لماذا نشعر بالأسى عندما يتضرر الآخرون، أو نشعر برغبة في البكاء عند رؤية شخص يبكي؟ سواء كان هذا الشخص قريب لنا أو غريب عنا، حتى عند مشاهدتنا لمباريات كرة القدم نقوم بتقليد بعض حركات اللاعبين مثل ضربة الرأس أو الاحتفال بالأهداف دون إن نكون في ارض الملعب.
السؤال الذي سنحاول الاجابة عنه في هذه المناسبة هو: ما سبب محاكاة شعور الآخرين وما فائدته، وهل هو حصراً علينا نحن البشر، ام له وجود في كائنات أخرى؟.
نرجع إلى بداية التسعينات حيث قام عدد من الباحثين بدراسة قردة المكاك لمعرفة أي الأماكن في الدماغ هي المسؤولة عن حركة اليدين، وعن طريق الصدفة ـ وهذا حال الكثير من الاكتشافات العلمية ـ لاحظوا إن هنالك مناطق أو خلايا عصبية معينة ـ تسمى عصبونات ـ تنشط وتتحفز عندما تراقب القردة الباحثين وهم يلتقطون الطعام، وهي نفس العصبونات التي تنشط عند التقاط القردة نفسها للطعام، أي إن القردة تعكس حركة الباحثين في التقاط الطعام، و أدى هذا الاكتشاف إلى قيام ثورة في كيفية تفسير العلماء للعلاقة بين المخ و السلوك، بما في ذلك السلوك العاطفي، فالعصبونات الانعكاسية تنطلق عندما يقوم حيوان بفعل ما، أو عندما يلاحظ حيوان رفيق له يقوم بهذا الفعل نفسه.
ولهذه الخلايا العصبية اسمان باللغة العربية، الأول “العصبونات الانعكاسية” والأخر “العصبونات المرآتية”، على الرغم من أن لها اسماً واحداً باللغة الانكليزية Neurons Mirror. وسوف التزم بمصطلح “العصبونات الانعكاسية” لكونها المصطلح الموجود في مصدري الأساسي لهذا المقال إلا وهو كتاب “العدالة في عالم الحيوان” لمارك بيكوف وجيسيكا بيرس.
و أشار بعض الباحثين إلى إن عمل العصبونات الانعكاسية هي التي تجعل الدماغ يشعر بالآخرين أو ينظر إلى أعمال الآخرين عن طريق المحاكاة المباشرة داخل الدماغ، وليس عن طريق المشاهدة والتفكير فقط.
فقد نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” في عام 2006، عن عالم العصبونات الانعكاسية ـ المرآتية ـ جياكومو ريزولاتي قوله “إن العصبونات الانعكاسية تسمح لنا بفهم عقول الآخرين لا عن طريق الاستدلال بل عن طريق المحاكاة المباشرة. عن طريق الشعور لا التفكير”، وقد أثبتت الأبحاث التي أجريت على البشر إن العصبونات الانعكاسية و نظيراتها الوظيفية تنشط أثناء ملاحظة أو محاكاة المشاعر الاجتماعية، وخاصة أثناء قراءة هذه المشاعر عبر مؤشرات بصرية مثل تعبير الوجه، فالتثاؤب استجابة لتثاؤب الآخرين.
كما أفاد علماء في عام 2007، بان البشر يمتلكون العصبونات الانعكاسية المفردة داخل أدمغتهم، وهذه العصبونات الانعكاسية موزعة على نطاق واسع داخل الدماغ، لذلك قد تكون هذه العصبونات الانعكاسية أساسا لقدرتنا على مشاركة الآخرين شعورهم، والانتفاض عند رؤية شخص يصيب أصبعه بمطرقة، ما هي إلا ردود أفعال تنشطها العصبونات الانعكاسية.
هذا ويعتقد العلماء بان للعصبونات العاكسة فوائد أخرى إضافة إلى فائدتها الأصلية وهي إن نفهم سلوك الأخر ونحن نتخيل أنفسنا نسلك سلوك الأخر نفسه، ثم نضع أنفسنا في مكانه. وتفيد أيضا في حاستي السمع والشم وقد تكون لها فائدة في تطوير اللغة. اما في الحيوانات فقد يكون لها الدور الأساسي في محاكاة الأصوات في بعض أنواع الطيور مثل الببغاء.
فهي مثلما تعكس الحركات تعكس العواطف أيضا، وتساهم العصبونات الانعكاسية “Neurons Mirror” مع الخلايا المغزلية “Spindle Cells” إسهاما ضخما في فهمنا لأخلاق الحيوانات.
كما تكون ركيزة عصبية للعدوى العاطفية في مجموعة كبيرة من أنواع الحيوانات، على الرغم من إن الأنواع التي تمتلك العصبونات الانعكاسية ما زالت مجهولة إلى حد كبير، لكن جميع الأسباب تدعونا إلى الاعتقاد إلى الأنواع الأخرى من الحيوانات تعمل بنفس الطريقة، أو يكون نظامها العصبي يعمل بطريقة مشابهة لعمل العصبونات الانعكاسية.
إما القصور في نظام العصبونات الانعكاسية فقد يكون وراء حالات الاضطراب الإدراكي مثل التوحد. ويزعم عالم الأعصاب “ف. س. راماتشادران V. S. Ramachadran” بان “العصبونات الانعكاسية ستخدم علم النفس مثلما أسدى الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين “ألدنا DNA” خدمات جليلة لعلم الإحياء” إذ ستوفر إطار عمل موحد لفهم مجموعات كاملة من القدرات الذهنية. وعلى الرغم من إن هذا الاستنتاج ربما يتسم بالمبالغة، فلا شك إن اكتشاف العصبونات الانعكاسية إنما هو انجاز مهم يؤثر على الأبحاث المستقبلية حول عقول البشر والحيوانات.
ولعل العصبونات الانعكاسية تفسر أيضا مشاهدات للفئران الحساسة عاطفيا والتي تستجيب بقدر اكبر للمحفزات المؤلمة اثر مشاهدة فئران أخرى تعاني من الآلام، وللجرذان التي تفضل الجوع على إن تشاهد جرذا يتلقى صدمة كهربائية، وقردة الريسيس التي ترفض تناول الطعام إذا سبب تناولها للطعام معاناة لقرد أخر.
والجدير بالذكر أن الأبحاث حول العصبونات الانعكاسية لازالت في مهدها، ولذلك ينبغي علينا التروي قبل إن نبالغ في دور هذه الخلايا العصبية وننتظر ما تحمله لنا الأبحاث المستقبلية في هذا المجال، فقد تكون الحقيقة وراء هذه الخلايا العصبية اغرب مما ممكن إن نتخيله في يوم من الأيام.
كتب المقال بالاعتماد على
1 ـ كتاب “العدالة في عالم الحيوان: الحياة الأخلاقية للحيوانات” مارك بيكوف وجيسيكا بيرس.