(نشر المقال في المجلة العدد 43 أيضاً بعنوان: ريتا ليفي-مونتالشيني المرأة التي مارست البحث العلمي وهي هاربة من الموت)

في بيت مميز بالثقافة العالية والفكر الحر للوالدين ويحفظ الأدوار التقليدية بين الرجل والمرأة بنمط كلاسيكي، ولدت ريتا مع توأمها باولا في العام 1909 بمدينة روما. الأب مهندس كهربائي ومختص بالرياضيات والأم رسامة، والأطفال أخذوا حب الفن من أمهم، جينو الأخ الأكبر صار معمارياً ونحاتاً شهيراً وباولا أصبحت لاحقاً رسامة شهيرة وريتا ذاتها أرادت أن تسلك طريقاً مشابهاً غير أن احساسها العميق بالتعاطف أخذها نحو الطب عندما شاهدت جيوفانا بروتو مدبرة المنزل التي كانت بمثابة الأم لهم تموت نتيجة لسرطان المعدة.

ذلك التعاطف العميق الذي أخذته من والدتها كما تقول ريتا وتلك النزعة التقليدية التي تعلمتها عن طبيعة العائلة من عائلتها جعلتها تخبر والدها أنها لن تتزوج ولن يكون لها أطفالٌ أبداً. فلن تتقبل هذا الأمر ولن تتقبل الدور التقليدي للمرأة وستنذر حياتها الطويلة للعلم “بلا مرح” كما تصف، فقد قضت مسيرتها العملية بشغف عميق دون اجازات ولم ترتبط برجل.

سنعود بالماضي لنطلع على سيرة عالمة الاعصاب الإيطالية ريتا ليفي-مونتالشيني التي اخذت جائزة نوبل للطب في العام 1986 عن اكتشافها لعامل نمو العصب (Nerve growth factor) في بداية الخمسينات مناصفة مع ستانلي كوهين الذي ساهم في الاكتشاف كما اكتشف عامل نمو البشرة (Epidermal growth factor)..

هذه هي القصة تماماً، لكن الأمر الذي استوقفني ولفت انتباهي هو ايمان المعالجة كاري بالوصل إلى الوعي وترويجها له. لقد أقنعت تارون بإنفاق آلاف الدولارات على الدورات التدريبية عبر الإنترنت وورشات العمل الشخصية.

حياتها

دخلت كلية الطب في جامعة تورين ودرست على يد استاذها جيوسيبي ليفي لتتخصص بالطب النفسي. ومرت السنوات حتى حل العام 1939 عندما أعلنت في إيطاليا احكام فاشية تمنع اليهود من تولي المناصب العلمية بل وأصبحت حياتها في خطر لاسيما وأنها وعائلتها يمكن أن يساقوا الى الهولوكوست لكونهم من أصول يهودية.

بقدر ما كان الأمر نادراً وصعباً فقد كان شيئاً رائع أن تواصل ريتا ليفي مونتالشيني ابحاثها على الأعصاب عبر تشريح اجنحة الدجاج بينما كانت مع عائلتها في ملتجأ لهم مع أسرة من اصدقاءهم من غير اليهود الذين وفروا لهم الحماية بمنزلهم في منطقة بعيدة عن مدينتهم.

عندما نفكر بالأمر، فإن الأبحاث الطبية بذاتها أمر يصعب على الشخص القيام به لوحده، فهي ليست أمراً بسيطاً ولا يمكن القيام به عبر الحواسيب أو الدوائر الكهربائية مثل مجالات أخرى كما لا تكفي القراءة لوحدها. أن تجعل لنفسك مكاناً للبحث وللتشريح بينما أنت هارب من الموت هذا أمر قد لا يمكن أن نراه في تاريخ العلماء سوى مع ريتا. لكن لا نستغرب، فالاستكشاف هو ما كان يمنحها أعظم إحساس.

سبرت ريتا ليفي مونتالشيني غوار ميادين عدة كالمؤتمرات والمختبرات والجامعات بصفتها أول امرأة تقوم بذلك، تقول أن في أحد المؤتمرات الطبية في الولايات المتحدة قيل لأول مرة “السيدات والسادة” لأنها كانت هناك، لقد كانت المرأة الوحيدة.

وبينما وجد اخوتها الجمال في الفن، تقول ريتا أن ما أخذها في الطب هو جمال الجهاز العصبي “لقد كنت أشعر أنني فنانة بقدر كوني عالمة وبحثي كان بحثاً في الفن لا في العلم”، مضت هكذا بينما تمجد الالتزام والتفاؤل لديها كميزات وليس الذكاء. هكذا لم تشعر ريتا بالوحدة أو بطول الطريق وهي تقوم بالأبحاث على مستوى منخفض جداً فأدواتها هي المشرط والمعلومات السابقة حول المجال الذي تدخل به محدودة، باختصار فالطريق طويل جداً لكن تلك النظرة لذلك الطريق بالتفاؤل مع الالتزام يفسران ما وصلت اليه.

استلمت ليفي-مونتالشيني جائزة نوبل في الطب عام 1986 وعاشت بعدها حتى العام 2012 لتكون أكبر من عالم على قيد الحياة من الحاصلين على جائزة نوبل وأول من يجتاز عمر المئة منهم.

الاكتشاف

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية استطاعت ريتا الذهاب إلى الولايات المتحدة للعمل مع استاذها الجديد فيكتور هامبرغر بجامعة واشنطن والذي كان قد اكتشف مع تلاميذه الآخرين إشكالية في تمايز ونمو الخلايا العصبية عند انفصالها عن النسيج الذي تستهدفه. وقد خرجوا باستنتاج بأن نمو وتمايز الخلايا العصبية يعتمد إلى حد كبير على النسيج الذي تستهدفه. ومع انضمام ريتا للفريق فقد لاحظوا أن الأعصاب تموت بمعزل عن النسيج الذي تستهدفه كما لاحظت ريتا أن العقد العصبية (ganglia) في الحبل الشوكي تتباين في حجمها بحسب النسيج الذي تستهدفه.

ما حدث بعد ذلك هو اكتشاف الفريق لتضخم العقد العصبية التي يعاني النسيج المستهدف لها من ورم. وقد كان تفسير ايلمر بويكر (Elmer Bueker) الذي كان مع ريتا في الفريق هو أن النسيج المتضخم يسمح بامتداد الألياف العصبية عبر مساحة أكبر مما هو عليه الحال في النسيج الطبيعي غير المتورم. لكن ريتا لم تقتنع بهذا التفسير. وبعد تدخلها في التجربة وجدت أن الأعصاب قد تميزت وكبرت. وتدريجيا في مراحل أخرى من الأبحاث التي أجرتها على المستوى الخلوي، لاحظت ليفي-مونتالشيني أن هناك مؤثر معين ينتشر ويحفز نمو الخلايا العصبية وتمايزها.

في مطلع الخمسينات بدأ تعاون ريتا مع ستانلي كوهين الذي كان قد اكتشف عامل نمو الخلايا الجلدية وكان عملهما معاً لغرض تحديد خصائص عامل النمو العصبي. وتدريجياً نجح الباحثان في عزل ذلك العامل وقد اكتشفا بأنه بروتين.

عامل النمو العصبي يمكن اعتباره حلقة وصل تنظيمية بين العصب وبين النسيج الذي يستهدفه العصب. وقد اكتشفت ليفي-مونتالشيني في مراحل لاحقة تأثير عامل النمو العصبي على الجهاز العصبي المركزي ودوره كموجه كيميائي ودوره في الجهازالمناعي وانتشاره في الدم وفي منطقة ما تحت المهاد أثناء التوتر مما قاد للتوقع بأن لعامل النمو العصبي الدور في استجابات الجسم التماثلية (homeostatic responses) واليوم يعتبر عامل النمو العصبي موضع بحث مكثف لما يعتقد بأنه يمكن أن يكون له دور في تحفيز نجاة العصبونات المتضررة. ويعتقد أيضاً أن لعامل النمو العصبي دور في رد الفعل المناعي المسبب للقضاء على خلايا بيتا في البنكرياس وهي المسؤولة عن صنع الأنسولين والتي بالقضاء عليها يحدث مرض السكري من النوع الأول. وبشكل مثير للاهتمام وجد أن نسبة من مروا بتجربة حب للأشهر الـ 12 الماضية توجد لديهم نسبة أعلى من عامل النمو العصبي في الدم ممن لم يمروا بتجربة حب مؤخراً.

 

ختاماً، قرأنا للصحفي الإيطالي ريكاردو لونا وهو يذكر عتب واستنكار كادر مجلة Wired باصدارها الإيطالي حيث كان لونا مدير تحريرها الأول وقد قرر وضع صورة ريتا ليفي-مونتالشيني على الغلاف لعدد المجلة الأول. “قالوا له كيف تضع صورة امرأة عجوز كهذه على غلاف العدد الأول للمجلة؟ أنت تقوم بخطأ كبير!” فرد ريكاردو: “مونتالشيني ليست عجوزاً، ولم تكن أبداً”. وهكذا سنحتفي بريتا ليفي-مونتالشيني في العلوم الحقيقية.

المصادر