هل كل الذكريات التي لدينا حقيقية؟ يقول ألبرت أينشتاين “الذاكرة خادعة لأنها مصبوغة بأحداث اليوم“. وهي خادعة أيضًا لأنها كثيرًا ما تكون خاطئة، وأحيانا بشكل خطير جدًا.

طور العلماء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا القدرة علي زرع ذكريات كاذبة في الفئران. وكانت هذه الذكريات بنفس قوة الذكريات الحقيقية. وهذا التفسير الفسيولوجي شيء يعرفه علماء النفس والمحامين لسنوات.

كانت نتائج الأبحاث خطيرة. فوفقا لمشروع الجهل فإن شهادة شهود العيان تلعب دورا بنسبة أكثر من 70% في أحكام المتهمين، ثم يتم في النهاية الكشف عن عدم صحة  الأحكام عن طريق اختبار الـ DNA بعدما يقضي المتهمون أعوامًا في السجن.

بعض السجناء يتم إعدامهم نتيجة لشهادة شهود العيان الخاطئة. وليست هذه الشهادة نتيجة كذب شهود العيان ولكن لأنهم كانوا علي خطأ” يقول سوسومو تونيغاوا Susumu Tonegawa عالم البيولوجيا الجزيئية والمؤلف الرئيسي في دراسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

كانت محاكمة عائلة مكمارتين McMartin family أطول محاكمة جنائية شاهدتها الولايات المتحدة علي مدار تاريخها، حيث أُتهمت عائلة مكمارتين التي كانت تُدير حضانة في ولاية كاليفورنيا بعدة حوادث من الاعتداء علي الأطفال. وبعد 7 سنين و 15 مليون دولار تم إنفاقها علي الدعوات القضائية سقطت بعض التهم وتمت براءة المتهمين. وتبين بوضوح بعد ذلك أن بعض الاتهامات كانت قائمة على الذكريات الكاذبة التي ربما تكون زُرعت بواسطة معالجي الأطفال.

هناك الآن حالة تُسمي متلازمة الذاكرة الكاذبة(False Memory Syndrome). وقد نشرَت مؤسسة متلازمة الذاكرة الكاذبة عام (2012) دراسة في مجلة nature بواسطة تونيغاوا وفريقه يوضح كيفية زرع ذكريات كاذبة في أدمغة الفئران. حيث تم وضع الفئران في حجرة أولًا (يطلق عليها العلماء الحجرة الحمراء) وتركوا الحيوانات الأخرى  تحوم حولهم للتعرف عليهم حتى يتمكنوا من تكوين الذاكرة السياقية من الفئران. وبعد ذلك تم صعق الفئران في أقدامهم مع توصيل وميض من الضوء الأزرق إلى أدمغتهم عن طريق أسلاك من الألياف البصرية. وفي اليوم التالي تم نقل الفئران إلى حجرة مختلفة (الحجرة السوداء) وتركوا الفئران تستكشف الحجرة بدون التأثير عليهم بأي شئ حتى تم توصيل الوميض إلى أدمغتهم مرة أخرى فهرعت الفئران مرة أخرى على الرغم من أنهم لم يكونوا في الحجرة السابقة التي تم صعقهم فيها. فلماذا حدث هذا؟

تعرَّف كلٌّ من تونيغاوا وستيف راميريز Steve Ramirez وهو طالب جامعي وزملائهم علي الخلايا العصبية التي تنشط أثناء التعلم التجريبي (التعلم بواسطة التجارب والاستكشاف). تحفِّز الأحداث الخلايا العصبية عندما تُخزن الذكريات. اكتشف العلماء سابقًا أن إضاءة الخلايا العصبية بوميض أزرق له نفس تأثير البروتين الحساس للضوء في تنشيط الخلايا والذي يعرف بالتلاعب البصري optogenetic manipulation لأن الجينات تشارك في تحديد الخلايا العصبية.

توصيل الوميض الأزرق بأدمغة الفئران في الحجرة السوداء جعلهم يشعرون بالخوف من الصعق كما حدث لهم في الحجرة الحمراء.

فقد تبين لأول مرة أن تنشيط الخلايا العصبية أثناء تكوين الذاكرة يعتبر أمرا كافي لجعل الحيوانات تفعل كل شيء لاستدعاء ذاكرتها” كما يقول تونيغاوا.

وفي تجربةٍ، تم وضع الفئران في الحجرة الأولى، ولم يتم تعريضهم لشيء. لذا فقد خُزنت معلومات على أن البيئة آمنة في ذاكرتهم، ثم تم وضع الفئران في حجرة أخرى وتم توصيل الضوء إلي أدمغتهم، ليُنشِّط عندهم ذكريات الغرفة الأولى، ثم تم صعقهم. ثم تم إعادة الفئران إلى الغرفة الأولى، حيث كانوا بأمان سابقًا. فهربت الفئران إلى ركن الغرفة، فقد تم محو معلومة أن البيئة آمنة في الحجرة الاولي عندما تم صعقهم. وعندما تم وضع الفئران في حجرة ثالثة جديدة ولم يتم تحفيز أدمغتهم بالضوء، لم يكونوا خائفين. زرع العلماء ذكريات كاذبة في الفئران، وصدقتها الفئران!

يقول تونيغاوا إن الناس الذين يتذكرون ذكريات خاطئة لا يكذبوا بل إنهم مقتنعون بأنها ذكريات صحيحة. وكما أنهم لا يقتنعون بآلالات كشف الكذب، وحتى إذا عُرضت عليهم الحقائق مثل أدلة الـ DNA، فإنهم يرفضون أن يصدقوا أن ذكرياتهم خاطئة.

قالت إليزابيث لوفتس Elizabeth Loftus: النتائج كانت مثيرة… هناك إجماع قوي على أن بيانات البشر تبيِّن أنه يمكن زرع ذكريات عاطفية في أدمغة البشر“. وإليزابيث هي عالمة النفس المعرفي بجامعة كاليفورنيا في ايرفين، والتي قامت بمهاجمة الذكريات الخاطئة والمزروعة في قاعات المحاكم أكثر من أي شخص أخر والتي شاركت كخبيرة شهود العيان في العديد من التجارب بما في ذلك تجربة عائلة مكمارتين.

وقال تونيغاوا أن هناك جانب مضيء لكل هذا. فقد يكون البشر هم من يمتلكون ذكريات خاطئة، أما الحيوانات فقد لا يمتلكون هذه الذكريات الخاطئة إلا إذا تم زرعها فيهم مثل الفئران.

ويقول:البشر أكثر الحيوانات خيالية ودهشة… نحن نفكر. الكثير من الأمور تحدث. البشر يسجلون ما يحدث ويمر بهم“. ويذكر أن ضعف الذاكرة سوف يكون الثمن الذي سوف ندفعه للخيال والإبداع الذي جعل منا بشرًا.

المصادر:

Northern Illinois University, Faculty Development and Instructional Design Center, “Experiential Learning

ROBERT REINHOLD, “The Longest Trial – A Post-Mortem; Collapse of Child-Abuse Case: So Much Agony for So Little“, New York Times, January 24, 1990

Elizabeth Loftus, “How reliable is your memory?“, TED Talks – Youtube, 23 Sep 2013