قلنا في الجزء السابق أن هناك أربعة أفكار أساسية ظهرت في القرن التاسع عشر، ولعبت دوراً هاماً في نشأة علم الأعصاب الحديث. أولى هذه الأفكار هى تغير مفهوم الأعصاب من مجرد أنابيب مجوفة إلى “أسلاك” توصل الإشارات الكهربية من وإلى المخ، وأنه بداخل العصب يوجد العديد من الألياف العصبية والتي تنقسم إلى نوعين، إحداهما يقوم بنقل المعلومات إلى الحبل الشوكي والدماغ، والأخرى تقوم بنقل المعلومات إلى العضلات. والفكرة الثانية، هي تراكم الأدلة على توطن الوظائف المخية بالدماغ، وأشرنا أن بول بروكا هو أول من دعم هذه الفكرة بالأدلة التجريبية، وذلك من خلال ملاحظته لمريض فقد القدرة على الكلام، ولكنه احتفظ بقدرته على فهم اللغة، وبعد وفاته عام 1861، قام بروكا بتشريح الدماغ مكتشفاً ضرر بالفص الأمامي الأيسر، ومن خلال هذا المريض والعديد من الحالات المشابهة، استنتج بروكا أن هذه المنطقة بالمخ مسئولة بشكل أساسي عن إنتاج الكلام، والتي سميت فيما بعد بمنطقة بروكا.

أما الفكرة الثالثة التي ظهرت بالقرن التاسع عشر فهي: تطور الجهاز العصبي!

داروين

داروين

 عام 1859، نشر عالم الأحياء الإنجليزي تشارلز داروين كتابه العظيم: في أصل الأنواع. يشرح هذا الكتاب، والذي يعتبر أحد أهم الأعمال في التاريخ، نظرية التطور، وهي باختصار: تطور أنواع الكائنات الحية من سلف مشترك. فطبقاً لنظريته، تنشأ الاختلافات بين الأنواع نتيجة لعملية، أسماها داروين، الانتخاب الطبيعي. وكنتيجة لآليات التكاثر، فإن السمات الجسدية للنسل قد تختلف في بعض الأحيان عن الآباء. فإذا كانت هذه السمات ذات فائدة للنسل في النجاة والبقاء على قيد الحياة، وبالتالي التكاثر، فإن هذه السمات على الأرجح سوف تنتقل للجيل التالي. وعلى مدى العديد من الأجيال، قادت هذه العملية إلى تطوير ونشأة السمات التي تميز الأنواع: مثل زعانف فقمات المرفأ، مخالب الكلاب، أيادي الراكون، والعديد من الأنواع. أحدثت هذه الفكرة المفردة لداروين ثورة في علم الأحياء. واليوم، تثبت العديد من الأدلة القادمة من فروعٍ علمية شتى، بداية من علم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) انتهاءً بعلم الأحياء الجزيئي، نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي وبأغلبية ساحقة.

أشار داروين إلى السلوك باعتباره من السمات الموروثة وبالتالي فهو قابل للتطور. فعلى سبيل المثال، لاحظ أن العديد من أنواع الثديات تظهر نفس الانفعالات (ردود الفعل) عند الخوف: يتسع بؤبؤ العين، يزداد معدل ضربات القلب، وينتصب الشعر. وهذا كما ينطبق على الكلب فهو أيضاً ينطبق أيضاً على الإنسان. بالنسبة لداروين، فإن هذا التماثل في نمط الاستجابة أشار إلى أن هذه الأنواع المختلفة قد تطورت من سلف مشترك، امتلك نفس هذه السمات السلوكية، والتي ساعدتها على النجاة من المفترسين والبقاء على قيد الحياة. ولأن السلوك يعكس نشاط الجهاز العصبي، فإنه يمكننا الاستنتاج أنّ الآليات الدماغية التي يقوم عليها الانفعال عند الخوف، متشابهة إنْ لم تكن متماثلة بين الأنواع.

إن فكرة أن الجهاز العصبي للأنواع المختلفة للكائنات الحية قد تطور من سلف مشترك، وبالتالي امتلاكه لآليات مشتركة هو الأساس المنطقي الذي يقوم عليه ربط التجارب الحيوانية بالإنسان. فمثلاً، تم اكتشاف العديد من المعلومات بشأن توصيل النبضات الكهربية عبر الألياف العصبية أولاً في الحبار، ولكننا نعلم اليوم أنها تنطبق أيضاً على الإنسان. ولذلك، فإن معظم علماء الأعصاب اليوم يستخدمون النماذج الحيوانية لفهم العمليات التي يتمنون إدراكها. وأوضح مثال على ذلك، هى آلية الإدمان، فإن الفئران تظهر علامات الإدمان بشكل واضح إذا تم إعطائها الفرصة لتناول الكوكايين بنفسها وبشكل متكرر. وبالتالي، فإن الفئران تمثل نموذج حيواني قيم للبحث المنصب على فهم آلية عمل الأدوية النفسية والمخدرة على الجهاز العصبي.

فأر

 يمتلك شعر الوجه البارز للفئران حاسة لمس عالية التطور في المقابل، فإن العديد من السمات السلوكية تتخصص بشكل كبير طبقاً للبيئة التي يسكنها الحيوان. فعلى سبيل المثال، تمتلك القرود التي تتأرجح بين فروع الأشجار حاسة بصر قوية، بينما الفئران التي تعيش في الأنفاق تحت الأرض تمتلك حاسة بصر ضعيفة، ولكن في المقابل لديها حاسة لمس عالية التطور متمثلة في شعيرات الوجه البارزة. تنعكس هذه التكيفات في وظائف وتركيب المخ لكل نوع. وعن طريق مقارنة أمخاخ الأنواع المختلفة، استطاع علماء الأعصاب التعرف على أجزاء المخ المتخصصة وما تقابله من وظائف سلوكية مختلفة.

 

تخصصات مخية مختلفة في قرود المكاك والفئران: (أ) يمتلك مخ قرد المكاك حاسة بصر عالية التطور، تحتوي تلك النقط السميكة في الصورة على خلايا عصبية متخصصة في تحليل الألوان. (ذلك طبعاً بعد تشريحها وتلوينها) (ب) يحتوي مخ الفأر على حاسة لمس عالية التطور بالوجه، تستقبل المنطقة الموجودة داخل المربع المعلومات من شعر الوجه البارز للفأر، عند تشريحه وتلوينه، تظهر العديد من النقاط كما هو واضح بالصورة، كل نقطة متخصصة في استقبال المعلومات من شعرة مفردة من شعر الوجه البارز. 

قرد المكاك والفأر4- الخلية العصبية: الوحدة الوظيفية الأساسية بالمخ

سمح التقدم التقني للميكروسكوب في أوائل القرن التاسع عشر للعلماء بفحص أنسجة الحيوانات بقوة تكبير عالية. وفي عام 1839، افترض عالم الحيوان الألماني ثيودور شوان بأن جميع الأنسجة تتكون من وحدات ميكروسكوبية أساسية تسمى الخلايا. 

وبرغم أن خلايا المخ قد تم التعرف عليها ووصفها حينها، فقد كان هناك جدل مثار بشأن ما إن كانت “الخلية العصبية” هي في الواقع الوحدة الأساسية للوظيفة المخية. تمتلك الخلايا العصبية عادة عدد من البروزات الرفيعة التي تمتد من جسم الخلية المركزي. في البداية، لم يعرف العلماء ما إن كانت تلك البروزات من الخلايا العصبية المختلفة تلتحم معاً، كما تفعل الأوعية الدموية في النظام الدوري. وبالتالي، فإنْ كان هذا صحيحاً، فإنّ “الشكبة العصبية” التي تتكون من الخلايا العصبية المتصلة معاً هى التي تمثل الوحدة الأساسية للوظيفة المخية. مع قدوم القرن العشرين، فقد أخمد هذا الجدل، وأصبحت الخلية العصبية المفردة هى الوحدة الأساسية والوظيفية للجهاز العصبي. سنتعرف أكثر عن كيفية اكتشاف الخلية العصبية، وكيف تم حل هذا الجدل المثار في مقال آخر.

رسم مبكر للخلية العصبية، رسمه عالم التشريح الألماني أوتو ديترز

رسم مبكر للخلية العصبية، رسمه عالم التشريح الألماني أوتو ديترز عام 1865، تظهر فيه الخلية العصبية بتشعباتها المتعددة. كان يعتقد حينها أن هذه التشعبات تلتحم معاً كما تلتحم الأوعية الدموية، ولكن ظهر لاحقاً خطأ هذا الاعتقاد.

في المقال القادم والأخير من هذه المقدمة، سنتعرف على حاضر علم الأعصاب ومستقبله وأهميته.

المرجع:

Bear, M. F., Connors, B. W., & Paradiso, M. A. (2016). Neuroscience: exploring the brain. Philadelphia: Wolters Kluwer.