من موقع معهد كلاي للرياضيات (راعي مسائل الألفية السبع في الرياضيات) بتاريخ 18- اذار- 2010

ترجمة: حسن مازن

مراجعة لغوية : رشا الطويل

ضمن #مشروع_الترجمة لصفحة “مشروع انا عراقي انا اقرأ”

في 18 اذار/مارس عام 2010 أعلن معهد كلاي الأمريكي للرياضيات (Clay Mathematics Institute) في كامبردج ماساشوتستس – امريكا. ان الروسي غريغور بريلمان من سانت بطرس بورغ  قام بحل أول مسائل الألفية المفتوحة في الرياضيات والتي يرصد المعهد جائزة مليون دولار لحل كل مسألة منها.

حدسية بوانكاريه هي واحدة من المسائل المفتوحة السبع التي طرحها معهد كلاي عام 2000  ليتحدى بها العقول الرياضية إيماناً من القائمين على المعهد أن في الرياضيات صعوبات عميقة تتطلب جهداً ودراسة لحلها للارتقاء بالرياضيات وتطويرها. حل بريلمان واعتراف المعهد به كان ضمن السياقات المتبعة في المعهد، فبعد توصية أولى من قبل اللجنة الاستشارية (سيمون دونالدسون، ديفيد غباي، ميخائيل جروموف، تيرنس تاو، وأندرو وايلز) , ثم بعد ذلك توصية المجلس الاستشاري العلمي في المعهد (جيمس كارلسون، سيمون دونالدسون، غريغوري مارغوليس، ريتشارد ميلروز، يم تونغ سيو، وأندرو وايلز) ليتبعها القرار النهائي لمجلس الإدارة (لاندون تي. كلاي، لافينيا دي. كلاي، وتوماس أم. كلاي) صرح جيمس كالرسون رئيس المعهد “حل حدسية بوانكاريه تم على يد غريغور بريلمان بعد قرن من المحاولات , وهو تقدم كبير في تاريخ الرياضيات سيبقى طويلاً في الأذهان” وأعلن وقتها معهد كلاي بالتعاون من معهد هنري بوانكاريه أنهما سيقيمان حفلاً في باريس في الثامن والتاسع من حزيران يونيو ( من عام 2010) على أن تقام محاضرة عامة ومؤتمراً صحفياً في السابع من حزيران، ويلقي المحاضرة إتيان غوهس Etienne Ghys في معهد  Océanographique أوسيانوغرافيك أو (معهد علم المحيطات) .  قال الحائز على ميدالية فيدلز الدكتور سيمون دونادلسون في مكتبه في كلية امبريال في لندن : “أشعر أن بوانكاريه راضٍ جداً حول حل حدسيته وكيف أسهمت في تطوير التبولوجيا خلال القرن الماضي, والطريقة الغريبة لحلها. والفائدة التي الأساسية من المعادلات التفاضلية الجزئية والهندسة التفاضلية.”

حدسية بوانكاريه وبرهان بريلمان

 

حدسية بوانكاريه التي وضعت عام 1904 من قبل هنري بوانكاريه تعد أمراً أساسياً  للفهم التبولوجي للأشكال ثلاثية الأبعاد (على وجه الخصوص الأشكال التي تدعى المتفرعات المتراصة “compact  manifolds”  في التبلولوجي) , وأبسط هذه الأشكال هو الكرة ثلاثية الأبعاد. المحتواة في فضاء رباعي الأبعاد والتي تعرف بأنها مجموعة النقاط التي تبعد مسافة ثابتة عن نقطة معينة. بالضبط مثل غلاف الكرة ثنائي الأبعاد (مثل قشر برتقالة  أو سطح الكرة الأرضية) فهي عبارة عن سطوح ثنائية الأبعاد تمثل مجموعة نقاط تبعد بمسافة ثابتة عن نقطة معينة في فضاء ثنائي الأبعاد.

نظراً لأننا لايمكننا تصور الأشكال في فضاءات لها “ن” من الأبعاد فقد تسائل بوانكاريه , هل يمكن أو لا يمكن تمييز السطوح ثلاثية الأبعاد في الفضاءات, بواسطة بعض الإجراءات والمقاييس التي يخضع لها الشكل نفسه. الهدف من هذا التساؤل كان لتمييز كل الأشكال الثلاثية الأبعاد الممكنة حتى لو كانت مشوهة (تشاكلات تبولوجية) ووجد بوانكريه الأختبار الصحيح أنه “الاتصال البسيط (simple connectivity) ” . مع ذلك فقبل بريلمان لم يكن أحد يستطيع أن يضمن أن الاختبار يميز السطوح ثلاثية الأبعاد.

خلال القرن العشرين جرت محاولات عديدة لبرهنة حدسية بوانكاريه أو لإثبات عدم صحتها, وفي عام 1982 ابتدأ خط بحثي جديد شقه ريتشارد هاميلتون (Richard Hamilton) بتطويره لتدفق ريتشي (Ricci flow) . كان يقوم على معادلة تفاضلية ذات صلة بمعادلة أخرى قدمها جوزيف فورييه قبل 160 سنة لدراسة التوصيل الحراري. حصل هاميلتون باستخدام تدفق ريتش على نتائج هندسية رائعة لكن حين حاول أن يطبقها على حدسية بوانكاريه وصل إلى طريق مسدود, كان يصل لنقاط تفرد كتلك التي تصل لها معادلات الفيزيائيين عندما يحاولون تطبيقها على الثقوب السوداء, باختصار إنه أمر يتحدى الفهم الرياضي.

انطلاقة بريلمان في برهان حدسية بوانكاريه كانت قد بدأت بعدة عناصر جديدة. حققت فهماً كاملاً لتشكيل المتفردات في تدفق ريتش, وقطع الطريق على انهيار الأشكال في الأبعاد الأقل, وقدم كمية جديدة هي الأنتروبيا لكنها ليست كما المعتاد عليها كلاسيكياً لقياس الأضطراب في النظم الحرارية, بل تقيس الأضطراب في الهندسة العامة للفضاء. وهذه الأنتروبيا على غرار الأنتروبيا الحرارية في زيادة دائمة. كما قدم بريلمان كمية محلية ذات صلة أسماها (L-functional) , واستخدم نظريات كان قد وضعها تجيكر والكسندروف لفهم غاية تغيرات الفضاء بتاثير تدفق ريتش, وأوضح أن الفترات الزمنية بين تشكل متفرداته لايمكن أن تقل باستمرار, ومع متفردات متقاربة من بعض تصبح طريقة تدفق ريتش غير قابلة لتطبيق, نشر بريلمان نتائجه بطريقة أنيقة وبأسلوب رياضي خصب وعميق.

ردود افعال أخرى

 

ستيفن سمل (Stephen Smale) أحد الحاصلين على مدالية فيلدز في الرياضيات والذي قدم حلاً لحدسية بوانكاريه في الفضائات ذات الخمس أبعاد أو أكثر قال: “قبل خمسين عاماً كنت ولفترة طويلة أعمل على حدسية  بوانكاريه, تلك المسألة الجميلة والعصية  في الرياضيات. إن الحل النهائي على يدي غريغور بريلمان يعد حدثاً عظيماً في تاريخ الرياضيات”.

أما دونالد أوشيَ (Donal O’Shea) أستاذ الرياضيات في كلية هوليوك والمهتم بحدسية بوانكاريه فأفاد : “غير بوانكاريه رياضيات القرن العشرين حيث علمنا كيف نفكر في الأشكال المثالية التي يتضمنها نموذجنا للكون, انه لمن المرضي جداً والملهم أن ياتي حل بريلمان غير المتوقع لهذه الحدسية لمناقشة أشياء أساسية عن هذه الاشكال, ويقدم لنا نفس الشيء بالنسبة للقرن المقبل” .

خلفية تاريخية

 

 في نهاية القرن التاسع عشر كان عالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه منشغلاً بدراسة استقرار النظام الشمسي, بمعنى أم سيأتي عليها زمن تغير مداراتها وتتجه بعيداً , أو ربما تصطدم بالشمس؟ . عمله هذا أقحمه في التبولوجيا (Topology) ذلك الفرع من الرياضيات الوثيق الصلة بالهندسة والمعنى بدراسة الأشكال وتغيراتها بالشد دون التمزيق وفي جميع الأبعاد الممكنة.

لناخذ مثال بسيط عبارة عن خيط رفيع ضعه على طاولة مع لحم نهايتيه ليشكل حلقة , الآن غير من شكل الحلقة عشوائياً واحرص على أن لايتماس الخيط مع نفسه هذا هو أبسط مثال (ثنائي الأبعاد فقط) للأشكال التوبولوجية المسماة (المتفرعات المتراصة – compact manifolds) وللتحولات التوبولجية التي تطرأ عليها (التحولات التوبولجية هي تلك التحولات التي تطرأ على الشكل دون أن تتسبب بتمزيقه أو توصيل أطرافه ببعضها مثل عملية نفخ بالون أو تحويل المربع إلى دائرة بتعديل محيطه – المترجم). هذه الأشكال التوبولوجية تملأ الطبيعة من حولنا فقشر البرتقال وسطح كرة البيسبول أو سطح الكرة الأرضية كلها عبارة عن متفرعات متراصة ويمكن أن نحصل على أشكال مشوهة لها مثل في سطح البيضة. وبما أن الدائرة وغيرها من المتفرعات المتراصة ثنائية الأبعاد يمكن وصفها بمعادلة على أنها كل النقاط التي تبعد بمسافة ثابتة عن نقطة معينة (نقطة المركز) , فمن الطبيعي الحديث عن الأشكال ثلاثية الأبعاد ورباعية الأبعاد و … إلخ . هذه الاشكال من الصعب علينا تصورها لاننا نعيش بمكان ثلاثي الأبعاد, مع ذلك فان التجريد الرياضي يمكننا من وصفها ودراستها في الأبعاد الأعلى كما في حالة البعدين والثلاث أبعاد.

في التبوبولجيا يعتبر الشكلان متكافئان إذا أمكننا أن نحول أحدهما للأخر بصورة مستمرة بالاتجاهين (تغييرات لا تتضمن قصاً أو توصيلاً, أي يتحول أحدهما للآخر بتحول توبولجي كما بينا سابقاً – المترجم) لذا فأن الدائرة كما القطع الناقص الأشكال التي بامكانك رسمها بالخيط على الطاولة في تجربتنا الذهنية السابقة هي أشكال متكافئة توبولجياً. الأمر مشابه لما في هندسة أقليدس (geometry of Euclid), لنفترض أن بإمكانك نقل شكل معين دون أن تغير في زواياه أو أطوال أضلاعه, عند ذلك بإمكانك أن تتحدث عن الشكلين وكأنهما شكل واحد ما يصدق على أحدهما يصح على الآخر والعكس بالعكس, كما في المثلثات المتشابهة. من منظور التوبولجيا فإن سطح كرة البيغ بونغ هو مكافئ توبولوجي لسطح البيضة!

في عام 1904 تسائل هنري بوانكاريه فيما إذا كان الشكل ثلاثي الأبعاد الذي يفي باختبار الاتصال البسيط (simple connectivity test) يعتبر مكافئ توبولوجياً للحلقة الاعتيادية ثلاثية الأبعاد, الحلقة ثلاثية الأبعاد هي مجموعة النقاط التي تبعد بمسافة واحدة عن نقطة معينة لكن بفضاء رباعي الأبعاد (شيء ما مكافئ للدائرة حيث هي مجموعة النقاط التي تبعد بمسافة ثابتة هي نصف القطر عن نقطة ثابتة وهي المركز, وليكن بحسابنا أننا نرسم الدوائر ثنائية الأبعاد في فضاء ثلاثي الأبعاد وهو المكان الذي نعيش فيه – المترجم). اختبار الاتصال البسيط هو اختبار يقوم به كائن وهمي لايمكن رؤيته من الخارج حيث ينتقل هذا الكائن من أي نقطة إلى أي نقطة في الشكل دون أن يضطر إلى مغادرة الشكل. من الأشكال المتصلة اتصال بسيط هي الحلقة الكرة ثنائية الأبعاد (المقصود بها الدائرة محيطها ونقاطها الداخلية وكل شكل يكافئها توبولوجياً – المترجم) كذلك فان الكرة ثلاثية الأبعاد تعتبر متصلة اتصالاً بسيطاً. أما سطح حلوى الدونت (doughnut) فلا يتمتع بالاتصال البسيط حيث أن الحلقة المفرغة في داخلها تمثل قطعاً في الاتصال .

وهذا هو السؤال الذي أصبح يعرف لاحقاً “بحدسية بوانكاريه”. وبتوالي السنين حاول كثير من علماء الرياضيات المهتمين بسد الثغرات في الرياضيات حل المسألة ابتداءاً ببوانكايه نفسه , وايتهيد, بنج, بابوكريكوبولس, ستولنجز , وغيرهم. وفي حين أدت جهودهم بالغالب إلى انتاج رياضيات جديدة هامة إلا ان مساعي الإثبات كانت دائما ما يُعثر فيها على خلل. في العام 1961 جائت الأخبار الجيدة حيث أثبت ستيفن سمل من جامعة كاليفورنيا (الآن في جامعة مدينة هونغ كونغ ) أثبت أن الحدسية صحيحة للأبعاد من خمس فما فوق. نسخة حدسية بوانكاريه للأبعاد الأعلى كانت أكثر صرامةً. اقترحت مبرهنة سمل أن حدسية بوانكاريه للأبعاد العليا تختلف عنها في الأبعاد الأربعة والثلاثة. وقد تأكدت هذه الفكرة عندما أعلن مايكل فريدمان من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو (الآن في محطة Q للأبحاث التابعة لمايكروسوفت) أنه توصل لبرهان حدسية بوانكاريه في أربع أبعاد وكان عندها قد استخدم تكنيك رياضي مختلف تماماً عما استخدمه سمل. نال كل من سمل (عام 1966) وفريدمان(عام 1986) ميداليات فيلدز على أعمالهم.

لكن بقي هناك حدسية بوانكاريه بنسختها الأصلية لثلاثة أبعاد دون حل, وجرت بهذه الفترة محاولات لدحضها أو اثباتها دون جدوى. وقد كانت هناك ثلاث تطورات كان لها دور حاسم في حل بريلمان للحدسية.

 

 

 

 

حدسية التركيب الهندسي

 

أول هذه التطويرات كانت حدسية وليم ثورستون في التركيب الهندسي (William Thurston’s geometrization conjecture). حيث وضع برنامج لوصف الأشكال ثلاثية الأبعاد بصورة رصينة, كما كان قد تم بالنسبة للأشكال ثنائية الأبعاد في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. بحسب ثورستون فإن الأشكال ثلاثية الأبعاد تتركب من أجزاء يحكمها واحد من ثمانية عناصر هندسية, كما يمكن إلى حد ما تقسيم تلك الأجزاء إلى أجزاء أبسط ومن هنا جاء أصل التسمية (حدسية التركيب الهندسي(

ما يميز حدسية ثورستون في التركيب الهندسي أنها تمثل حالة أعم لحدسية بوانكاريه. كان يعتقد أن تأكيد هكذا أمر جرئ يعتبر شيئاً بعيداً عن المتناول (ربما موضوع من مواضيع أبحاث القرن الثاني والعشرين), لكن ثورستون كان قد أثبت الحدسية لعدد كبير من الأشكال (متفرعات هانك – Haken manifolds) وفي حين أن أساليب ثورستون لم تطبق على الكرات ثلاثية الأبعاد. لكن عمل ثورستون سلط الضوء على الدور المركزي لتخمين بوانكاريه ووضعها في سياق رياضي أوسع بكثير.

غايات الفضاءات Limits of spaces-

التطوير الثاني يبدو انه لا علاقة له بحدسية بوانكاريه حتى وقت متأخر. الأمر له علاقة بكيفية تحديد غايات الفضاءات, وهو مشابه لما تعودنا عليه في حساب “التفاضل والتكامل” . لنتأمل مفارقة زينو: لنفرض أنك تبعد عن جدار ما بمسافة معينة وتتحرك باتجاهه بمراحل بكل مرحلة تقطع نصف المسافة بينك وبين الجدار. انت لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تصل للجدار حيث يلزمك عدد لانهائي من المراحل ولكن ما نعلمه قطعاً أنك سوف لن تتجاوز الجدار أبداً حيث سيمثل الجدار غاية لحركتك. الأمر مشابه عندما يتعلق بالفضاءات والأشكال, لنتخيل شكلاً يتغير باستمرار حيث يتخذ شكلاً جديداً بكل مرحلة (الامر مشابه لمراحل حركتك باتجاه الجدار) ولنفترض أن هذه التغيرات تتسم بالسلاسة أو كما تعود علماء الرياضيات أن يطلقوا عليها –تحولات ناعمة smooth –  .  إن غايات الأشكال مختلفة تماماً حيث أنها قد تكون ناعمة وقد تختلف بنقاطة معينة “متفردة – singularities ” عن بقية الأشكال المتقاربة لها. تخيل معي أنبوباً على شكل حرف Y يتقلص قطره مع مرور الزمن باستمرار نحن نعلم أن غاية الشكل هو حرف Y لكن بقطر يساوي صفر. وعليه فإن نقطة الالتقاء التي في الحرف ستختلف عندما نصل لغاية التغيير في الانبوب Y حيث ستتحول إلى نقطة بعد أن كانت تمثل حلقة بكل الأشكال التي تتقارب إلى الشكل الأصلي. مثل هذه الأشكال التي تختلف بها الغايات عن الأشكال المتقاربة, تسمى غايات فضاءات الكسندروف على اسم الرياضياتي الروسي أي دي الكسندروف (A. D. Aleksandrov) الذي كانت له أسبقية وضع النظرية الخاصة بها .

المعادلات التفاضلية

 

 التطوير الثالث الذي استخدمه بريلمان كان المعادلات التفاضلية (differential equations) هذه المعادلات تتضمن معدّلات التغير في كمية مجهولة من المعادلة. على سبيل المثال معدل التغير في موضع تفاحة تسقط باتجاه الأرض. يُعبر عن المعادلة التفاضلية يدخل بها التفاضل والتكامل. يذكر أن من توصل لصيغ المعادلات التفاضلية كان السير اسحاق نيوتن في سعيه لوصف كيف تتحرك الأجسام المادية (تفاحة , قمر, … إلخ) بتأثير قوة خارجية. ويستخدم الفيزيائيون في الوقت الحاضر المعادلات التفاضلية لوصف ظواهر عديدة, حركة المجرات والنجوم, تدفقات الهواء والماء, التوصيل الحراري وحتى عمليات تخليق وإبادة وتفاعل الجسيمات دون الذرية مثل الإلكترونات والبروتونات والكواركات.

في قصتنا حول حدسية بوانكاريه تلعب معادلة التوصيل الحراري دوراً خاصاً, كان أول من تعامل مع هذا الموضوع جوزيف فورييه (Joseph Fourier) في كتابه الصادر عام 1822 ” نظرية تحليلية في الحرارة – Théorie Analytique de la Chaleur”. لمعادلة الحرارة خاصية مهمة وهي أن التفاوتات في توزيع درجة الحرارة تتناقص باستمرار مع تقدم الوقت.

تطبق هذه المعادلة على مشاكل الهندسة التوبولوجيا كما تطبق على مسائل الفيزياء لكن التغير هنا يمثل التغير بكميات هندسية مثل الانحناء وليس معدل الحرارة. قطعة الورق على الطاولة تمتلك انحناءً يساوي صفاراً أما الكرة فلها انحناء موجب يكون كبير بالنسبة للكرات الصغيرة ولكنه صغير بالنسبة للكرات الكبيرة مثل سطح الأرض. لذلك قد يتوهم البعض أنها مسطحة. بالنسبة للإنحناء السالب بالإمكان ضرب مثال عليه بالجرس إذا نظرت إليه من منظور شخص بداخله.

كانت أول مرة تدخل فيها المعادلات التفاضلية في مشاكل هندسية وتوبولوجية عام 1963 على يد ايلس وسيمبسون في ورقة بحثية كانا قد قاما بنشرها تتناول “معادلة تطبيق التوافق – harmonic map equation” وهي نسخة خطية من معادلة فورييه للحرارة. وقد ثبت أن هذه الطريقة مناسبة لمعالجة مشاكل في التوبولوجيا والهندسة والآن هناك الكثير من المعادلات غير الخطية المهمة – معادلات تدفق متوسط الانحناء , التدفق القياسي للانحناء, وتدفق ريتشي-

يلحظ كذلك معادلة يانغ ميلز التي دخلت عالم الرياضيات قادمة من حقل فيزياء الكم. في العام 1983 تم استخدام هذه المعادلة لوضع قيود على الأشكال التوبولوجية رباعية الأبعاد, كانت هذه النتائج قد ساعدت على إشاعة الأمل بالحصول على نتائج هندسية مدعومة بحجج تحليلية قوية من إدخال التفاضل والتكامل والمعادلات التفاضلية  

تدفق ريتشي

 

المعادلة التفاضلية التي لعبت دوراً كبيراً بحل حدسية بوانكاريه كانت معادلة تدفق ريتشي. والتي أعيد اكتشافها بصورة مستقلة مرتين مختلفتين. في الفيزياء كانت قد ضمتها أطروحة فريدان (Friedan 1985) على الرغم من أنها وردت كذلك في عمل هونركاب (Honerkamp – 1972) . أما في الرياضيات فقد تضمنتها ورقة ريتشارد هاملتون البحثية في العام 1982. وفي حين كان عمل الفيزيائيين يتضمن استخادم معادلة ريتشي في العمل على زمرة إعادة التطبيع (renormalization) لنظرية الحقل الكمومي. كان هاملتون مهتماً في التطبيقات الهندسية لمعادلة تدفق ريتشي. هاملتون كان في جامعة كورنيال والآن هو في جامعة كولومبيا.

في الجانب الأيسر من معادلة تدفق ريتشي كمية تعبر عن مدى التغيرات الهندسية بمرور الزمن – مشتقة لتنسر متري (metric tensor)-  كما يود علماء الرياضيات أن يعبروا عنها. أما على الجانب الأيمن فهو تنسر ريتشي وهو مقياس لمدى انحناء الشكل وهو مبني على أساس نظرية ريمان في الهندسة (1854) ويظهر كذلك في معادلات اينشتاين للنسبية العامة (1915) تلك المعادلات التي تحكم التفاعل بين المادة والطاقة, انحناء الزمكان, وحركة الأجسام المادية.

معادلة تدفق ريتشي توافق بسياق هندسي معادلة الحرارة لفورييه. كانت الفكرة هي مثلما أن معادلة فورييه تشتت التغير بدرجات الحرارة فإن معادلة ريتشي سوف تشتت التشوهات بالأشكال الهندسية وبالتالي توصلنا لشكل منتظم مكافئ توبولوجياً للشكل الأصلي. في العام 1982 لاحظ هاملتون أن تدفق ريتشي يحول الأشكال التي تتمتع بانحناء إيجابي والتي تكون متصلة اتصالاً بسيطاً (ذات الفتحات المتراصة ثلاثية الأبعاد) تحولها إلى شيء أشبه بالكرة ثلاثية الأبعاد. بينما بالنسبة للأشكال التي تتمتع بانحناء ليس ايجابياً بالفعل فإن معادلات تدفق ريتشي تتصرف بسلوك غريب ومعقد نوعاً ما, حيث أنه في الوقت الذي قد تتطور أجزاء معينة من الشكل لصورة أكثر سلاسة فان أجزاءً معينة قد تصل لمتفردات, وهنا تبرز صعوبة كبيرة. لكن كان من المؤمل أن تحليل ثورستون للتركيب الهندسي قد يحل المشكلة.

ريتشارد هاملتون

 

كان هاميلتون هو من يقف فعلياً خلف تطوير نظرية تدفق ريتشي في الرياضيات سواء من ناحية المفاهيم أو تقنياً, ومن بين النتائج الكبيرة له ورقة بحثية نشرها عام 1999. والتي بينت أن في تدفق ريتشي يتحول الإنحناء إيجابياً قرب نقاط التفرد. وفي ذات الورقة البحثية استخدم هاملتون نظرية الانهيار (collapsing theory) والتي لعبت دوراً حاسماً في برهان بريلمان في ما بعد.

كان هاميلتون يأمل بأن يستخدم تدفق ريتشي كأداة لحل حدسية بوانكاريه إضافة إلى مسائلة هندسية أخرى لكن كانت هنالك عقبة كبيرة وهي, عدم وجود فهم كافي لعملية تشكل نقاط التفرد في التدفق, الأمر مشابه لتشكل الثقوب السوداء في الكون. وبرغم أن هاملتون فتح أفقاً جديداً أمام الحدسية وكذلك أسهم آخرون بمحاولة التغلب على الصعوبات من خلال استخدام أدوات التوبولوجيا التقليدية لكن محاولات الإثبات أو النقض لحدسية بوانكاريه وصلت لطريق مسدود مرة أخرى.

كان هذا الوضع قائماً حتى العام 2000 حين كتب جون ميلنور (John Milnor) مقالاً يصف فيه حدسية بوانكاريه ومحاولات إيجاد الحل لها. حيث كتب أنه لم يكن من الواضح فيما إذا كانت الحدسية صحيحة أم لا كذلك فإنه ليس من الواضح حتى الطريقة التي من الممكن أن تقرر ذلك.

بريلمان يأتي بالحل

 

كانت مفاجئة كبيرة عندما أعلن غريغور بريلمان من خلال سلسلة مسودات عرضها على ArXiv.org  في عامي 2002 و 2003 , أنه وجد الحل ليس فقط لحدسية بوانكاريه إنما حتى لحدسية التركيب الهندسي لثورستون .

إن جوهر حل بريلمان هو تدفق ريتشي كما أن تطبيق التدفق على التوبولوجيا اظهر ليس فقط براعة تقنية بل حتى أفكاراً جديدةً. أحدها هو الدمج بين نظرية الانهيار في هندسة ريمان مع تدفق ريتشي لإعطاء فهم لأجزاء الشكل الذي انهار على فضاء بأبعاد أقل. كما أنه قد أدخل كمية جديدة, أطلق عليها الأنتروبيا, وهي تختلف عن الأنتروبيا في الميكانيكا الحرارية حيث أنها لاتقيس الاضطراب على المستوى الذري كما في النظرية الكلاسيكية للتبادل الحراري, بل أن أنتروبيا بريلمان تقيس مقدار اللانتظام في الهندسة الكلية للفضاء. وهي على غرار الأنتروبيا الحرارية تتزايد مع الوقت بمعنى أن لا عودة بالزمن إلى الوراء. وباستخدام دالة الأنتروبيا ودالة محلية اخرى أسمها دالة طول-L (the L-length functional) , كان بريلمان قادراً على فهم طبيعة نقاط التفرد التي تنشأ في تدفق ريتشي. وكان هذا أمراً بغاية الأهمية.

بمجرد فهم طريقة تكون نقاط التفرد أصبح من الواضح كيف اقتطاع أجزاء من الأشكال بالقرب من نقاط التفرد ليواصل تدفق ريتشي طريقه بتحويلها لكرة ثلاثية الأبعاد. ومع هذه النتائج في المتناول فإن بريلمان أظهر أن الأزمنة الفاصلة بين ظهور نقطة تفرد والأخرى التي تليها لايمكن أن تصل إلى جدار زينو الذي ذكرناه سابقاً: تخيل أن الفاصل بين زمن ظهور أول نقطتي تفرد هو 1 ثانية وبين ثاني وثالث نقطة تفرد هو 0.5 من الثانية … وهكذا. إذا كان لهذا أن يحدث فان رياضيات تدفق ريتشي سوف لن تعمل بالشكل الصحيح.إن  البرهان على أن الأزمنة بين ظهور نقطتي تفرد تتباعد ولا تتقارب هو بعيد المنال ربما لكن مع ما توصل له بريلمان فان الأمر أصبح ممكن البلوغ.

نشرت مسودات بريلمان في معهد ماسوشستس للتكنولجيا, جامعة ولاية نيويورك, ستوني بروك, برنستون , وجامعة ولاية بنسلفينيا, وانطلقت الجهود في مختلف أنحاء العالم لفهم جهود بريلمان وعمله الرائد. في الولايات المتحدة كتب بروس كلاينر و جون ولت مجموعة من الملاحظات التفصيلية على عمل بريلمان ونشرت على شبكات الانترنت ونشرت النسخة النهائية على ArXiv.org في أيار 2006 . أما المقال المُحكّمْ فقد نشر العام 2008 في “Geometry and Topology” .

وكانت هذه هي المرة الأولى التي يسهم فيها الانترنت في حل مشكلة علمية بهذه الأهمية. واجه البرهان معارضيه وثبت أخيراُ وبشكل حاسم أن بريلمان حل بالفعل حدسية بوانكاريه بعد قرن من الزمن على إطلاقها. وكانت قد ظهرت بعد عمل بريلمان ورقات بحثية لباحثين أمريكان وصينيين تعطي نهجاً بديلاً لخطوات حل بريلمان الأخير لحدسية التركيب الهندسي.

إن برهان بريلمان على حدسية بوانكاريه يعتبر خطوة رياضية جبارة تسببت بظهور أفكار وأساليب جديدة في الهندسة والتحليل وبالتاكيد فان المستقبل يعد بالكثير.

يذكر أن بريلمان رفض جائزة المليون دولار التي يقدمها معهد كلاي معتبرا أن من يستحقها هو ريتشارد هاملتون لأنه من استخدم تدفق ريتشي بإثبات الحدسية ، ولنفس السبب فقد رفض ميدالية فيلدز التي تعتبر أرقى جائزة ممكن لرياضياتي أن ينالها وهي تعادل جائزة نوبل في بقية العلوم مع أنها تمنح كل أربع سنوات وتمنح مشاركة لأربع رياضياتيين على الأقل – المترجم.

 رابط التدوينة على موقع معهد كلاي :

 http://www.claymath.org/poincareا