يعاني مرضى الذُهان (Psychosis) من عدم القدرة على التمييز ما بين الواقع والخيال، فلو ظهر فيلٌ أمام عينيك الآن، لعرفت أن هذا الفيل خيالي وما هو إلا بهلوسة، أي أنك تملك القدرة على التمييز ما بين ما هو موجودٌ في فضائك البصري وما بين ما يوجد في مخيلتك ولكن الحال يختلف بالنسبة لمريض الذُهان إذ سيرى هذا الفيل وكأن وجوده حقيقي حتى وأن خالف هذا الوجود المنطق. أشارت العديد من البحوث إلى أن سبب هذا الاعتلال هو مشكلة في منطقة دماغية تدعى القشرة ما قبل الجبهية الوحشية (Lateral prefrontal cortex) ولكن سبب هذا الاعتلال لا زال غير معروفًا. إن اعتلال هذه المنطقة يشير إلى أهميتها في التفريق ما بين الواقع والخيال ولكن كيفية عملها كانت لغزًا حتى نُشر بحثًا قام به الدكتور خوليو مارتينيز-تروخيلو (Julio Martinez-Trujillo).

أنظر لشيء موجود حولك الآن وركّز على تفاصيله ومن ثم أغلق عيناك، ستجد أنك لازلت قادراً على رؤيته في عين عقلك ولكنك تعرف أن ما تراه في هذه المخيلة هو صورة غير واقعية، أي أنها نتيجة لنشاط الذاكرة القصيرة الأمد أو العاملة والتي احتفظت بصورة هذا الشيء حتى بعد أن غاب المحفز (Stimulus). هذه الصورة خيالية، مجردة لا توجد في الواقع ولكن توجد فقط في الذاكرة وتختلف عن الإدراك البصري للأشياء الواقعية والتمييز ما بين الاثنين يعتمد على مجموعة من العصبونات (Neurons) موجودة في القشرة ما قبل الجبهية الوحشية والتي حاول د.مارتينيز-تروخيلو أن يحددها من خلال تجربته.

التجربة تتطلب من المشاركين أن يتتبعوا بأعينهم غيمة من النقاط على شاشة الحاسوب ومن ثم يشيرون إلى اتجاه الحركة، هذا في الحالة الأولى. أما في الحالة الثانية، فعلى المشاركين أن يتتبعوا النقاط إلى أن تختفي من على شاشة الحاسوب ومن ثم يشيرون إلى اتجاه الحركة بالاعتماد على ذاكرتهم. ظهر اختلاف ما بين حالة الإدراك وحالة التذكر في نشاط العصبونات السابقة الذكر، فقد اختلف نشاطها بدرجات مختلفة وبشدات مختلفة وكانت النتائج على عكس ما تم توقعه، فقد توقع الباحثون أن يجدوا عصبونات تنشط عند إدراك الشيء، وعصبونات مختلفة عن الأولى تنشط في حالة التذكر أو أن يجدوا أن نفس العصبونات التي تنشط في حالة الإدراك، تنشط في حالة التذكر، ولكن النتائج أظهرت إلى أن نشاط العصبونات هو مزيج مما تم توقعه، فهناك عصبونات مخصصة للإدراك، عصبونات للتذكر، وأخرى مزيج ما بين الاثنين.

تمكن الباحثون من بناء خوارزمية تستطيع قراءة الأنماط المختلفة لهذه العصبونات ومن ثم التمييز ما بين الإدراك والتخيل، ويطمح الباحثون بتعيين العصبونات المسؤولة بدقة أكبر وبالتالي دراستها بصورة أوسع وتعيين الاعتلالات التي تحدث فيها وبالتالي إيجاد أدوية تستهدف هذه العصبونات فقط بدلًا من أن تستهدف الدماغ بأكمله، كما هو حال الادوية المستخدمة الآن لعلاج انفصام الشخصية (Schizophrenia) والتي تُغير من كيميائية الدماغ كلها.

المصدر:

Mendoza-Halliday, Diego, and Julio C. Martinez-Trujillo. “Neuronal Population Coding Of Perceived And Memorized Visual Features In The Lateral Prefrontal Cortex”. Nature Communications 8 (2017): 15471.