات غرض خاص. نموذج ليفيلت مستوحى أيضًا من نموذج فون نيومان. يمكن النظر إلى لغة الفكر على أنها نظير للغة الآلة في أجهزة الحاسوب.

في حين أن نموذج ليفيلت لا يوضح دور المتصور، إلا أن دينيت يجده نموذجًا جيدًا يمكن الاعتماد عليه للانتقال إلى المرحلة التالية، وهي منافسات الكلمات. المنافسات بين العفاريت، دوائر الدماغ، عندما يرغب أحد العفاريت، بقول شيء، فإنها تتنافس مع بعضها البعض لقول ما يريدون قوله. عملية اختيار ما نقوله هو عملية بيروقراطية بين العديد من دوائر الدماغ (العفاريت) الذين لديهم ما يرغبون بقوله. عملية الحكم على أي منها يجب أن يصدر الكلام يمكن أن تكون عملية تطورية تتضمن بعض التعاون بين هذه العفاريت أو دوائر الدماغ المختلفة.

ولكن كيف يمكن للعفاريت أن يكون لديهم الكلمات والقواعد لإنتاج الكلام؟ يقترح دينيت الاحتفاظ بنموذج ليفيلت مع استكماله بنموذج الفوضى السابق (pandemonium). نموذج الفوضى هو البديل لعدم تحديد سلطة مركزية أو دكتاتور يقيد العفاريت فيما يجب إنتاجه. يرى جيري فودور أن “نجاري اللغة” يقومون فقط بتنفيذ أوامر تشكيل الكلام. لكن دينيت يذهب أبعد من ذلك ليقترح أنه حتى إنتاج الكلام يمكن أن يحدث من خلال عملية تطورية، والعملية نفسها هي عبارة عن فوضى أخرى.

تتجلى منافسة العفاريت في نموذج الفوضى التطوري في الزلات الفرويدية. كيف تحدث الزلات الفرويدية؟ يذكر دينيت البحث الذي أجراه بيرنباوم وكولينز (1984) حول الزلات الفرويدية والذي يوضح أنها ليست أخطاء عشوائية أو لا معنى لها في إنتاج الكلام. وهي، بحسب تعبير دينيت، “أخطاء وليست أخطاء”. يمكن أن تكون دليلاً على أن عملية إنتاج الكلام متوازية ولها أهداف متعددة تحدث في وقت واحد. قد لا ندرك تمامًا ما نفكر فيه حتى نقوله، ويقتبس دينيت قول برتراند راسل: “لم أكن أعرف أنني أحبك حتى سمعت نفسي أقول لك ذلك”. حتى الخط الذي يفصل ما نريد أن نقوله وقوله يمكن أن يكون خطًا ضبابياً للغاية.

عمارة العقل البشري

عمارة العقل البشري هي موضوع الفصل التاسع. إن عدم وجود طريقة واحدة لفهم العقل البشري هو القضية الأولى، ويناقش دينيت هذا في بداية الفصل: ما هي الوحدات التي تشكل العقل البشري؟ ما مدى كونها ماثلة (hardwired)؟

يعتقد جيري فودور أن وحدات الدماغ لها مسميات وظيفية دقيقة تكاد تكون ثابتة وكأنها منحوتة على الحجر. كان يعتقد أيضًا أن هناك سلطة مركزية ما في الدماغ تدير تلك الوحدات المختلفة. ومع ذلك، لم تكن لديه فكرة واضحة عن ذلك، ولم يعتقد أن أي عالم أو فيلسوف لديه أدنى فكرة عن هذه السلطة. وعلى الرغم من اعتراف فودور بوجود وحدات أو أعضاء، إلا أن الوحدات تفقد أهميتها مع ذلك “الزعيم” الغامض، مما يجعل عمل فودور نسخة أخرى من المسرح الديكارتي.

ومن جهة أخرى، قدم مارفن مينسكي “عملائه” من وحدات الدماغ. عملاء مينسكي موهوبون كما هم عملاء فودور، لكنهم مختلفون في الأحجام والأشكال والمهارات. إنها “كائنات تأتي بجميع الأحجام”. يعرض دينيت هنا مشكلة واحدة تتعلق بنظريات الفوضى، مثل نظرية مينسكي: حيث يمكن أن تكون هناك أوقات من الفوضى، والجهود المتكررة، والجهود الضائعة، وقضايا أخرى؟ فمع كل هذا كيف يمكن تسمية العملاء ضمن هذا النموذج بالوحدات الدماغية؟ ما هي طريقة تنظيمهم إذا لم يكن ذلك من خلال رئيس، كما اقترح فودور؟

من منظور التشريح العصبي، كان العلماء قادرين على القيام بالكثير من التعيينات لمهام محددة في “صفوف من الخلايا العصبية المتفاعلة” كما يوضح دينيت. أين العفاريت هنا؟ توضح لنا النماذج العصبية كيف تعمل شبكات معينة أو مسالك عصبية، ولكن ليس كيف تتفاعل وتتنافس، وهو الأمر الذي شرحه مارفن مينسكي بشكل صحيح مع عملائه.

التفاعل بين العملاء ليس ضروريًا لوظيفة الدماغ فحسب، بل أيضًا لكيفية عمل آلاف الميمات مع اللغة وبدونها معًا لتشكيل الدماغ وجعله الدماغ الذي نعرفه. في حين أن هذا قد يحدث في جهاز كمبيوتر مثل جهاز Von Neumann الذي يستخدم السجلات في الذاكرة، إلا أن هناك حاجة إلى نموذج مكافئ أو مشابه للذاكرة العاملة للدماغ، وقد يُطلق على هذا النظام أيضًا اسم السبورة حيث يكتب الجميع ويمكن لأي شخص آخر قراءة الرسائل المشتركة. ولكن لماذا هذا التواصل مطلوب؟ إنها بشكل أساسي لحل الصراع بين العفاريت. ولهذا الغرض، يقترح دينيت نماذج مختلفة محتملة للتعاون أو حل الصراع بين العملاء أو العفاريت، ولكن ليس من الضروري أيضًا أن تكون سلطة مركزية. أحد هذه النماذج هو آلة جويس لشرح التعاون والتنافس بين العفاريت في نموذج مارفن مينسكي.

نحو تمثيل الأفكار

في الفصل العاشر، يعود دينيت لدحض المسرح الديكارتي بعد أن بدا ممكنًا/صالحًا مرة أخرى من وجهة نظر بعض التجارب التي يشرحها دينيت. يقدم دينيت تجربة تتضمن أشكالًا تتطلب التجربة تدويرها، والتجربة أجراها روجر شيبارد لمعالجة الصور الذهنية. التحدي هنا هو أن آلية الصور الدوارة في الدماغ تبدو وكأنها تدعم نموذج المسرح الديكارتي. وما يدعم ذلك هو الاستعارة التي يستخدمها كوسلين (Kossyln) لشرح كيف نقوم بتدوير الصور في تصور عقولنا، وهي تقنيات التصميم بمساعدة الكمبيوتر (CAD)  التي يفترض كوسلين أنها تثبت وجود مسرح ديكارتي لحل مشكلة تدوير الصور. يشرح دينيت هذا باستخدام تقنية CAD أخرى، حيث أننا ما زلنا لا نحتاج إلى أداة تمييز واحدة لحل هذه المشكلة، ولكن يمكن القيام بذلك في نظام “غير متزامن، وموزع، ومتعدد المستويات”. (سيعود دينيت لهذه المشكلة في فصول قادمة).

وينقلنا ذكر الصور إلى سؤال ومشكلة أخرى، يبدأ فيها دينيت باستكشاف ما إذا كنا نفكر بالصور أم بالأفكار أم بالكلمات. إن القول بأننا نفكر في الأفكار لا يوفر الكثير من الوضوح، بل إنه ينقل السؤال إلى أبعد من ذلك: ما هي الأفكار؟ اقترح العديد من العلماء والفلاسفة أشكالًا محددة للأفكار، بما في ذلك فرضية لغة الفكر لجيري فودور. سيكون التعبير عن أفكارنا وتمثيلها هو موضوع البداية للقسم التالي والأخير من مقالة المراجعة هذه..