تكشف التجارب التي تقيس عمر النيوترونات عن تناقض محير وغير محلول، ففي حين قيست هذه الفترة العمرية بدقة بلغت فقط 1% باستخدام تقنيات مختلفة، فإن هذا التضارب الظاهري في القياسات يوفر إمكانية مميزة للتعلم عن الفيزياء غير المكتشفة بعد.

في مايو 2018، نجح فريق يقوده علماء من قسم العلوم النووية في مختبر لورانس ببيركلى التابع لوزارة الطاقة الأمريكية (Berkeley Lab) باستخدام حواسيب فائقة القدرة، نجحوا في حساب كمية معروفة باسم (اقتران محور النواة) أو (شحنة النواة المحورية) (gA) -وهو أمر أساسي لفهمنا لحياة البروتون- بدقة لم يسبق لها مثيل وتتيح طريقتهم مسارًا واضحًا لمزيد من التحسينات التى قد تساعد بدورها في حل التناقض التجريبي.

ولتحقيق نتائجهم صنع الباحثون شريحة تجريبية من كون محاكي لتزويدنا بنافذة على العالم دون الذري ونشرت الدراسة على الانترنت في الثلاثين من مايو 2018 في مجلة نيتشر (Nature).

نظرًا لاختلاف كتلتهما الذرية نجد أنه يمكن للنيوترون أن يتحول الى بروتون* منتجًا جسيم بيتا السالب (إلكترون ذا طاقة عالية) ومعه جسيم النيوترينو المضاد، وهذه العملية لا تعتمد فقط على اختلاف الكتل لكن أيضا على اقتران محور الذرة والذي يمثل الاقتران بين البروتون والنيوترون، فكما أن البروتونات والنيوترونات لديهما شحنة كهربية تتأثر بدورها بالمجال الكهرومغناطيسى فإن الأنوية لديها حساسية لما يعرف بالقوة النووية الضعيفة والتى تسبب انبعاث جسيم بيتا محولًا النيوترون إلى بروتون.

في هذا الرسم التوضيحي، تمثل الشبكة الموجودة في الخلفية الشبكة الحسابية التي استخدمها علماء الفيزياء النظرية لحساب اقتران المحور النواة. تحدد هذه الخاصية كيفية تفاعل دبليو بوزون (W Boson) (خط متموج أبيض) مع أحد الكواركات في نيوترون (كرة شفافة كبيرة في المقدمة)، ينبعث منها إلكترون (سهم كبير) ومضاد النيوترينو (سهم منقط) في عملية تسمى تحلل بيتا. تحول هذه العملية النيوترون إلى بروتون (كرة شفافة بعيدة). 

تجربة حساب اقتران المحور

(Credit: Evan Berkowitz/Jülich Research Center, Lawrence Livermore National Laboratory)

بالإضافة إلى عمر النيوترونات، تستخدم القياسات الدقيقة أيضًا لعملية قياس اضمحلال النيوترون لاستكشاف فيزياء جديدة تتجاوز النموذج القياسي (The Standard Model)، ويسعى علماء الفيزياء إلى حل التناقض في فترة عمر النيوترون بالنتائج التجريبية التي تعين قيمة اقتران محور النواة (gA) بطرق أكثر دقة.

لجأ الباحثون إلى كروموديناميكا الكم (QCD) (الكروموديناميكا هي نظرية حول التفاعل القوي بين الكواركات والغلوونات)، وتعتبر حجر الزاوية للنموذج القياسي الذي يصف كيفية تفاعل الكوارك والغلوون (Gluon) مع بعضهم البعض، حيث أن الكواركات والغلوونات هي اللبنات الأساسية للجسيمات الأكبر حجمًا مثل البروتونات والنيوترونات، كما تساعد ديناميكيات هذه التفاعلات في تحديد كتلة البروتونات والنيترونات بالإضافة إلى شحنة محور النواة (gA).

لكن العمل بواسطة كروموديناميكا الكم (QCD) يلازمه تعقيد حيث أن إنتاج هذه الكميات يستلزم وجود حواسيب فائقة القدرة، ففي آخر دراسة اجريت حول الموضوع استخدم العلماء محاكاة رقمية تعرف باسم الشبكة الكمية الكروموديناميكية لتمثيل هذه الكمية الكروموديناميكية (QCD) على هيئة شبكة محددة.

ونتيجة أن الطبيعة لا تحترم دائمًا مبدأ التشابه (Symmetry) (بمعني أنه لا يمكن التنبؤ بتلك التفاعلات على الورق كما فى التفاعلات الكميائية على سبيل المثال، بل يوجد كم من الاحتمالات القابلة للحدوث ولا يمكن تحديد أي تفاعل هو الحادث إلا بالتجربة والقياس.) في التفاعلات ما دون الذرية فإن شحنة محور النواة لا يمكن تحديدها إلا من خلال التجارب المعلمية أو التنبؤات النظرية باستخدام الشبكة الكمومية الكروموديناميكية (QCD).

تنبؤات الفريق النظرية الحالية لشحنة محور النواة الكمومية تعتمد على محاكاة قطعة صغيرة من الكون (حجم به عدد صغير من النيوترونات في كل جانب). تتم المحاكاة أثناء تحول النيوترون إلى بروتون بداخل هذه القطعة الصغيرة من الكون للتنبؤ بما يحدث في الطبيعة.

ويحتوي هذا النموذج الكوني على نيوترون واحد وسط بحر من أزواج الكواركات والتى تعج بالحركة في هذا الفضاء الحر الذي يبدو فارغًا ظاهريًا.

يقول والكر لاود: “كان من المفترض أن يكون حساب شحنة محور النواة (gA) أحد الحسابات القياسية البسيطة التي يمكن استخدامها لإثبات أنه يمكن استخدام الشبكة الكمية الكورموديناميكية (QCD) في أبحاث الفيزياء النووية، ولإجراء اختبارات دقيقة تبحث عن فيزياء جديدة في محاور الفيزياء النووية”، وهو أحد العاملين في قسم العلوم النووية في مختبر بيركلي، الذي قاد الدراسة الجديدة. بعنوان “إنها كمية صعبة التحديد للغاية”.

يرجع ذلك إلى أن حسابات هذه الشبكة تتعقد بفعل نتائج إحصائية مضطربة إلى حد غير عادي والتى نجحت في إحباط نتائج حسابات الشحنة المحورية للنواة حيث أكد بعض الباحثين سابقًا بأن هذا يستلزم جيل جديد من أقوى وأدق الحواسيب الفائقة للوصول لدقة تبلغ 2 في المئة بحلول عام 2020.

وقد استحدث الفريق المشارك في آخر دراسة طريقة لتحسين حساباته الخاصة بشحنة النواة المحورية (gA) باستخدام نهج غير تقليدي وحواسيب فائقة في مختبر أوك ريدج الوطني (Oak Ridge Lab) ومختبر لورانس ليفرمور الوطنى (Livermore Lab)، وشملت الدراسة علماء من أكثر من اثنى عشر مؤسسة، بما في ذلك علماء من جامعة بيركلي وعدة مختبرات وطنية أخرى تابعة لوزارة الطاقة. 

كما قال الباحث الرئيسي وباحث ما بعد الدكتوراة في مختبر بيركلي للعلوم النووية شيا تشنغ “الحسابات الماضية تم تجميعها في وسط الظروف الأكثر ضوضاء وتشويشًا قد أعمتنا عن النتائج التي كنا نسعى إليها.”

وأضاف والكر لاود “لقد وجدنا طريقة لحساب شحنة محور النواة مبكرًا وقبل أن “تنفجر” هذه الضوضاء بوجهنا!”

قال تشانغ “لدينا الآن تنبؤات نظرية محضة عن عمر النيوترون وهى المرة الأولى التي يمكننا فيها التنبؤ بأن عمر النيوترونات يتوافق مع التجارب وكان هذا نتاج عمل مكثف ومتواصل لمدة عامين لمجموعة من العلماء العظماء الذين دربوا على هذا العمل”

تفرض الحسابات الأخيرة قيودًا على فرع من فروع الفيزياء النظرية التى تتجاوز النموذج القياسي (The Standard Model) وهى قيود تتجاوز هذه القيود التي تضعها تجارب اصطدام الجسيمات القوية في مسارع الهادرونات الكبير في سيرن (CERN)، ولكن هذه الحسابات ليست دقيقة كفاية لتحديد ما إذا كانت هذه الفيزياء الجديدة تختبئ وراء حسابات شحنة النواة المحورية (gA) وحساب فترة العمر للنيوترونات.

كما لوحظ أن العامل الأساسي في هذه الحسابات هو توفير المزيد من الطاقة الحاسوبية فليس علينا تغيير الطريقة المتبعة في الحسابات كما قال والكر لاود وتشانغ.

كما بنى العمل الأخير على عقود من البحث والموارد الحاسوبية لمجتمع الشبكة الكروموديناميكية المعتمد على قاعده بيانات (MILC) وهى مصدر مفتوح لمكتبة برمجيات خاص بالشبكة الكروموديناميكية الامريكة.

اعتمد الفريق بشدة على قوة تيتان (Titan) وهو حاسوب فائق في مختبر أوك ريدج (Oak Ridge Lab) المعد بوحدة تجهيز الرسومات أو (GPUs) التى تطورت منذ استخدامها المبكر في تسريع ألعاب الفيديو إلى تطبيقات حالية في المصفوفات الكبيرة لمعالجة الخوارزميات المعقدة ذات الصلة بالعديد من مجالات العلوم.

حسابات اقتران محور النواة تتطلب حوالي 184 مليون ساعة معالجة في حاسوب تيتان (Titan) وهو ما يعادل ستمائة ألف عام بالحاسوب العادي.

وبينما كان يعمل الباحثون من خلال تحليلهم لهذه المجموعة الهائلة من البيانات الرقمية أدركوا أن الأمر يحتاج إلى مزيد من التحسينات للحد من عدم اليقين في حساباتهم.

وتلقى الفريق مساعدة من موظفي مرفق أوك ريدج للحوسبة للإستفادة من تخصيص 64 مليون ساعة تيتان بكفاءة وتحولوا أيضًا إلى برنامج الحوسبة متعددة البرامج والمؤسسات في مختبر ليفرمور (Livermore Lap)، مما أتاح لهم مزيدًا من وقت الحوسبة لحل حساباتهم وتقليل هامش عدم اليقين إلى أقل من 1 في المئة.

مع مزيد من الإحصاءات باستخدام الحواسيب فائقة القدرة، يأمل فريق البحث في خفض هامش عدم اليقين إلى حوالي 0.3 في المائة. وقال تشانغ “هذه هي النقطة التي يمكننا فيها البدء بالتمييز بين النتائج من طريقتين تجريبيتين مختلفتين لقياس عمر النيوترون. وهذا دائمًا هو الجزء الأكثر إثارة: عندما يكون للنظرية ما تقوله حول التجربة والنتائج.”

    وأضاف: “مع مزيد من التحسينات، نأمل أن نتمكن من حساب الأشياء التي يصعب أو حتى من المستحيل قياسها في التجارب المعملية.”

   بالفعل، تقدم الفريق بطلب للحصول على حاسوب فائق من الجيل التالي في مختبر أوك ريدج (Oak Ridge) يسمى (Summit)، والذي من شأنه تسريع العمليات الحسابية بشكل كبير.

بالإضافة إلى الباحثين في مختبر بيركلي وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، ضم الفريق العلمي أيضًا باحثين من جامعة نورث كارولينا، ومركز أبحاث (RIKEN BNL) في مختبر بروكهافن الوطني ، ومختبر لورنس ليفرمور الوطني، ومركز جوليش للأبحاث في ألمانيا، وجامعة ليفربول في المملكة المتحدة وكلية وليام وماري وجامعة روتجرز وجامعة واشنطن وجامعة غلاسكو في المملكة المتحدة وأخيرًا منشأة مسارع توماس جيفرسون الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية.

أحد المشاركين في الدراسة هو عالم في المركز الوطني لأبحاث علوم الطاقة (NERSC). يعد جهاز الكمبيوتر الفائق Titan جزءًا من مرفق أوك ريدج للحوسبة (OLCF). حيث (NERSC) و (OLCF) هما منشآتين تابعتين لوزارة العلوم.

تم دعم هذا العمل من خلال برامج البحث والتطوير الموجهة للمختبرات في مختبر بيركلي، ومكتب العلوم التابع لوزارة الطاقة في الولايات المتحدة، وبرنامج منح جائزة وزارة الطاقة للوظيفة المبكرة، وشركة (NVIDIA) والبحوث الصينية الألمانية المشتركة. ومشاريع مؤسسة الأبحاث الألمانية والمؤسسة الوطنية للعلوم الطبيعية في الصين، و(RIKEN) في اليابان، ومؤسسة ليفرهولم ترست، ومعهد كافلي للفيزياء النظرية التابع لمؤسسة العلوم الوطنية، وبرنامج الأثر التجريبي والحديث للوزارة على النظرية والتجربة (INCITE) برنامج لورنس ليفرمور الوطني للحسابات متعددة البرامج والمعامل في المختبر من خلال جائزة المستوى الأول للتحدي الكبير.

*أن النيوترون يحاول الوصول إلى الحالة أكثر استقرارًا مما هو عليه ويصل إلى هذه الحالة بفقد جزء من كتلته ليتحول إلى بروتون (الأقل فى الكتلة) ولحفظ الشحنة الكهربية، بما أن النيوترون جسيم متعادل فعندما يتحول إلى بروتون (الموجب الشحنة) ينشأ عن ذلك انبعاث إلكترون سالب بطاقة كبيرة (بيتا) ويأتي ذلك متبوعًا بجسيم نيوترينوا المضاد.

المصدر:

PhysLink.com: Physics and Astronomy Online “Life and Death of a Neutron” (Jun 15, 2018). [Online] Avaliable:https://www.physlink.com/News/life-death-of-neutron.cfm?fbclid=IwAR1B1Bh2hX6p3uMJh1Stf0la1XunogKl5LHgV8TQ3wHJBQSuRAwgTc_FA1I