بحلول موعد التقاعد، لا يعود هناك مجال للشك في أن الدماغ لم يعد كما كان، إذ مع الاقتراب من سن 65 تظهر عدد من العلامات التي تدل على هذا الأمر، كأن ينسى المرء أسماء أشخاص يعرفهم أو يجد إبريق الشاي في الثلاجة أو لا يتذكر أين وضع أشياءه.

هناك سبب وجيه يفسر سبب خذلان ذاكرتنا لنا باستمرار في هذه المرحلة، ويرجع ذلك إلى الفقدان التدريجي للخلايا الدماغية في مناطق مهمة من الدماغ كالحصين – المنطقة المسؤولة عن معالجة الذكريات. لا يمثل هذا مشكلة في بادئ الأمر، لكون الدماغ، حتى وهو في هذه المرحلة، قادر على التعويض عن هذا التراجع من خلال خاصية المرونة التي يتميز بها. لكن، عند نقطة معينة، يبدأ هذا الضرر بالطفو إلى السطح و التأثير بشكل واضح على نمط الحياة.

 

ما هو واضح هو أن هناك اختلافا في الكيفية التي يشيخ بها كل شخص، بين مسن ممتلئ بهجة ومتّقد ذكاء، وآخر كثير النسيان ومكدّر المزاج. وهو ما يدفعنا للتساؤل: كيف يمكن رصد هذا التباين الموجود بين الشخصين؟ وهل هناك سبيل يمكّننا من أن نكون في محل الشخص الأول عندما نصل إلى هذه المرحلة من حياتنا؟

 

ممارسة الرياضة من بين الوسائل التي تساعد على هذا. حيث أظهرت دراسات عديدة أن ممارسة الرياضة باعتدال، ثلاث مرات أسبوعيا، تُحسّن التركيز والتفكير التجريدي لدى المسنين، وذلك ربما عن طريق تحفيز نمو خلايا دماغية جديدة. كما أنها تساعد أيضا على تنظيم مستوى الجلوكوز، الأمر الذي يكبح ارتفاع نسبة السكر في الدم المصاحب لهذه المرحلة. يمكنها، كذلك، أن تؤثر على التلفيف المسنّن – منطقة في الحصين تساعد على تشكيل الذكريات. إذ نظرا لكون النشاط البدني يساعد على تنظيم نسبة الجلوكوز في الدم، فإن ممارسة الرياضة بشكل منتظم تعمل، في المقابل، على الخفض من نسبة السكر في الدم، وهو ما يؤدي، بالتالي، إلى تحسين الذاكرة.

 

“تدريب التنسيق” (coordination training) يمكن أن يساعد أيضا بهذا الخصوص، إذ بينت دراساتٌ أن استهداف القدرات الحركية من خلال أنشطة وتدريبات محددة، يحسّن الوظائف المعرفية لدى المسنين الذين تتراوح أعمارهم بين 60 و80 سنة. وهو ما يمكن أن يوفره اللعب على النينتندو وي (مع الأحفاد)، إذ أن بضع جلسات على هذه اللعبة تستطيع أن تعطي نتائج مماثلة. لكن إذا لم يكن هذا متاحا، فهناك دائما “تمارين معرفية” يمكن أن تؤدي نفس الغرض، من بينها “تمارين الدماغ.” رغم أن هذا التمرين كان يعتبر في مرحلة ما غريبا، إلا أن دراسة نشرت في مجلة الجمعية الأمريكية لطب الشيخوخة (Journal of the American Geriatrics Society)، اعتمدت على تمارين أداها المشاركون بواسطة الحاسوب، توصلت إلى أن هذه الأخيرة يمكن أن تحسّن الذاكرة والانتباه لدى من تجاوزت أعمارهم 65 سنة. وهو ما أشار إليه المشاركون في هذه التجربة، إذ من بين التغييرات التي لاحظوها بعد انتهاء التجربة، تحسّن قدرتهم على تذكر الأسماء، وتمكنهم من متابعة سير المحادثات التي يشاركون فيها دون أن يفقدوا التركيز.

 

يبقى الشق الثاني من المسألة، أي حدّة الطبع، والذي يمكن تجنبه بسهولة نوعا ما. إذ رغم أن مستقبلات الدوبامين، المسؤولة عن الإحساس بالمشاعر الإيجابية، تكون في تراجع خلال هذه المرحلة من الحياة، ما قد يسبب الاكتئاب، إلا أنه من الممكن أخذ جرعات منتظمة من الدوبامين وذلك بتناول أغذية معينة كالزبادي و اللوز و الشوكولاتة، لتفادي نوبات المشاعر السلبية.

 

في الواقع، يعمل الدماغ كل ما باستطاعته ليمنحنا نظرة إيجابية وراضية إلى الحياة في هذه المرحلة. إذ من خلال التجارب الطائشة لمرحلة العشرينات والثلاثينات، ومِحن منتصف العمر، يكون الدماغ قد تعلّم أن يركز أكثر على الأمور الجيدة في الحياة عوض الأمور السيئة. مع الوصول إلى سن 65، تكون قدرتنا على اختبار المشاعر الإيجابية أفضل بكثير، حسب فلورين دولكوس (Florin Dolcos)، اختصاصي البيولوجيا العصبية بجامعة ألبرتا بكندا. حيث وجد أن الأشخاص الذين يتجاوز سنهم الستين من العمر يميلون إلى تذكر عدد أقل من الخبرات العاطفية السلبية، مقارنة مع الشباب.

 

تبين فحوصات الرنين المغناطيسي سبب هذا الاختلاف الملاحظ بين المسنين والشباب. ففي حين أن من تتجاوز أعمارهم 60 سنة يُظهرون نشاطا طبيعيا على مستوى اللوزة الدماغية – المنطقة المسؤولة عن المشاعر – إلا أن تفاعل هذه المنطقة مع باقي المناطق الدماغية يختلف عما هو ملاحظ لدى الشباب. تبين هذه الفحوصات أن اللوزة الدماغية لدى المسنين تتفاعل بشكل أقل مع الحصين وبشكل أكثر مع القشرة الأمامية الظهرية المسؤولة عن التحكم بالمشاعر. يشير دولكوس إلى أن هذا ربما يكون نتيجة للخبرات المتراكمة التي جهزتهم لأن يتعاملوا مع المواقف العصيبة بثبات، بلا حاجة لردود أفعال مبالغ فيها. فعلا، إن كبار السن يرون العالم من خلال نظارات وردية.

رغم أن لا أحد يريد أن يشيخ ويصبح مسنا، إلا أن هذه المرحلة، التي لا مفر منها، ليست كلها كآبة وانتظار للموت. في الواقع، يجب أن نتوقف تماما عن القلق بهذا الصدد، حيث أظهرت دراساتٌ أن الأشخاص الذين يأخذون الأمور بروية وهدوء تقل نسبة إصابتهم بتدهور الوظائف العقلية في هذه المرحلة. وبينت إحدى هذه الدراسات أن الأشخاص الهادئين وغير النشيطين اجتماعيا تكون نسبة إصابتهم بخرف الشيخوخة أقل 50 في المائة من أولئك المنعزلين والمكروبين. من المرجح أن يكون هذا بسبب مستويات التوتر المرتفعة الناجمة عن ارتفاع نسبة هرمون الكورتيزول، والذي قد يسبب انكماش في القشرة الحزامية الأمامية – منطقة مرتبطة بظهور الزهايمر والاكتئاب لدى كبار السن.

 

رغم أن أدمغتنا لا تتجعد ولا تترهل مثل ما يحدث لبشرتنا، إلا أنها تبقى بحاجة إلى العناية والاهتمام على مدار الوقت. لذلك، لا تتخلى عنها قبل الأوان. عندما تبدأ علامات الكبر في السن بالظهور، قم بنزهة، أو حاول أن تحل الكلمات المتقاطعة، أو اضحك. من يدري، قد تعوّض هذه الأنشطة عن بعض أخطاء مرحلة شبابك.

المصدر:

Helen Thomson, “The five ages of the brain”, New Scientist, 4 April 2009