سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، 1982. بينجامين لبيت (Benjamin Libet)، باحث في علم وظائف الأعضاء في جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو، يربط مجموعة من الأشخاص لأجهزة تخطيط النشاط الدماغي EEG ويبلغهم بأن بإمكانهم تحريك أصابعهم أو عظام الرسغ متى ما يشاؤون، في الوقت ذاته، هناك ساعة خاصة وضعت أمامهم وعليهم أن يحددوا الوقت الذي شعروا عنده بالرغبة في الحركة.  وجد لبيت أن هناك فرق بالزمن قدره 200 جزء من الثانية ما بين حدوث الرغبة في الحركة، والحركة الفعلية. ولكن لم يظهر التخطيط هاتين الإشارتين فقط، بل أظهر إشارة أخرى ذات أهمية أكبر والتي أصبحت محلاً للجدل منذ حدوث التجربة وإلى الوقت الحاضر، هذه الإشارة ظهرت قبل 550 جزء من الثانية من حدوث الحركة، أي قبل حدوث الرغبة في الحركة بحوالي 350 جزء من الثانية. ولكن ما تفسير هذه الإشارة؟ وما الذي تعنيه؟

هذه الإشارة تدعى بجهد الجاهزية (Readiness potential) وقد فسرها لبيت على أنها الإشارة التي يصدرها الدماغ ليعبر عن جاهزيته للحركة والتي تحدث بصورة غير واعية. لم يأتِ أحدٌ بتفسير آخر أو جدي كالذي جاء به لبيت حتى عام 2009 والذي ظهرت فيه محاولة من قبل عالمان هما جودي تريفينا (Judy Trevena) وجيف ميلر (Jeff Miller) من جامعة اوتاغو (Otago) وجامعة دندين (Dunedin).

استخدم، تريفينا وميلر، أجهزة تخطيط النشاط الدماغي كما استخدمها لبيت ولكن في تجربتهم طلبا من المشاركين أن يتخذا القرار بالحركة أو عدمها بعد أن يسمعوا نغمة معينة، والافتراض كان: لو كان تفسير لبيت صحيحاً، فإن المشاركين سيظهرون جهد جاهزية أكبر، فيما لو اختاروا أن يتحركوا، بعد سماع النغمة عندما يقارن بعدم سماعها. أظهرت النتائج أن المشاركين قد أظهروا نفس النشاط في حال أتخذوا القرار بالحركة أم لم يتحركوا. وكان تفسير ميلر لهذه التجربة أن هذه الإشارة تدل على أن الدماغ يوجه انتباهه تجاه الشيء ولا تعني أن الدماغ قد اتخذ قراراً للحركة. يبقى هذا التفسير محلاً للجدل بين العلماء ولكن هناك رأي آخر، وهو رأي العالم شورغر (Schurger).

بدأ شروغر بطرح السؤال التالي: كيف يقرر الدماغ أن يقوم بحركة تلقائية؟ ومن ثم بدأ بالبحث في دراسات سابقة تتناول سيناريوهات اتخاذ القرار. تناول شروغر إحدى الدراسات التي تفسر كيفية اتخاذ القرار بالاعتماد على المدخلات البصرية، فلو عرضت محفزاً بصرياً غير واضح المعالم، ومن ثم بدأت بزيادة الوضوح تدريجياً، فإن ما يحدث في الدماغ هو الاتي: عند بدأ التحفيز البصري، تنشط مجموعة من العصبونات ولكن نشاط هذه العصبونات غير واضح وغير دقيق (هذا النشاط يشير إلى ان العصبونات لم “تتخذ” قراراً إلى الآن حول هيئة المحفز البصري)، ومن الممكن أن تشير إلى أكثر من حالة. لكن عند زيادة وضوح الصورة، فأن نشاط بعض العصبونات من هذه المجموعة سيبدأ بالازدياد كون “تخمين” هذه العصبونات حول المحفز هو الأقرب، وزيادة الوضوح التدريجية تدفعها بشكل أكبر باتجاه تفسير معين للمحفز البصري إلى أن تصل العصبونات إلى حد عتبة (threshold) ومن ثم تتخذ قراراً حول المحفز البصري وهيئته.

كان رأي شروغر في تجربة لبيت هو التالي: هناك ظاهرة مشابهة لما يحدث مع العصبونات عندما تتخطى حد العتبة مع تجربة لبيت، ولكن يُسأل الخاضعون لتجربة لبيت بأن يتجاهلوا المحفزات الخارجية، ولذلك، وبتجاهل المحفزات الخارجية، فإن هناك دافع داخلي أدى لحدوث هذه الحركة. هذا الدافع الداخلي هو النشاط العشوائي للعصبونات والذي يبدأ بالتجمع تدريجياً إلى أن يصل إلى حد العتبة وبعدها تبدأ الحركة.

لمعرفة صحة هذه الفرضية، عمد شروغر إلى استخدام أنظمة رقمية لمحاكاة العملية وعند تكرارها لأكثر من مرة، وجد شروغر أن النتائج تظهر نشاطاً مشابهاً لجهد الجاهزية. لم يكتفِ شروغر بذلك، ولكنه عمد إلى تكرار تجربة لبيت مع اختلاف بسيط الا وهو استخدام نغمة، هذه النغمة تعمل كمسدس الإطلاق في السباقات لكي يحرك المشاركون أصابعهم. ولو كانت نظرية شروغر صحيحة، فإن المشاركين، الذين تجمع عندهم نشاط عشوائي كبير للعصبونات وقريب من حد العتبة، سيستجيبون بسرعة أكبر لهذه النغمة. وبالفعل هذا ما وجده شروغر إذ لاحظ جهد الجاهزية عند الذين استجابوا بسرعة لهذه النغمة ولم يجده عند الأشخاص الذين تأخروا في الاستجابة.

تجمع النشاط ووصل الى حد العتبة وظهر جهد الجاهزية على ورقة تخطيط الدماغ، فهل أنتهى كل شيء؟ هل ستحدث الحركة ولن يمكن كبحها؟

حاول مجموعة من العلماء الإجابة عن هذا السؤال وقد نظروا لجهد الجاهزية على أنه قطعة الدومينو الأولى التي ستسقط وما حاولوا الكشف عنه هو إمكانية إيقاف السقوط المتسلسل لباقي القطع. اشتملت تجربتهم على لعبة ما بين المشاركين في التجربة والحاسوب، وهي كالاتي:

يسمع المشاركون نغمة، عندها يمكنهم، متى ما شاؤوا، أن يضغطوا على زر بأقدامهم، ولكي يكسبوا نقاطاً، عليهم أن يضغطوا على الزر بينما تزال الدائرة الخضراء على الشاشة. لكن هناك خدعة، إذ تم تدريب الحاسوب على مراقبة نشاطهم الدماغي، وتعيين جهد الجاهزية، وحالما يتم تعيينه، فإن الحاسوب سيغير الدائرة من الخضراء إلى الحمراء لكي يسبب خسارة للمشاركين. والسؤال هو: هل سيتمكن المشاركون، بعدما ظهر جهد الجاهزية، من أن يلغوا الامر بالحركة عند رؤية الدائرة الحمراء؟

والجواب كان نعم، بإمكان المشاركون أن يلغوا الحركة عندما يلاحظون الدائرة الحمراء ولكن هناك حد بعده لن يتمكنوا من الغاء الحركة، وهذا الحد هو الـ200 جزء من الثانية قبل حدوث الحركة. أي لو ظهرت الدائرة الحمراء عند 250 جزء من الثانية قبل حدوث الحركة، فإن المشاركين سيتمكنون من الغائها، ولكن لو ظهرت الدائرة عند 200 جزء أو أقل، فأنهم لن يتمكنون وستحدث الحركة.

التساؤل عن وجودها آثار العقول وسيثيرها، وستستمر الأدلة بالظهور، مؤيدة ورافضة، ولكن، ولربما، سيستمر الشعور بأننا نملك تلك القدرة التي دفعتنا لقراءة هذا المقال بمحض ارادتنا…

 

Trevena, J., & Miller, J. (2010). Brain preparation before a voluntary action: Evidence against unconscious movement initiation. Consciousness and cognition19(1), 447-456.

Schurger, A., Sitt, J. D., & Dehaene, S. (2012). An accumulator model for spontaneous neural activity prior to self-initiated movement. Proceedings of the National Academy of Sciences109(42), E2904-E2913.

Schultze-Kraft, M., Birman, D., Rusconi, M., Allefeld, C., Görgen, K., Dähne, S., … & Haynes, J. D. (2016). The point of no return in vetoing self-initiated movements. Proceedings of the National Academy of Sciences113(4), 1080-1085.