حدث هاينريش هو ظاهرة طبيعية تتفكك فيها قطع هائلة الحجم من الثلج من الأنهر الجليدية (glaciers) في شمال المحيط الأطلسي وتعرف بهذا الاسم نسبة إلى أول من وصفها وهو عالم الجيولوجيا البحرية الألماني هارتموت هاينريش. وقد حدثت هذه الظاهرة 6 مرات خلال الـ 70 ألف سنة الماضية. يتسبب حدث هاينريش بإضافة كميات هائلة من المياه العذبة إلى المحيط الأطلسي وبالتالي فهي تؤثر على الدورة الحرارية الملحية (Thermohaline circulation) في المحيطات وعلى مناخ كافة أنحاء الأرض كنتيجة لذلك، كما أن الدورة الحرارية الملحية قد تكون مسبباً وجزءاً من الدورة المسببة لحدث هاينريش.
التأثير الأساسي لحدث هينريش هو البرد وارتفاع مستوى ثنائي أوكسيد الكربون في الجو بمقدار 20 (جزء بالمليون PPM). قد يدوم حدث هاينريش من عدة مئات إلى عدة آلاف من السنوات حيث تنفصل تلك الكتل القارية من الجليد وتؤدي إلى تغيير مناخ الأرض.
تتقاطع أحداث هاينريش وقد تكون لها علاقة ايضاً بحدث آخر يمتاز المناخ العالمي فيه بالاحترار وهو حدث دانسغارد-اويشغر (Dansgaard–Oeschger event) وتعرف اختصاراً (D-O) (سنختصره بالعربية ايضا د-ا)، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى العالمين في علم المناخ القديم (palaeoclimatology) ويلي دانسغارد (Willi Dansgaard) وهانس اويشغر (Hans Oeschger). ويعتقد أن لأحداث دانسغارد-اويشغر دورة تصل إلى 1470 عاماً تفصل بين أحداث د-أ كمعدل لتعود بعدها الظروف الجليدية. في السبعين ألف سنة الماضية كان هناك 20 حدث د-أ.
يعتقد أن أحداث هاينريش الأكثر تطرفاً كانت قد حصلت في الفترة بين 50 ألف سنة إلى 90 ألف سنة من الآن ومثلت ذروة العصر الجليدي. وقد قطعت تلك الفترة بعشرة أحداث د-أ على الأقل، ثم حدث آخر حدث د-أ قبل 22 ألف سنة واستمر حتى نهاية العصر الجليدي الأخير وكانت نهاية العصر الجليدي معه.
كيف حصل العلماء على كل هذه المعلومات؟ هناك سجل ثمين لجميع التغيرات المناخية الكبرى ويحمل في طياته الكثير من المعلومات التي يمكن تحليلها حول ثنائي أوكسيد الكاربون، فترات الاحترار وانخفاض الحرارة وغير ذلك وهو الطبقات الجليدية في جرينلاند وشمال الأطلسي.
تجدر الإشارة إلى أن تلك الأحداث رغم تطرفها الشديد وقوتها غير أن التغير المناخي اليوم يفوق حدود هذه التغيرات الطبيعية بأضعاف المرات، فمثلاً الزيادة الحاصلة في ثنائي أوكسيد الكربون في الجو بالسنوات العشر الماضية فقط اليوم تبلغ ذروة ما يسببه حدث هاينريش ولو أخذنا الزيادة الكلية في ثنائي أوكسيد الكربون لوجدنا أنها تفوق ما يسببه حدث هاينريش بأضعاف.
جولة في الأرض أثناء العصر الجليدي وتحت أحداث هاينريش
لطالما فتكت أحداث هاينريش بمناخ الأرض مسببة فترات شديدة البرد مثلت السمة الطاغية للعصر الجليدي. وتعد أحداث هاينريش طريقة مهمة لتأريخ حقب العصر الجليدي بحسب الاحداث الستة وما يتخللها من أحداث د-أ.
في الحدث هاينريش 5، نجد مأوى منعزل وحيد في هولندا قبل 48 ألف سنة لكن سرعان ما حل دفء جزئي جعل مجموعات من البشر تغزو القارة الأوروبية وتستبق المجاميع الأخرى لأوروبا. لطالما كان المناخ المانع الرئيسي للاستيطان في أوروبا وكانت تلك الحقبة هي إيذان من المناخ بذلك. نجد حالة أخرى خلقت فيها رغم البرد الشديد الناتج عن هاينريش 3، ملتجئات في جنوبي سيبيريا بين الفترة الواقعة قبل 30 ألف و25 ألف سنة والتي قد ترتبط بشكل ما بأحداث د-أ 2 و3.
أحد أكثر أحداث هاينريش قسوة كان الحدث السادس، والذي وقع قبل حوالي 67 ألف سنة من الآن. يرتبط بهذا الحدث انخفاض عالمي في درجة الحرارة يصل إلى 13.6 درجة سيليزية. ويمتد هذا الانخفاض بين 75 ألف سنة إلى 67 ألف سنة. كما أن هذا الحدث كان الأطول عمراً.
دخول المياه الباردة إلى البحر المتوسط نتيجة الثلوج القادمة من الشمال، يتسبب بانخفاض التبخر وبالتالي انخفاض سقوط المطر في بلاد الشام والشرق الأوسط بشكل عام، وهذا ما حدث في أحداث هاينريش 4 و5 و6 حيث تحولت منطقة الشرق الأوسط إلى صحاري. في الفترة الواقعة بين 67 ألف سنة و59 ألف سنة كانت المنطقة تكاد تكون غير قابلة للعيش نظراً لشدة الجفاف فيها.
يقع العصر الجليدي الصغير بين هاينريش 1 و2، أي بين الفترة الواقعة قبل 23 ألف سنة إلى 16.5 ألف سنة من الآن. وكانت أقسى تأثيراتها على شمالي أوروبا، مختزلة معظم بقاع شمال الألب وشمال جبال البرانس لتكون صحارى قطبية فحسب. المواقع إلى الجنوب من صفائح الجليد الضخمة كانت بالكاد تضم القليل من الغطاء الخضري أو لا تغطيها أي خضرة. جميع الأراضي الممتدة من بريطانيا حتى بولندا كانت غير قابلة للعيش. أما في شرق أوروبا ووسطها، فرغم أن المفترض أن تلك المنطقة يجب أن تتبع سابقاتها، غير أن ظروفها كانت أفضل بقليل، حيث كانت تغطيها أشجار الصنوبر وأشجار أخرى مقاومة للبرد في بعض الجيوب المعزولة. بالاتجاه شرقاً نحو روسيا، نجت الغابات المحاذية لوديان الأنهار، وفيما عدا ذلك كانت هناك سهوب مفتوحة أو سهوب-تندرا. وجدت في تلك المناطق في روسيا مواقع تخييم وسكن عديدة للبشر من تلك الحقبة. آسيا الصغرى كانت سهوباً على الأغلب وشبه صحارى، وهكذا كان الحال في العراق وسوريا وغرب إيران. الجفاف والصحاري القاحلة كانت هي السمة البارزة لجميع أراضي شرق المتوسط بين هاينريش 1 و2 كما ترشدنا الأدلة من قاع البحر الميت.
كان آخر حدث هاينريش قد حصل قبل 16500 سنة من الآن، حيث انهارت أجزاء كبيرة من الحاجز الجليدي الكندي وتبعت ذلك انهيارات أخرى. ليعقب ذلك فترات احترار وتزايد في غازات الدفيئة لينتهي العصر الجليدي بحلول 14500 سنة قبل الآن ولتبدأ الشتاءات الدافئة حتى في بقاع الأرض الشمالية التي لم يكن من الممكن العيش بها مثل أجزاء شمالي أوروبا. تعرف حالة الدفء الأخيرة تلك ببولنغ (Bølling) نسبة إلى الخث (طبقات أولية من الفحم تحت الأرض) الدال عليه والمكتشف في بحيرة بولنغ بالدنمارك.
المصادر:
Brooke, John L. Climate change and the course of global history: A rough journey. Cambridge University Press, 2014.
Burroughs, William James. Climate change in prehistory: The end of the reign of chaos. Cambridge University Press, 2005.
راجعت المقال لغويا ريام عيسى وتم نشره في مجلة العلوم الحقيقية العدد 50 شهري يوليو-اغسطس 2022