فرنسا وبريطانيا، اليونان وتركيا، العراق وايران، الهند وباكستان وغيرها من الأمثلة التي تجعلنا نركز على الجانب السياسي في العلاقات بين المجموعات البشرية والتي تسمى حديثاً “الشعوب” وكيف أن تلك الخصومات السياسية الشهيرة تحجب مشهداً آخر بالغ القدم وطويل الأمد: جيراننا هم أقرب أقاربنا على الأرجح! 

أحد أكثر الأبحاث شهرة في مجال الفروقات الجينية بين الشعوب هو البحث الذي نشر في بي ناس (PNAS) عام 2005 والذي قامت به الباحثة الهندية سوهيني راماشاندرا (Sohini Ramachandra) وزملاءها وما زال البحث في طليعة البحوث الجينية حتى يومنا هذا. عثر الباحثون على علاقة إحصائية وطيدة بين المسافتين الجغرافية والجينية في معظم الحالات وبما ينطبق على 77% من البيانات التي تمت دراستها والتي شملت جميع السلالات الموجودة حالياً. 

لنعطي مقدمة عن الأمر، فإن البشر جينيا يمكن تقسيمهم الى مجاميع عرقية اذا ما نظرنا الى مواضع معينة في كروموسوم واي (Y Chromosome) والذي يتواجد لدى الذكور وينتقل عبر سلالات الآباء (راجع مقال كيف يعمل فحص السلالة والمجموعة العرقية). بمرور الزمن يفترض أن كروموسوم واي سينتقل كما هو عبر الأجيال، لكن بعض الطفرات تبدأ بالحدوث حتى تتمايز أنواع جديدة وتظهر سلالات جديدة كل بضعة آلاف من السنوات ومع الهجرات الجديدة. ليس هذا الكروموسوم فحسب، لكن على الأقل فإن هذا الكروموسوم فضلاً عن المادة النووية في الميتوكوندريا التي تنتقل عبر خط الأمهات يتم تناقلهما من جيل الى جيل دون أن تختلط جينات الزوجين مما يحفظ خط معين يمكن دراسة السلالة من خلاله. ما يقوم به الباحثون لفهم تلك السلالات هو باحتساب المسافة الجينية بين شخصين، أو بين مجموعتين من البشر من خلال ملاحظة الفروقات في الجينات، لنفترض أن موضعاً معيناً في جين ما يضمن النيوكليوتيدات (AA) لكنها في سلالة أخرى لنفس الجين وبنفس الموضع أصبحت (AG). 

يعرف حاصل الفروقات الجينية بشكل عام بالتمايز وهو الذي يتم احتساب المسافة الجينية بين شعبين من خلاله، أما المقياس الآخر فهو التنوع الجيني والذي يقاس عبر ما يعرف بتغاير الزيجوت (heterozygosity) والذي يشير الى كثرة الألائل من نفس الجين في نفس المجموعة والذي ينطبق عليه المثال الذي جئنا به أعلاه حول النيوكليوتيدات فعلى فرض أن لمجموعة معينة أليل واحد فهي مجموعة منخفضة التنوع، اما المجموعة التي فيها تنوع أكبر فيمكن أن نجد ثلاثة إصدارات مثلاً من نفس الأليل لموقع معين في جين معين.

أما المسافات الجغرافية فيمكن احتسابها عبر نقاط معينة على الخارطة وقد احتسبها الباحثون بما يعرف بالمسافة الدائرية الكبرى (great circle distance) أو المسافة الكروية (spherical distance) والتي تستخدم لقياس المسافات بين المواقع على سطح الأرض (بما أن الأرض كروية). وقد تم مد النقاط على مساحة الأرض بأكملها، مع تجاهل الأنهر والمضايق حيث يُعرف في مجال دراسة الهجرات البشرية السحيقة أن كثيراً من الهجرات الكبرى حدثت في العصر الجليدي حين كانت القارات متصلة بسبب الجليد مثل المساحة بين قارتي استراليا وأمريكا الشمالية مع آسيا.

ما قام الباحثون باحتسابه هو المسافة الجينية بين كل مجموعتين عرقيتين في البيانات المتوفرة ومن ثم تطبيق نموذج انحدار احصائي للتنبؤ بالفارق. يفيد نموذج الانحدار هنا والمبني على أساس العلاقة بين الفوارق الجينية والمسافات الجغرافية في تأكيد مصداق النموذج المقترح في مقدار الفوارق بين الشعوب بحسب بعدها الجغرافي. قام الباحثون باحتساب تلك القيم بين كل الشعوب مجتمعة (الكل ضد الكل). 

لكن هنا قد يشكك قائل في دقة تلك النتائج في ظل الهجرات الحديثة التي حصلت مثل هجرة الأوروبيين الى الامريكتين ومخالطتهم لشعوب كانت منفصلة وبعيدة عن بقية شعوب العالم لفترة طويلة من الزمن. تسببت علاقات مثل هذه بتقليل المسافات الجينية بين شعب كالمايا مع الأوراسيين (سكان اسيا وأوروبا) الى حدٍ ما، لكن تعتبر هذه الحالة هي الشذوذ الاحصائي الأكبر من نوعه، والدراسة استثنت نسبة معينة من التغايرات الجينية وعلاقاتها مع المسافات الجغرافية وخلصت الى إمكانية تفسير معظم الحالات وليس جميعها وبسبب استثناءات معروفة غالباً مثل الاستيطان الأوربي في الامريكتين.

بتوفر المجاميع البشرية وتنوعاتها الجينية فضلاً عن مواطنها، يفترض أن يكون البحث قادراً على رصد نقطة الانطلاق الأولى للهجرات البشرية. فهم الباحثون أن التنوع الجيني يوضح بدقة أن مكاناً ما بأفريقيا كان هو نقطة الانطلاق، لكن لا يمكن تحديد ذلك المكان بسهولة وفقاً للبيانات المتوفرة. مع ذلك، فقد اتخذ الباحثون موقع أديس ابابا الحالية في اثيوبيا كنقطة افتراضية للانطلاق.

يقدم البحث اثباتاً لما يعرف بتأثير المؤسس المتسلسل. وتأثير المؤسس بشكل عام هو حالة في علم جينات المجموعات السكانية تتمثل بخسارة التنوع الجيني لمجموعة معينة نتيجة للتعرض لمؤثر ما يحصر التكاثر بعدد قليل من افرادها. لا يطبق تأثير المؤسس على البشر فحسب بل على جميع الكائنات الحية وقد يكون لاعباً مهماً في المسار التطوري لبعض الكائنات. أما تأثير المؤسس المتسلسل (serial founder effect) فهو حالة خاصة من تأثير المؤسس ويحدث بسبب هجرة مجاميع أصغر من المجموعة الأكبر وبالتالي انحصار التكاثر في جينات هؤلاء الذين هاجروا لمنطقة جديدة مما يؤسس لمجموعة أخرى تنطلق من صفات هؤلاء لا من صفات المجموعة الأصلية الأكبر والأكثر تنوعاً. التمايز الجيني للمجاميع الناتجة يزداد كلما زادت المسافة التي يهاجر بها الأفراد وهذا ما أثبته البحث وهو ما يثبت تأثير المؤسس المتسلسل. 

وفقاً لتأثير المؤسس، فإن الأفارقة يفترض أن يكونوا أعلى الشعوب في التنوع الجيني وأن ينخفض ذلك التنوع الجيني كلما ابتعدنا عن نقطة الانطلاق في افريقيا وهذا ما وجده البحث أيضاً لكن باستخدام محاكاة معينة للأحداث الأبرز في انتقال السكان وما يعرف ضمن نظرية تأثير المؤسس بعنق الزجاجة (تكلمنا عن حالة عنق زجاجة أخرى في المقال حول أثر التغير المناخي التاريخي على المجموعات السكانية في الشرق الأوسط). 

استدراكاً للجملة التي ذكرناها في بداية البحث، ليس شرطاً أن جميع الجيران في الأرض متقاربون فقد حدثت بعض الهجرات التي كسرت بعض القواعد كما رأينا في هجرة الاوربيين الى أمريكا او استراليا. لكن لعل الأمثلة التي ذكرناها تصح الى حدٍ ما عندما نلقي نظرة على الخرائط الجينية لبعض الأقاليم. وبجميع الأحوال، فإن السلم والحرب ينبغي أن يخضعا لقواعد أكبر من مجرد القرابة أو التباعد الجيني.

 

البحث:

Ramachandran, Sohini, et al. “Support from the relationship of genetic and geographic distance in human populations for a serial founder effect originating in Africa.” Proceedings of the National Academy of Sciences 102.44 (2005): 15942-15947.